الموازنة الدقيقة بين المادي والمعنوي

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

 

شبكة النبأ: غالبا ما تتراوح مكانة الإنسان وشأنه بين العلوّ والتدنّي على المستويين المادي والمعنوي، فربما تجده في مرحلة ما من حياته ضعيفا فقيرا مسالما ولا مكانة له بين أقرانه من حيث الجانب المادي، لكن ربما نراه في مرحلة أخرى من مراحل حياته قويا وذا شأن مهم بين الناس سواء من الناحية المادية او المعنوية.

وقد تتناوب مكانة الإنسان المعنوية وقدراته المادية صعودا وهبوطا على مدى المراحل العمرية التي يمر بها، ولذلك ينبغي أن يبقى متوازنا وذا حكمة ثابتة وأفق بعيد النظر لكي ينجح بحياته في الجانبين المادي والمعنوي أيضا، وهو أمر يبقى متعلقا بمدى قدرة الإنسان على مراقبة نفسه وقيادتها بصورة متوازنة.

في هذا المجال يقول سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) في كتابه الثمين الموسوم بـ (حلية الصالحين):

(إنّ النفس الإنسانية دقيقة جدّاً وسريعة التأثر إلى درجة كبيرة، فهي كالنابض الذي يهبط لأدنى ضغط ويرتفع بارتفاعه بسرعة. مثاله: لو تبسّمتَ في وجه شخصٍ ما، فسوف تنبسط أساريره ويتعامل معك باتّزان، ثمّ لو عبّست في وجهه بعد ذلك، تراه يفقد وعيه ويختلّ توازنه ولا تعود معاملته لك كما كانت آنفاً، ولا يعذرك أو يحتمل وجود سبب ما لعبوسك).

وهذا الأمر يتطلب سيطرة على النفس وتدريبها على حسن الطموح والتفكير معا، وينطبق الحال على صغريات الأمور أيضا، أي أن السلوك البسيط يتطلب نفسا متوازنة وكذا الحال بالنسبة للسلوكيات الأخرى، فضبط النفس والمساك بزمامها من مواصفات الإنسان المؤمن والناجح في حياته.

لذلك غالبا ما يؤكد علماء النفس والمختصون على أهمية أن تكون نفسية الإنسان متوازنة وغالبا ما يؤكدون على أهمية الترابط بين حجم المسؤولية الملقاة على عاتق الإنسان وبين أهمية قيادته لنفسه، بمعنى أن القائد السياسي لا يشبه في مهامه ومسؤولياته المواطن العادي، ولذلك فهو مطالب دائما بقدرته على التحكم بنفسه ونوازعه وليس العكس، لا أن تزيده السلطة والنفوذ تجبّرا وتعاليا على الآخرين، وهو ما يحدث فعلا للسياسي الذي يفشل في التحكم بنفسه وتوازنها، يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الموضوع في كتابه نفسه:

(الإمام السجّاد يطلب من الله تعالى في الدعاء أن يمنحه التوازن بأعلى  مستوياته؛ ولذلك يقول: ولا ترفعني في الناس درجة إلاّ حططتني عند نفسي مثلها).

فإذا كان الإمام السجاد عليه السلام يخشى السمو الى هذه الدرجة ويطلب من الله تعالى معادلة كفة الرفعة والحطة، فكيف الحال بالإنسان العادي الذي هو أصلا غير قادر على قيادة نفسه إلا بعد جهد وكفاح كبيرين على المستويين الروحي والمادي أيضا، لكن الأمر لا يتعلق بقدرة الإنسان او فشله في هذا المجال، بل الأمر يتعلق بقضية النجاح والفشل في الحياة.

فالقائد السياسي أو أي مسئول آخر إذا فشل في تحقيق الموازنة الدقيقة التي سبق ذكرها، لابد انه يتعرض الى ضغوط النفس التي لا تعد ولا تحصى ولا تنحصر في مجال محدد، لاسيما وأن النفوذ والسلطة والمال تحت تصرفه، إذ أن درجات الكفاح لابد أن تتضاعف ضد نوازع النفس السيئة. 

وكذا الحال فيما يخص الإنسان العادي الذي لا يرتبط عمله بمسؤوليات كبرى، فهو أيضا مشمول بأولية تحقيق التوازن بين متطلبات النفس، وهنا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي على أن: (التوازن مطلوب في النفس وباقي الأمور المعنوية، بل هو أهمّ، لأنّ فقدان التوازن في المادّيات قد يؤدّي إلى تلف الأبدان، أمّا في المعنويات فيؤدّي إلى تلف النفوس، وبالتالي خسارة الدنيا والآخرة).

لذلك لابد أن يتنبّه الإنسان الى نفسه وإمكانية تعرضها الى أمراض كثيرة ربما تقودها الى خسائر كبيرة، مثلما هو الحال مع الأمراض التي قد تدمر الجسد، وهنا يضيف سماحة المرجع الشيرازي قائلا في هذا الصدد: (إذا كان بدن الإنسان بحاجة إلى توازن يحفظ سلامته من أيّ اختلال قد يؤدّي إلى تلف في الكبد أو المخّ أو أيّ عضو من أعضائه الأخرى، فإنّ الأمر مع النفس آكد؛ لأنّه بالنفوس تحيى الأبدان وليس العكس، وبالنفوس يصل الناس للتكامل والرقيّ وليس بالأبدان).

ولعل أكثر الصفات سطوة على الإنسان القيادي أو غيره ممن يفشل في التحكّم بنفسه، هي صفة التكبّر التي غالبا ما تصيبه عندما يحقق بعض النجاحات أو يتولى بعض المناصب التي تمنحه بعض الامتيازات، لكن في جميع الأحوال يبقى الإنسان الفاشل في الموازنة بين متطلبات النفس ضعيفا وفاشلا أيضا.

يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال بكتابه القيّم نفسه: (كم هو ضعيف هذا الإنسان. وإذا كان ضعيفاً إلى هذه الدرجة فما الذي يدعوه للتكبّر؟ هل الثروة والمال والسلطة والجاه أم البدن القويّ، وهذه كلّها قد تزول في لحظة).

ولكن إذا كانت السلطة والقوة والمال والجاه وكل الامتيازات يمكن أن تزول في لحظة، لماذا يبقى بعض الناس لاسيما بعض المسئولين يوغلون بالفشل في قيادة أنفسهم ويفشلون في دحر رغباتهم غير المشروعة ؟

إذن كما يقول سماحة المرجع الشيرازي في كتابه نفسه: (علينا أن ننتهز الفرص لتربية أنفسنا وتزكيتها بالعزم والمثابرة بعد التوكّل على الله تعالى).

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 14/تشرين الأول/2010 - 6/ذو القعدة/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م