بعد سبعة أشهر من الجدل المضني والأخذ والرد بين السياسيين
العراقيين الذين يتصارعون على المركز الأول في صناعة الحكومة العراقية
الجديدة، تم مؤخرا إختيار السيد نوري المالكي مرشحا عن التحالف الوطني
العراقي لرئاسة الحكومة. هذا التحالف يضم إئتلاف دولة القانون برئاسة
رئيس وزراء العراق المنتهية ولايته نوري المالكي والإئتلاف الوطني
العراقي برئاسة السيد عمار الحكيم رئيس المجلس الأعلى الإسلامي. فبعد
صراع مرير بين الإئتلافين طيلة هذه الفترة لم يتحقق هدف الإئتلاف
الوطني العراقي بثني المالكي عن عزمه في طرح نفسه كمرشح وحيد لإئتلاف
دولة القانون ولم يتم إبعاده عن الكرسي الذي يعتز فيه رغم كل الجهود
المبذولة، بل أن الأمور قد جرت على ما لا يشتهي هذا الإئتلاف وصبّت
بصالح المالكي حينما نجح بتحقيق إختراق واسع في صفوف الإئتلاف الوطني
العراقي وكسب أصوات التيار الصدري الذي كان معارضا شرسا له إبان الفترة
السابقة!
خرج المالكي يلوّح بإشارة النصر وهو يدرك بان الوقت كان في صالحه
وأنه أوّل من إستفاد وآخر من تضرر بين السياسيين العراقيين المتصارعين
على السلطة. فرغم الضغوط الداخلية والخارجية لم يتزحزح عن قراره في
البقاء في المركز الأول بالسلطة بل نجح في رص صفوف إئتلافه من الإختراق
والتصدع وحافظ على وحدة القرار والرأي.
هذا الإصرار وهذه الصلابة لها مرتكزاتها وأسسها ومن أهم تلك الأسس
والمرتكزات هو: عدم وجود كتلة سياسيّة من الكتل المتنافسة والفائزة في
الإنتخابات قادرة على التفاهم والتنسيق مع الكتل السياسيّة الأخرى في
تشكيل أغلبية برلمانية تستطيع جر البساط من تحت أقدام المالكي وإرغامه
على ترك السلطة. حيث أن كل كتلة فائزة من الكتل الثلاث الرئيسيّة
المتنافسة على كرسي رئاسة الحكومة تطمح أن تتولى رئاسة الحكومة بنفسها،
فالقائمة العراقية وهي الفائزة بأكثريّة الأصوات ترى بأن التكليف في
تشكيل الحكومة يجب أن يناط بها على ضوء الإستحقاق الإنتخابي، والإئتلاف
الوطني العراقي وإئتلاف دولة القانون يرون أن تحالفهم كفيل بتولي تشكيل
الحكومة على أساس أنه الكتلة الأكبر بالبرلمان وبهذا يتم تفويت الفرصة
على القائمة العراقية، بينما يتنازع أهل التحالف وأهل الإئتلاف أنفسهم
في عقر دارهم وفيما بينهم وعلى نفس المبدأ.
هذا التنافس الحاد بين الكتل الفائزة على كرسي رئاسة الوزراء جعل
المالكي يتحرك بحرية وإسترخاء في إختراق صفوف المعارضين لولايته
الثانية.
كان المالكي يتحرك من منطلق الإقتدار والقوة فبيده المفاتيح السحرية
التي تؤثر على الوسط السياسي العراقي، فهو لايزال رئيسا للوزراء وقائدا
عاما للقوات المسلحة، يأمر وينهى ومن دون رقيب أو حساب في ظل غياب
البرلمان وفي ظل الفوضى السياسيّة القائمة. أما الكتل السياسيّة الأخرى
فطاقاتها وإمكانياتها محدودة طالما هي خارج نطاق السلطة، لأن من يحكم
في العراق ومن بيده مقاليد الأمور يستطيع التأثير على مشاعر وقلوب
العراقيين حتى ولو كانت من صخر!. وهكذا فاللاعب الرابح في لعبة الزمن
قد لا يكون إلاّ المالكي نفسه لوجود مراكز القوى بيده ولأنه دبلوماسي
سخي لا يبخل في العطاء من أجل إرضاء وكسب الآخرين، كما له من الدهاء
السياسي ما يجعله قادرا على قلب نتائج اللعبة في نهاية المطاف الى
صالحه. وهذا ما حصل فعلا عندما كسب أصوات التيار الصدري وجعل مرشح
الإئتلاف الوطني العراقي السيّد عادل عبد المهدي في مهب الريح وبأسرع
من لمح البصر!
دون شك المالكي إقترب فعلا من الهدف حينما أكتسح الإئتلاف الوطني
العراقي واستحوذ على غالبية أصواته، وهذا ما يجعله قريب من الأغلبية
البرلمانية البسيطة خصوصا إن حقق إختراقات أخرى في صفوف الكتل
السياسيّة المعارضة له. هذه الإختراقات المتوقعة قائمة على مقومات
عديدة من أهمها:
أولا، تولي المالكي قيادة التحالف الوطني العراقي وخروجه كمرشح
وحيد له زاد من زخمه السياسي وأعطاه ثقلا واضحا سيؤثر على معادلة
التنافس السياسي وعلى نفسيّة بعض السياسيين العراقيين الذين ربما
سينجرون لمصالحهم الذاتيّة على ضوء المغريات التي سيقدمها المالكي لهم.
ثانيا، إستطاع المالكي ومن خلال سيرته السيّاسية الماضية أن يحفظ
التوازن بين مصالح الأقطاب الخارجيّة المؤثرة على الساحة السيّاسية
العراقية خصوصا المصالح الأمريكيّة والإيرانية في العراق. فقد أعتبر
صمام أمان لكل من هذين القطبين حيث حافظ على موازنة المصالح وأعطى كلّ
طرف شبه ما يرضيه، وهذا ما رفع الخطوط الحمراء عنه حتى صار قاسما
مشتركا بينهما. هذه الحقيقة جعلته يفلت من تأثيرات الضغوط الخارجيّة،
حيث إستحوذ على درجة من الحصانة أغاضت الكتل السياسيّة الأخرى التي
تبحث عن غطاء خارجي ودعم واضح وضغوط حقيقيّة تسلّط على المالكي.
الإفتقار للدفع الخارجي بالتأثير على المالكي قلّل من همم بعض
السياسيين المعارضين للمالكي وثبط من عزائمهم.
ثالثا: بدأ بعض السياسيين المعارضين لتولي المالكي ولاية ثانية
يشعرون بالملل من التأخير الذي لا فائدة منه خصوصا في جو يخلو من
البدائل الناجحة لحلّ القضيّة، فالمالكي المتعنت والمتمسك بالسلطة
يزداد قوة مع مرور الزمن، حيث بدأت الكتل المنافسة له تتفتت وتخترق،
وهذا ما قد يجعل بعض السياسيين العراقيين يشعرون بأن إلتحاقهم بالمالكي
ومشاركتهم في السلطة والإستمتاع بمردوداتها أفضل لهم من البقاء خارجها
والحرمان من لذاتها!
هذا هو الرأي القائل بأن المالكي قد ربح جولة من جولات التنافس
جعلته قريبا من الهدف، بينما يرى محللون آخرون عكس ذلك، فبروز المالكي
كمرشح نهائي عن التحالف الوطني العراقي سيكون مدعاة لأزمة وليس حلاّ
لأزمة، كونه مرفوضا رفضا قاطعا من قبل القائمة العراقية التي أوحت
بأنها لن تشارك بأي حكومة يتولاها المالكي. إن صمد إئتلاف العراقية على
هذا الموقف ولم يتفتت ويخترق مع مرور الزمن فهذا دون شك سيشكل معضلة
حقيقيّة أمام تشكيل حكومة عراقية لها مصداقيتها في تمثيل المجتمع
العراقي. حتى وأن إستطاع المالكي تشكيل الحكومة وتخطى إئتلاف العراقيّة،
فستكون هذه الحكومة هشة غير مستقرة لا يمكن أن تصمد وتدوم وستكون
مرفوضة من قبل أطراف خارجية عديدة وعلى رأسها الولايات المتحدة
الأمريكية. أمريكا لم تأت الى العراق كي تسلّم الحكم فيه الى عدوّها
اللدود "التيّار الصدري" الذي ينوي المطالبة بوزارات سياديّة في
الحكومة الجديدة!
إذن إن تحقق سيناريو بقاء إئتلاف العراقية متمسكا بموقفه ومتماسكا
بأعضائه فقد يستقطب أطرافا سياسيّة أخرى ترفض المالكي رئيسا جديدا
للوزراء، كالمجلس الأعلى الإسلامي وجبهة التوافق وإئتلاف وحدة العراق
والفضيلة وربما بعض الأصوات الكرديّة بضغط أمريكي وغيرها من الأحزاب
والكتل السياسيّة الصغيرة الأخرى.
في هذه الحالة فأن كلّ السيناريوهات ستكون ممكنة ومفتوحة على
الساحة السياسيّة العراقيّة ومنها: تقاسم السلطة وحتى سلطة رئاسة
الوزراء أو على الأقل التقنين من صلاحيات رئيس الوزراء، وهذا ما سيجد
ترحيبا ودعما أمريكيّا وإمتعاضا إيرانيّا. إعادة الإنتخابات بالبلاد من
أجل فض الأزمة والتطلع الى نتائج أخرى قد تغيّر دفة المعادلة وتحسم
الموقف لكتلة من الكتل السياسيّة المتنافسة الكبرى. هذا البديل سوف لن
يكون بديلا سهلا في ظل رفض بعض الكتل الفائزة التي قد تتخوف من التغيّر
في النتائج التي قد لا تكون في صالحها، خصوصا إئتلاف دولة القانون التي
لا تريد أن تفوّت الفرصة التي بين يديها بعد أن صارت قاب قوسين أو أدنى
من تولي السلطة.
كما أن إحتمال ظهور نتائج جديدة مشابهة للنتائج القديمة قد يجعل
عمليّة إعادة الإنتخابات مضيعة للوقت ومن دون جدوى. هذا من جانب ومن
جانب آخر، فأن حدوث مضاعفات مضرّة لمستقبل الشعب العراقي قد يكون أمرا
واردا في ظل التخبط السياسي المستمر وإعاقة تشكيل الحكومة. الفوضى
السياسية العارمة أو حدوث إنقلاب عسكري مدبّر أو تدهور كبير في الحالة
الأمنية أو دخول البلد في أتون حرب أهلية تؤدي الى تقسيمه، كلّها
إحتمالات تبقى واردة إن بقت الأمور خارج نطاق التسوية بين الفرقاء
السياسيين.
سيناريو الفشل في تشكيل الحكومة في ثاني تجربة إنتخابية يعتبر دليلا
هاما على وجود خلل ستراتيجي كبير في العملية السياسية العراقيّة. هذا
الخلل يتجسم بوجود محتل عسكري أساء التصرف في النهج والمنهج وخلق قاعدة
للخلافات السياسيّة من خلال قوانين المحاصصة وإعتماد أسلوب التهميش
والإقصاء وعدم وضع الرجل المناسب في المكان المناسب. كما أن تركيبة
المجتمع العراقي المعقدة من خلال وجود قوميات ولغات مختلفة وأديان
وطوائف متباينة وولاءات وإصطفافات متداخلة وجيران لهم مصالح متضاربة...
كلّها عوامل توحي الى التقسيم والتشتت والإندثار في ظل الديمقراطيّة.
فوق هذا وذاك علينا ألاّ ننسى بأن الديمقراطية ليست ثوبا عشوائيّا
تلبسه الشعوب أينما كان وكيفما كان، كما أن وعي الساسة والشعوب لمعنى
وروح الديمقراطيّة تعد مرحلة هامة وضرورية لها السبق في سلّم
الديمقراطيّة. |