كنا نعلم، أنه ما من حكومة تتشكل في العراق في عهد الوصاية
البريطانية الاستعمارية، إلا وتقترن بموافقة حكومة صاحبة الجلالة ملكة
بريطانيا العظمى، عبر سفيرها الحاكم بأمره في بغداد. ونعلم أيضا أن
حكومات العراق التي استلمت مقادير السلطة بعد حكم بريمر المباشر، قد
تمت أيضا بتزكية وقبول الولايات المتحدة الأمريكية، ومباركة قادتها
العسكريين في بغداد.
كان ذلك أمرا مفهوما وعاديا جدا في تلك المرحلة من التاريخ، لكن ما
هو خارج المعقول، أن يتكرر ذلك بعد أن نال العراق استقلاله مرتين، مرة
من الهيمنة الاستعمارية البريطانية في خمسينيات القرن الماضي، ومرة وإن
لم تستكمل من الهيمنة الأمريكية المباشرة. حيث تحاول دول الجوار
العراقي التعامل مع العراق كمحمية تملي عليها ما تشاء من سياسات، تخدم
مباشرة مصالحهم القومية والطائفية والسياسية والاقتصادية.
وما يثير المرارة أكثر، أن أغلب السياسيين العراقيين قد اختاروا
التعايش مع تلك السياسات، ولم يروا حرجا باقحام قادة تلك الدول في
التفاصيل الداخلية للشأن العراقي، ومن الطبيعي أن تشرع أبواب تلك الدول
على مصارعها، لاستقبال السياسيين العراقيين الساعين لاستلام قيادة
الحكم في العراق.
المثال الأقرب لتلك الشخصيات السياسية العراقية التي اختارت أن تقحم
دول الجوار في الشأن العراقي الداخلي هو السيد أياد علاوي وعلى خطاه
سار آخرون. فزياراته المنكوكية الى السعودية ومصر وسوريا والأردن
والكويت والامارات العربية وقطر وغيرها، شكلت التعبيرالأوضح للهاث غير
المعقول لاطلاع قادة تلك الدول بتفاصيل الشأن الداخلي، والتباحث فيما
ينبغي أو لا ينبغي رؤيته في المشهد السياسي من تحالفات وسياسات آنية
ومستقبلية.
حالة مثل هذه لم يحدث لها مثيلا في السياسة الدولية، لا بين الدول
النامية ذات السيادة، ولا بين الدول الأوربية الصناعية التي ترتبط
بعلاقات تعاون اقتصادي وسياسي وعسكري وطيد مع بعضها البعض. فالسيد
علاوي أنفق من الوقت خلال زياراته واقامته في تلك الدول لمناقشة موضوع
تشكيل الحكومة، أكثر مما أنفقه في الوطن مع زملائه قادة القوائم
الانتخابية، لمحاولة الوصول إلى حلول لهذه المشكلة في حين أن الحل يكمن
في الواقع العراقي وليس في أي واقع آخر. لا يوجد في قاموس السياسة
مفهوم السياسي العابر للحدود، بل توجد شركات ذات مصالح عابرة للحدود هي
الشركات فوق القومية، وما يحاول السيد علاوي وضعه في جدول أعمال
الحكومات العراقية هو اعادة العراق إلى أجواء الخمسينيات من القرن
الماضي، عندما أريد للدول العربية أن تدور في فلك مصر عبد الناصر،
وتتوحد معها باعتبارها قلعة القومية العربية.
لقد فقدت القائمة العراقية مصداقيتها كقائمة ليبرالية وعلمانية،
وبات من الضروري أن يفكر الطامحون بالسير بالعراق في طريق الديمقراطية
والحكم المدني أن يفكروا بشخصيات أخرى، تخرج العراق من عنق الزجاجة
الطائفية واحلال الوحدة الوطنية العراقية بديلا لها.
ليست القوائم الانتخابية الأخرى بريئة تماما من المنحى الذي اتخذته
القائمة العراقية، فتحالف السيد الحكيم يسلك الطريق ذاته في محاولة منه
لزج القوى الاقليمية في عملية تشكيل الحكومة العراقية. فها هو يباشر
جولته الثانية إلى الدول المجاورة، وأيضا لا نعرف الغرض منها، ولا
المواضيع التي ناقشها مع مضيفيه العرب والايرانيين. ولم تكتفي قائمة
الحكيم بزيارات رئيسها إلى الدول المجاورة، بل تلاه السيد عادل عبد
المهدي بزيارة مماثلة إلى مصر والتحدث مع المسئولين هناك. وأيضا لا
نعرف الغرض من الزيارة، وما الجديد الذي حمله إلى السيد حسني مبارك
الذي تواضع واستقبلهم مخالفا بذلك العرف الدبلوماسي.
لم يتأخر المالكي عن لعب دوره في هذه الزيارات، فهاهو يبدأ جولة الى
دول الجوار العراقي، وهو الذي تحدث أكثر من مرة منتقدا زيارات
السياسيين العراقيين إلى دول الجوار، كونها محاولة للتأثير على القرار
العراقي لتحقيق مغانم على حساب المصلحة الوطنية العراقية. وعلى عكس
زيارات المسئولين الآخرين للدول العربية والأجنبية، تمخضت زيارة
المالكي إلى سوريا عن اعادة العلاقات الطبيعية بين البلدين لما فيه خير
البلدين، وهو أمر يخدم بالتأكيد مصلحة شعبينا، بعد أن بقت سوريا لعدة
سنوات محطة لعبور بهائم التكفيريين القتلة، زارعي الموت في صفوف
الأبرياء من النساء والرجال والأطفال.
وبانصياع المالكي للضغوط الاقليمية بفتحه قنوات المناقشات حول موضوع
تشكيل الحكومة مع سوريا وايران وربما مع دول أخرى، نكون قد وضعنا
أرسينا الارادة العراقية المستقلة على قاعدة رخوة، هذا اذا لم نكن قد
تخلينا عنها كلية. واذا ما استمر توازن القوى السياسية في العراق على
هيكليته الحالية، حيث للقوى الدينية الدور الحاسم في ادارة الصراع
السياسي في البلاد، فان مستقبل استقرار العراق السياسي والاقتصادي
والاثني والطائفي يظل رهنا بالتفاهمات التي تجريها الدول الاقليمية
النافذة وفق النموذج اللبناني، وتكون طهران والرياض بيضة القبان إلى
أجل غير معلوم. |