تحمل لنا " عصفورة" السياسة العراقية كل يوم أخباراً جديدة تتعلق
بمسارات الديمقراطية الناشئة حديثاً في العراق من خلال الاتجاهات التي
تسير عليها عملية تشكيل الحكومة العراقية، والمراحل التي وصلت اليها
المفاوضات الجارية بين الكتل السياسية، والخريطة المفترضة التي ستتشكل
وفقا لتضاريسها الدولة العراقية في الاربع سنوات القادمة التي يأمل
العراقي فيها ان تكون مرحلة يستطيعون أبّانها تحقيق جزءاً من طموحاتهم
المشروعة والتخلص من الآزمات والمشكلات التي تعصف بهم.
عملية تشكيل الحكومة العراقية، التي وصفها المالكي في أحدث وأخر
لقاء له مع صحيفة كرستيان ساينس مونيتر، السبت 9 اكتوبر بانها " ليست
بالسهلة "، تُشكل تحدياً كبيراً للديمقراطية التي يُراد لها ان تتشكل
في العراق وتتخذ مظهرا ونموذجا يمكن ان يُحتذى في المنطقة العربية التي
تُدار حكوماتها من قِبل أنظمة لاتعرف الديمقراطية الحقيقية القائمة على
مبدأ التداول السلمي للسلطة والتعددية والانتخابات وحرية الاعلام
وغيرها من العناصر والمقوّمات التي تنبني الديمقراطية على أساسها.
الأمر المهم الذي ينبغي التركيز عليه من قبِل الساسة في العراق فيما
يتعلق بهذه الديمقراطية الموعودة هو خطورة المرحلة الحالية التي يمر
بها العراق عموماً والتحديات التي تواجه الديمقراطية خصوصاً. فالعراق
يمر بمرحلة تشكيل حكومة جديدة بعد انتخابات ناجحة ممهورة بدماء وتضحيات
الشعب العراقي، وهي مرحلة حاسمة وحرجة لان الايمان بنتائج هذه
الانتخابات وتسليم السلطة وتشكيل حكومة جديدة يُعتبر احد أهم معايير
نجاح الديمقراطية في العراق.
واذا ما فشل السياسيين العراقيين في تشكيل الحكومة والخروج من
الازمة التي تعصف بسير العملية السياسية فان هذا يعني انهيار مشروع
دولة مابعد صدام التي انبثقت الى الوجود بعد 2003 وهي محمّلة بتداعيات
وتراكمات واعباء سنوات عديدة، ان لم اقل قرون، من الاضطهاد والظلم وحكم
الفئة والطغمة السياسية الظالمة.
والشيء المثير لدى الساسة في العراق هو الاتهامات التي يسوقها كل
منهم للخصم السياسي بعد اختلافهما حول قضية سياسية ما، حيث يبدأ كل
منهما بالقاء التهم نحو الأخر في مناسبة او من دون مناسبة، محاولا
اسقاطه اعلاميا والتقليل من شأنه سياسيا. وقد كثرت " حفلات التهم "
مؤخرا وبعد الجدل الكبير حول الكتلة الاكبر في البرلمان العراقي ومن
لها الحق بتشكيل الحكومة، حيث دفع الكثير من السياسيين، وانطلاقا من
الجدل حول هذا الموضوع، الى اتهام خصومهم بانهم، وان مارسوا تجربة
الانتخابات، لم يؤمنوا بالديمقراطية ونتائجها.
الطريف في الأمر، وربما المحزن في الواقع، ان تصريحات الساسة
واتهاماتهم يمكن ان تنطبق، في معظمها، عليهم أيضا، كانما يمارسون
اسقاطا سايكولوجيا من غير ان يشعروا بتلك الالية السايكولوجية الدفاعية.
فها هي " واشنطن بوست" تنشر في الخامس من اكتوبر الجاري مقالا بعنوان "
اتفاق المالكي-علاوي سوف ينهي الازمة"، اشارت في نهايته الى أن اثيل
النجيفي وهو محافظ الموصل الحالي قد ذكر ان" المالكي سوف يكون نهاية
الديمقراطية في العراق".
تصريح النجيفي هذا يكشف عن عدة أمور تقتضي منا الوقوف عندها مليّا
للحفر والتنقيب والبحث حول هكذا تصريح ينطلق من مسؤول احد المحافظات
بحق رئيس وزارء نفس البلد وهي عبارة تتخللها الكثير من الدلالات
السلبية والايجابية على حد سواء.
فمن سلبيات ومآخذ هذه العبارة انها تشير الى حقيقة هشاشة الوضع
السياسي في العراق وعدم انسجام مكوناته التي تعمل تحت خيمة واحدة، فهذا
الحقيقة السلبية التي نستنتجها من تصريح النجيفي جاءت نتيجة طبيعية
للنظام السياسي العراقي المبني على اساس التوافق لا الديمقراطية
الحقيقة بين مكوناته، فالحكومة تشكل في العراق، وبين يدينا سبع سنوات
من التجربة، انطلاقا من اسس التوافق والتراضي والمحاصصة بين كتله
السياسية وليست على اساس الاغلبية السياسية التي تفوز بالانتخابات.
ولهذا تجد الحكومة، طبقاً لنظام المحاصصة، متكونة من كتل واحزاب ذات
افكار ورؤى مختلفة، وبعضها متناقضة الى حد كبير.
وان كان الأمر على هذا النحو فلا غرابة ان يقول محافظ عن رئيس وزراء
هذا الذي قاله النجيفي بحق المالكي وربما رأينا الاكثر والاعجب من ذلك،
ففي انتخابات مجالس المحافظات عام 2009 وجدنا رئيس الوزرء يقوم بجولات
في محافظات الجنوب لدعم قائمته وفي احدى المحافظات الجنوبية التي زارها
آنذاك رأينا ان محافظ الديوانية محمود الخضيري" الذي ينتمي للمجلس
الاسلامي الاعلى" يتغيب عن استقبال رئيس وزراء بلده، ولاسباب سياسية
بحتة تتعلق بالانتخابات واخلاف رؤى الجانبين وصراعهما للفوز بمقاعد
المحافظة نفسها.
اما الحقيقة الايجابية في عبارة النجيفي فهي على العكس تماما مما
قاله، فالديمقراطية في العراق لن تنتهي ابد خصوصا بعد ان انطلق قطارها
بسرعة بعد سقوط اهم عقبة في طريقه وهي وجود نظام ديكتاتوري شمولي، على
الرغم من ان قطار الديمقراطية الذي انطلق في العراق يتعرض مرة لابطاء
في سرعته ومرة اخرى لتوقف لفترة معينة الا انه في كل الاحوال لا يرجع
ولن يرجع ابداً لنقطة الصفر التي انطلق منها.
وفي نقد النجيفي للمالكي دليل على هذه الديمقراطية الناشئة في
العراق، اذ مجرد وجود مثل هكذا نقد دليل على وجود حرية في التعبير عن
الرأي وهي سمة من سمات الانظمة الديمقراطية في العالم الغربي، ولم يعهد
العراق مثيلها في نظامها السابق، وهو الامر الذي دفعني لان ارى في
عبارة النجيفي نوعاً من الايجابية ودليلا على وجود ديمقراطية في العراق
مع التاكيد والتنبيه على حقيقتين مهمتين في آخر المقال:
الاولى: ان الكثير من الاحزاب العراقية، ولا اقول جميعها، لاتؤمن
بالديمقراطية وان تلفعت برداءها سواء في شعاراتها او تسمياتها، وحتى لو
مارست الانتخابات فانها تعتبرها وسيلة سهلة للوصول الى السلطة.
الثانية: ان الديمقراطية العراقية مازالت لحد الان ناشئة ولم تتخلص
من شوائب المرحلة السابقة، فهي لم تصل الى مرحلة النضوج، وتحتاج لسنوات
عديدة ومران سياسي وثقافي فيه تتحول الديمقراطية من اداة ومنهج سياسي
الى معايير وقيمة مجتمعية يعيشها افراده ويمارسونها في حياتهم اليومية.
alsemawee@gmail.com |