الشروكفوبيا.. محنة مواطن ام لعنة وطن

مؤيد بلاسم العبودي

مساء اليوم، وبينما كنت – كأي اعرابي يحاول اللحاق بسباق العالم الماراثوني الملئ بالمطبات الرقمية – اتصفح موقع الفيسبوك، وجدت ومن دون سابق بحث ملتقى يسمى محاربة التمييز ضد الشروك واعتبارهم ابناء العراق!!!

واخر باسم الحملة الوطنية لمكافحة الشروك والمعدان.. وثالثة باسم انتبه امامك شروكي..

ذهلت ورب الكعبة حتى كانت كل علامات التعجب والاستغراب والاستفهام والاعراب تتقافز على فضاء بصري وتسد بزحامها المجنون كل فضاءات الرؤية، وكانني اعيد اكتشاف هويتي للمرة الاولى منذ عصر العم اوتونبشتم (الشروكي) السومري..

 كانما الشروك مجموعة هنود حمر تسعى منظمات حقوق البشر الى الحفاظ عليهم او تستجدي لهم تواقيع الشفقة للمحافظة على كرامة لعب بها كتاب السلاطين كرة قدم للمرة المليون بعد الالف السابع لاسطورة جدنا كلكامش عليه السلام – والذي اثبت العلامة عالم سبيط النيلي رحمه الله انه كان موحدا.. بل واعطى الادلة الرقمية والعلمية والمنطقية على انه غزا الفضاء..

او كانما هم غريبين عن هذه الارض التي مرت عليها خيول كل افاكي العالم.. ولم تقتلعهم من جذورهم المغرسة في العمق حتى اخر لوح طيني..

وهنا دقت ساعة البحث، وطفقت اطرح على نفسي اسئلة بنيوية الدلالات عن كيفية وصولنا الى هذا المستوى من التسافل في الفكر الاجتماعي..

ايحتاج الشروكية الى عطف احد!!

ام يساوم على وطنيتهم وعراقتهم لقيط من هنا اومستوطن من هناك!!

أ في عراقية جنوب الله (كما يسميه شاعرنا المبدع حسين القاصد) شك.. ام انكم يا ناس متوهمون!!!

أ يحتاج احمد مطر وبدر شاكر السياب وجاسم العبودي وفهد وفؤاد الركابي والشيخ علي الشرقي والسيد مصطفى جمال الدين..الى منة عطف من احد!!!

لقد جئتم اذا شيئا.. تكاد سماوات العراق يتفطرن منه وتنشق له جبال كردستان وتتكرب نخلات السماوة وينشف عليه دمع الغراف والدجلتين ويرمي شط العرب بعقاله وتنكسف له عيون الشمس.

أ هي مشكلة حقا.. وتهمة وحوبا كبيرا ان تكون من بني عبد القيس او بني هلال او بني لام او خفاجة او بني طئ او جشعم او عبادة او مالك او السواعد او بني وائل او كنانة وتميم وبني زيد والبو محمد وامارة عبادة وامارة كعب وامارة ربيعة؟

ثم اين ماكان يروى من فلكلور العراق الذي اذا اراد ان يمتدح شخصا قال نه (كانه خيال المنتفج) لان واحدهم كان يشتهر انه يانف بشموخ صقور السماوة وشجاعة اهل ذي قار وكرم العمارة عن احفاد الموالي الذين حالنا واياهم مثل – رمتني بدائها وانسلت -.

من غيرنا حمل حطب نار ثورة العشرين.. في الرميثة وسوق الشيوخ والسماوة والناصرية والديوانية والرارنجية...؟؟ من غير الشروكية من علم الاخرين الحسجة واوزان الشعر الشعبي وادب المضايف وسنن العشاير ومواويل الريف؟؟

 من اين تعلم الاخرون الافكار التحررية وايديولوجيات الاحزاب السياسية من اقصى اليمين الى اقصى اليسار..!!

وماذ سيتبقى من ثقافة العراق من شعر وادب وذوق وفن.. بدون الجنوب؟؟

وماذا يكون العراق بدون الشروك..

من اين تاتيه العروبة.. اذا فقد نسبه عند ابناء الجنوب؟؟

وكيف يوصف بانه عربي.. والعرب العاربة فيه يشنع عليهم ابناء المستعربين من بقايا الترك والديلم وذيول التتار ومهجري القفقاس والشيشان والشركس؟؟

ضحكت حتى ما عاد الضحك يختلف عن البكاء..

هل ان حقبة صدام ابن ابيه فرمتت ذاكرة الاخرين ام جعلت عيونهم عوراء..

ترى أ كان هناك من يصدق روايات غوبلز البعث ودعايات مسيلمة الصحاف حين اخذت صحفه الصفراء تنشر سلسلة مقالات تنتقص من مدن الانتفاضة الشعبانية غداة آذار عام 1991 سلسلة مقالات في صحيفة الثورة العفلقية بعنوان (لماذا حصل ما حصل) والتي تصف سكان الجنوب بأنهم هنود جلبهم محمد القاسم مع الجواميس ولذلك ثاروا على حكم صدام ابن ابيه الذي لا تجوز الثورة عليه لانه جاء بصك مصدق من السماء وكتب المصحف بحبر من الدماء!!

ايها القلم ترفق علي...

فقد سرقت منا كل الاشياء.. ولم نجن غير اطنان من الشتائم الالكترونية تاتي من الطلقاء..

 وازنام البعثفاشية وابواق التكفير الجاثم فوق صدر من كانوا يدعونا (البوابة الشرقية للامة العربية)

.. ولم يكن لنا سوى واجب جبهات القتال التي تبدا ولا يكون لها انقضاء.. ولم تك لنا هوية الا (بيريه) مثقبة لكثرة مرور الرصاص المجنون في ساحات القتال..

سرحت بي الذاكرة الى صديقي طيب الذكر فاضل الجبوري من اهالي ناحية القاسم حين اوقعته قرعة الاسماء في القسم الداخلي بين طلاب كلهم يسكنون في محافظة الناصرية، فقرر ابوه ان يسكنه في شقة مؤجرة لوحده – رغم غلاء الايجار – لكي لا يختلط ابنه بالشروكية!!

ولكن عندما اخبرهم فاضل عن طيبتنا التي لم يالفها بين اهله، صار والده – اسال الله له دوام العافية – من اكثر اصدقائنا تعلقا بنا. وكان الحاج ابو فاضل يبتهل الى الله ان (يعثر صدام) ومن حاول دق اسفين الفرقة بين ابناء العراق.

الحقيقة.. انها تجل واضح لاسلوب ورثه ابن ابيه عن اسلافه الانجليز، ومصداق لطريقة فرق تسد..

حيث ان المجتمع العراقي كما يقول فقيه علم الاجتماع علي الوردي يتشظى ويتشرذم دوما، كانه يوغلينا لا تتكاثر الا بالتقسيم..

فسكان المدينة يسمون سكان الريف بالعرب جول او العربان او البرانيين، وسكان الريف يطلقون نفس التسمية على اهل البادية، بينماالاخيرون يسمونهم بــ (الشاوية) وهلم جرا!!

ولوكنت(عُربيا) مثلي قذفتك الاقدار لكي تولد في المدينة، فستحمل التسميتين اينما حللت، فابناء الولاية سينظرون اليك على انك عربي، وابناء الريف سيحسبونك من اهل الولاية... وستعيش في جدل هوية داخل مدينتك وبين اعمامك... وكانك هنبقة، ذاك الاعرابي الذي كان يضع على عنقه قلادة من الخرز، وكلما سأله الاخرون عن سبب وضعها، كان يجيبهم لكي اعرف نفسي واميزها (ويا له من وعي مبكر بالهوية)، وذات ليلة سرق احد اشقائه الخبثاء قلادته تلك، لما استيقظ هنبقة في الصباح، بحث عن (هويته) فوجد اخاه يلبسها، فقال: يا اخي.. انت انا.. فمن أنا؟!!

وعلى ذكر اولاد الولاية، نقل لي صديقي طيب الذكر السيد علاء محمد راضي – قصر الله غربته في برزبن – انه بعد 2003، تقرر اجراء انتخابات في مدينة كربلاء، ولان مجتمع كربلاء يتكون من ولد الولاية والبرانيين من ابناء القرى والنواحي المحيطة بها مثل طويريج التي ينتمي لها السيد، ومن بعض المهجرين والمهاجرين من ابناء محافظات الجنوب (الشروكية)، ولان البرانيين والشروكية اكثرية، تقدم بعض وجهاء ولد الولاية بطلب الى ممثل العم سام في المدينة بالغاء ترشيح البرانيين والشروكية باعتبارهم ليسوا من اهل المدينة، ولما تناهى الى سمع السيد وبقية الناس ذلك، خرجوا بتظاهرة كبيرة يحملون لافتات كتب عليها (رحلوا الامامين العباس والحسين الى الحجاز لانهما ليس من ولد الولاية)..

ومحدثكم، واحد من الالاف الذين دفعوا ثمن انتماءهم الجنوبي، فقد فوجئت حين تم قبولي في كلية اللغات عام 2003، بجامعة بغداد، بانهم قبلوني في قسم اللغة الفرنسية، رغم ان معدلي في السادس الادبي 90%، بينما تم قبول بعض الطلبة ممن يحملون درجات اقل في قسم اللغة الانجليزية، ولما اعترضت على هذه القسمة الضيزى، دلوني على باب عميد الكلية، ولان صفوفا طويلة من (الواسطات) الذين تعاركت على اكتافهم الرتب، قررت ان وقوفي في الطابور عبث، فدلفت الى مكتب معاون العميد راجيا النظر في قبولي بالقسم الانكليزي، واني مستعد لاي اختبار لغة، في البداية رحب بي السيد معاون العميد، وما ان عرف من لهجتي الجنوبية انتمائي المكاني، قال لي (زين وقبلناك باللغات.. انتم اهل الناصرية كلكم مخربين.. البارحة بالتلفزيون كشفوا الشبكة اللي اغتالت زين الشباب وكلهم من عدكم!!)..

الموقف الثاني حدث عام 2006 حينما قدمت الى معهد الخدمة الخارجية، وايضا كان انتمائي الى (الشراكوة) سببا في منعي من القبول به، رغم كوني اجتزت امتحانات اللغتين الانكليزية والفرنسية، وقابلت ثلاثة وكلاء لوزير الخارجية، واعطوني رقم تسلسل وبطاقة مراجعة، لكن.. اضافوا درجاتي ورقم تسلسلي الى اسم اخر.. وذهبت احتجاجاتي ادراح الاثير وهو ينقل لي صوت الموظف الكردي في الخارجية حيث يقول: شنو.. الشروكية تريدون تجون للخارجية.. هي هم عايزة..

الموقف الاخير.. حدث حين قدمت الى الطيران العسكري.. ولاني اجتزت كل الاختبارات الطبية والبدنية، كنت متاكدا من نجاحي، لكن عنواني.. كان سببا في ان يختلق (الطبيب عمار عبد السلام) علة في افشالي بحجة وجود (وحمة) في ساقي اليسرى، وحينما سالت بعض الطيارين عن ذلك..أجابوني بان المدعو عمار..يكره الشروكية..ولايوجد مبرر غير هذا لتصرفه، لانه كما اوضح احدهم، بعض الطيارين يوجد لديهم وحم في اجسامهم لا يؤثر على اداء مهمتهم!!

ومن المضحك المبكي، ان كل دول العالم كانت ولا زالت تحاول ردم الهوة الثقافية والعنصرية بين ابنائها وتدعيم ثقافة الوحدة الوطنية، الا بلد الاستثناءات المستمرة، فقد كان استثناءا في كل شيء، وربما لا زال!!

فقد قامت سويسرا وماليزيا ودول متعددة اخرى بعمليات منظمة لتكوين هوية وطنية بديلة عن الهويات الاثنية التي كانت تمزق مواطنيها، بينما كان طاغية العراق يقوم بعملية دمج قهري بين كل مكونات الشعب العراقي من خلال صب جميع الاثنيات في بوتقة الصهر الثقافي لتتشرب اخلاق ولهجة وعادات وتقاليد صدام حسين..

فالكرد تعرضوا الى استلاب هوية قومي وابادة متزامنة ثقافية وبشرية، وكانت افواه خبيثة تحاول النيل منهم بطريقة النكتة وتصويرهم اغبياء، والامر ذاته انعكس على قبيلة دليم بعد محاولة ضابط طيار ينتمي الى تلك القبيلة (المرحوم محمد مظلوم) للقيام بانقلاب على السلطة السابقة، بينما كان شرياني العراق الوطنيين وهما الاكراد الفيلية وعرب الجنوب يتعرضان الى ابشع انواع التصفية، فقد تم تسفير عشرات الاف العوائل الفيلية الى ايران بحجة انهم تبعية ايرانية، ومن المرجح ان النظام السابق كان يتحجج بتلك الحكاية السخيفة، لتمرير غرضه الاصلي وهو التخلص من اثنية كانت وطنية شرسة، خرجت الالاف من المناضلين اليساريين الى جانب كونها تشتمل على اغنى عوائل بغداد، بالاضافة الى موقف ابناءها المشرف ضد انقلاب شباط عام 1963 م، اما الجنوبيون، فقد كانت طيبتهم وشجاعتهم وحماسهم وبعدهم عن الطائفية سببا في محنتهم مع الاخرين، واصل تسمية الشراكوة كما تطرق إليهم الدكتور علي الوردي، يعني سكان حوض دجلة، أي القسم الشرقي من وادي الرافدين، اي العمارة والكوت امتدادا الى البصرة، لذلك يدعونهم (شراكوة) أي الشرقيين، بينما سكان حوض الفرات يشغلون القسم الغربي من العراق (غرباويين)، وقد الحق العفالقة والطائفيون الناصرية واحيانا السماوة (رغم كونهما من محافظات الفرات) جهلا او محاولة في تعميم التسمية على كل الجنوب.

اخبرني الاستاذ عمران العميري ان اصل التسمية كانت تطلق على اهالي جصان وبدرة وثم شملت العمارة..

بسبب ان اهل بغداد كانوا – كبقية اهل المدن – ينسبون الناس الى محل سكناهم وليسوا مثل ابناء العشائر الذين ينسبون الى عشائرهم.

ومن ثم تطور المصطلح بعد مجئ المرحوم الكريم قاسم وتخطيط مدينة الثورة (الصدر حاليا) حيث كان اغلبهم من البسطاء الكادحين ومن انصار الزعيم الراحل رحمه الله، وقد كان الحقد الذي وجه لاهالي الثورة وزعيمهم الزاهد من بعد ذلك مثل قول الشاعر:

قضية الدور جرت.. بيني وبين من احب

لولا مشيبي ما جفت لوجفاها لم اشب

فالبعض يقول ان تعلق اهل الثورة  والصدرية وغيرهما من المناطق الشعبية بالزعيم رحمه الله ادى الى عقوبات نفذت فما بعد باثر رجعي،

واخرون يقولون لولا عبد الكريم قاسم لما كانت (الثورة الشروكية) جزءا من بغداد!

على كل حال، فقد كانت هناك مرادفات ودلالات تصاغ بنية خبيثة دائما، فقد كان سائدا ان كل شروكي شيوعي، وكل شيوعي شعوبي!!

وسيء الحظ طبعا من تجتمع فيه كل تلك الصفات!!

فيروى عن استاذنا الموقر طارش العتابي وهومن اساتذة اللغة الانكليزية المبدعين في مدينة الشطرة، حينما تقدم للتعيين بعد تخرجه في نهاية الستينات، دخل على احد المسؤولين المقربين من السلطة البعثية الجديدة، للمقابلة، وتفاجئ بعدد من الاضابير – وهي ظاهرة بعثية بامتياز – امام درج المسؤول، فقال له: لك طارش.. تريد تتعين وانت تجمع تلث شينات.. شيعي وشروكي وشيوعي..!!

وقد تزايدت حملات الاستخفاف باهل الجنوب الطيببين والبسطاء مع تزايد معارضتهم لنظام البعث الذي لم يستطع تجريدهم من عروبتهم، ذلك لانهم قبائل موغلة في عمق الانساب العربية، حيث اني في بحثي عن قبيلة بني عبد القيس وجدت اكثر من عشرين حديثا نبويا ورد فيهم في كتب الحديث المعتد بها، باكثر من ستين طريقا،وهم اول القبائل العربية التي اعلنت اسلامها وتحولها من المسيحية سلميا في عام الوفود على يد النبي محمد (ص) حيث شكوا اليه بعدهم عنه وصعوبة مجيئهم اليه كل عام بسبب كفار مضر، وكانوا يسكنون بطائح العراق كما تروي كتب الحديث والتاريخ.

 ولان الانظمة الشمولية تحاول الصاق كل التهم المشينة في اعدائها، بالاضافة الى كون اهل الجنوب حاضنة اساسية لكل الافكار التحررية والثورية، فقد كانوا يمثلون الثقل الجماهيري للحركات اليسارية والاسلامية والقومية المعارضة للنظام الشمولي بمختلف اوساطها، حالهم حال اشقائهم الكرد الفيلية، الذين صبت عليهم لعنة (التبعية) فجردوا من وطنهم واملاكهم واموالهم بلا ذنب اقترفوه ولا اثم ارتكبوه..

فتفتقت اذهان اساطين البروبغاندا العبثية عن استغلال تسمية الشروكية لاهل الجنوب، والصهاينة الخونة العملاء (العصاة) للاكراد، و(العجم) للكرد الفيلية وبعض عوائل النجف وكربلاء والكاظمية، مع ترديد واختلاق النكات عن اهالي الرمادي، في صورة نكتة مضادة لاشغال العراقيين عن النكات السياسية ضد رموز النظام السابق، حيث وردت نكتة (دليمي فتحوا مخه لكوا كردي معاد) ولكم ان تتصوروا مقدار الاساءة التي وجهت الى هذه المكونات العراقية الكريمة..

ويمكننا ان نصنف الفوبيا (الكراهية او الخوف من) اهل الجنوب الى قسمين، صنف يصيب بقية العراقيين من غير الجنوبيين، وصنف اخر يصيب نفس الجنوبيين (الشروكية)، حيث انعكست البروبغاندا الخبيثة التي تستهدف ابناء الجنوب على افكار بعض الناس البسطاء من محدودي الثقافة والوعي، وبعض السياسيين والاعلاميين المشربين بالحقد ضد اهل الجنوب، كما هي حالة النظام السابق، وبعض اقطاب المعارضة الحالية من مسلحين – حيث تم استهداف سيارات الشروكية وكراجات النقل – وسياسيين اعتلوا منصة السياسة في خريطة طائفية ومناطقية وفي زمن طارئ.. والاعلاميين الارهابيين.. الذين يصفون الشروكية بانهم عبارة عن رعاة جاموس وعبدة قبور..

اما الفوبيا الداخلية، فتمثلت في محاولة بعض الاشخاص الشروكية بالتبرئ من عقدة التهمة التي ولدوا وهي ملتصقة بهم دون ان يعرفوا لماذا، فكان تعاملهم معها عن نوعين:

النوع الاول من حاول ان يتبرا من لعنة الجيوبوليتيك التي قذفته في مدن الشعر والثورة والفقر، كما يطلق على المناطق الجنوبية ومدينة الصدر، ومصداق ذلك طالب كان معنا في الكلية، كان يسكن في بيت اخته بمنطقة الخضراء، وحين يسال عن محل سكناه، يدعي انه يسكن الخضراء، وحين سالته عن سبب ذلك، قال لي: حتى اصادق الفتيات، فانت تعرف (بنات بغداد) ما يصادقن محافظات!!

وربما تحول ذلك الهوس بالهروب من الهوية الجنوبية الى سلوك، يشبه في كثير من تفاصيله قصة الغراب في قصص كليلة ودمنة، حين حاول ان يقلد مشية الطاووس، فلما راى مشية النسر قلدها، فلم يفلح، فلما اراد الرجوع الى مشيته الاولى (اضاع المشيتين)!!

وممن اضاع (المشيتين) احد المسؤولين البعثيين في الشطرة، فقد كان (الرفيق الاستاذ) خير الله خلف الاسدي يحاول ان يهرب من لهجته الجنوبية، تشبها بصدام حسين، فكان يتنطع ويتصنع الحديث بلهجة اهل العوجة، فاذا ضاقت به المفردات و(طفرت) منه مفردة، تكلم باللهجة البغدادية، وخلطها لا اراديا بلهجة الجبايش، فيكون كلامه عبارة عن سلسلة من التهريج لا تنتهي و(بخيت) من يصبر من الضحك على كلام ذلك الرفيق!!

اما النموذج الثاني: فهم الذين يحاولون يسخرون من انفسهم، من البيئة التي ولدوا فيها، لاجل التكسب اوالكوميديا او امتاع الاخرين، كما يفعل اغلب (ممثلينا) في الهرج الذي يسمى مسلسلات ريفية، حيث يصورون ابناء الجنوب عبارة عن اميين لا هم لهم الا الطبل والمواويل، يثقفهم سياسيون غرباء عن المنطقة (وهذا خلاف الواقع حيث ان اغلب المنظرين السياسيين والادباء هم من ابناء الجنوب، بل اكاد اجزم ان خمسة وسبعين في المائة من مثقفي بغداد ينحدرون من اصول شروكية) او تصويرهم على انهم شرطة وعرفاء يتصنعون المواقف المضحكة بصورة فجة تقرب من تصرفات القراقوزات. والحال انه لو تم انجاز عمل فني بسيط يستهزئ باي مكون اخر اوشعب اخر مثلما اسرف الممثلون والكتاب والمخرجون في الاستهزاء بــ (الشروكية) لقامت الدنيا ولم تقعد ولتحول الموضوع الى تهديد (للوحدة الوطنية) ولقدم الممثلون والكتاب والمخرجون واصحاب الفضائيات الاف الاعتذارات..

وربما كل ذلك ما دفع شاعرنا المبدع الاستاذ عريان السيد خلف - متنبي الشعر الشعبي- الى ان يرفع صوته بعالي الصوت ويقول كلمته التي اصبحت شعارا:.. انا شروكي انا شروكي.. انا الما بدلت طبعي ولا صرت لوكي.

يا ترى.. متى نتحرر من كل تلك التسميات الهامشية وننعم بروح مواطنة حقيقية؟؟

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 20/تشرين الأول/2010 - 12/ذو القعدة/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م