تشكّل الظواهر الصغيرة للحياة اليومية جوهر النسيج الإجتماعي. يوجد
دائما " خلق ضئيل لا يمكن لنا أن نسيء تقدير فعاليته "(1). تبدو ضمن
هذه الوضعيات الجزئيّة للحياة اليومية أهميّة المخيال الجماعي الذي
ينخرط ضمنه وعبره الفرد في اليومي من الحياة الإجتماعيّة. فالناس
يكشفون عن ميل لإتّجاه الى العناوين ذات العلاقة بالتنجيم أكثر من
عنايتهم بما هو سياسيّ على سبيل المثال. من هنا وجب التنبّه الى جانب
الظلّ في الإجتماعي أي جوانب الخارق والتخيّل التي تلعب دورا ما في
صياغة الواقع. فالتخيّل " يحفّز الواقع ويجعله بصفة مفردة أكثر جذبا "
(2) للإهتمام السوسيولوجي بكلّ ما يمسّ من كبرياء علم الإجتماع لدى من
يهملون إنارة هذا الظلّ الذي يكيّف الواقع وينعكس في اليومي: من كيفيات
اللباس الى المصافحة، الى التلاقي، الى حركة الجسد ضمن وعبر الفضاء
الخاص منه والعام / الظلهر والخفيّ، بإسم مشروع علميّة السوسيولوجيا.
يصبح من غير الممكن تعقّل الحياة اليومية دون أن يستند التحليل الى
هذا الإزدواج في الحياة اليومية (3). يبقي الأفراد، إنطلاقا من هذا
الإزدواج الواعي، على تحفّظ ما، يسمح لهم بمقاومة عديد إكراهات النظام
الإجتماعي. فالفرد " لا يستجيب أبدا بدون تذمّر لأمر أن يكون هذا أو
ذاك، هكذا أو كذاك " (4). تخلق هذه الإزدواجية وهذا الإنشطار فتحة أو
ثغرة يتكوّن ضمنها الخيال أو الخارق الذي يشكّل لديه بعدا هامّا في
الحياة البسيطة، حياة كلّ الأيّام التي مثلما تضعنا أمام راهن أو حاضر
الجماعة، توصلنا بالماضي الحاضر في الفعل مثلما في التصوّر وفي كلّ
الأشياء حتّى البسيطة منها التي تحكي اللآن وهنا وبالمثل الذي كان.
تقرأ الحياة اليومية في وجهها الظاهر. ففي مقابل هذا الوجه المكشوف،
يوجد في اليومي وجه مخفيّ يشمل متعدّد الممارسات ويمثّل مجال المحافظة
الذي يضع عبره الأفراد فاصلا بينهم وبين إكراهات وتحديدات النظام
الإجتماعي. يجمع هذا التمشّي الذي يتّضح في تمثّل الظواهر الإجتماعية،
في تعقّد علاقتها بين الظاهر والمضمون الضمني أو الخفيّ، بين{مافيزولي}
و{جاك لاكان} الذي يعتبر أنّ " هذه المقاربة للواقع تبقى نقطة إستناد
كلّ تحليل إجتماعي " (5) مثلما {دويو} الذي يرى أنّ " ما يبدو ليس
بالضرورة الحقيقة " (6). وتمثّل المسافة الفاصلة التي يصيغها الأفراد
على مختلف المستويات مجال الخارق والخيال اللذان " يجعلان اليومي
مقبولا " (7) وتشكّل تمظهراتها علامات تسمح بالتواصل القاعدي، بإعتباره
خطابا موازيا للعقلاني وللعلمي يصيغ " واقعا عينيّا بصفة خصوصية، يخصّ
وجود كلّ الأيام " (8).
تسمح هذه الثنائية التي تحكم الخطاب اليومي، للخيالي بالنفاذ إلى
العامي والروتيني من الحياة اليومية. ويحيل جانب الخيال إلى الرفض والى
المقاومة التي يبديها أو يخفيها تحت أشكال متعدّدة، الأفراد تجاه
المخطّط والتغيّرات التي يفرضها لتقتحم الخاص وتكيّفه لما لا يستجيب
دائما مع ذاكرته ومخياله الرمزيّ وتمثّلاته للماضي وللحاضر وللذات
وللأشياء التي تحيط به مثلما لأهدافه.
هذا الرفض هو تمظهر للخيالي في الحياة اليومية التي تبدو في تمثّل
{مافيزولي} مسرحا للخارق والخيالي والصوري الذي هو نسخة الجمعي المعاش
أو اليومي الجماعي. فالأفراد مثلما الوضعيات الإجتماعبة تتهيكل لديه،
بكيفية متعدّدة. فحيازة أو إمتلاك الفضاء، وهذا هو المهمّ لدينا، لا
يستجيب دائما لمعطيات الضرورة أو إعتبارات الشغل أو الوضع المادي بقدر
ما تكشف عن أحلام وعن جمالية ما وعن إستيهامات تعطي للحياة البسيطة "
قيمة مضافة " (9).
وتلعب الوظيفة الصوريّة لديه دورا هامّا من حيث كونها الوظيفة التي
يتجسّد ضمنها " التشابك أو التداخل العضوي للبسيط والخارق، البومب
والخيالي " (10) الذي يشكّل حصنا ضدّ ميكانيزمات المراقبة الإجتماعية
وقطب مقاومة، في مقابل الإستيهامات الكليانية لسلطة الدولة.
تتجلّى أهمية المخيال وتمظهراته على أصعدة عديدة من الواقع
الإجتماعي. من هنا يتجاوز مفهومه، لدى {مافيزولي} كونه تقديم ينقطع عن
الواقع ليتّخذ معنى ودلالة موقف يمارس نوع من الحيد الذي يسمح بنقد
وإنجاز أو تحقيق ما هو ممكن في الآن وقته. يصبح إذا للمخيال فعل إبداعي
أو خلقي، ينعكس في تأويله " كإقتحام لا مراقب للتناسق المهترىء
للمتكرّر " (11) في الحياة اليومية للناس. فهو يدعو الى مقاربة الواقع
الذي " لا يمكن له أن يثبّت بل بالأصحّ يوضّح " (12) حسب {هايدقار}، في
إشتغاله أي في لا إسقراره مع الإستناد له بقدر ما يشكّل لديه، مع
الواقع، شروط إمكان هذا الوجود الإنساني. والحلم، كما لدى {بنجامين}،
هو أداة اليقظة التاريخية. فكلّ حقيقة تحلم بالموالية غير أنّها تحلم
بها. فهي " تجذبها نحو اليقظة(13).
يصبح، من هنا، لزاما على أي تناول تحليلي للواقع اليومي في حياة كلّ
الناس، أن يتّجه الى مقاربة وتعقّل ما يخفيه الحلم وما يتضمّنه
بإعتباره المؤشّر الدينامي له. يقارب تعقّد الواقع في علاقة بالخارق
والخيالي والرمزي ضمن متعدّد تمظهراتها في حياة كلّ الأيّام التي تتّخذ
بعدا مسرحيّا {لدى مافيزولي} لا يصبح معه الظاهر دعوة لتوجيه ضوء
التحليل لظلّه لإنارته أي تعقّل ما هو مخفيّ ومقنّع خلف رموز ينبغي
مقاربة دلالاتها حتّى نلامس عمق الواقع الذي لا يستدلّ عليه من الظاهر
ولا من العقلاني بل من هذه الثنائية: الوعي واللاوعي، العقلاني
والخيالي، اليومي والخارق الذي يشكّل الطبيعة المعقّدة للحياة اليومية.
إنّ الفضاء الذي نشغله لا يقرأ مثلما لا يوجد في الظاهر بل في
التمثّلات الفردية والجماعية للفاعلين الإجتماعيين الذين يتواصلون عبره
مع ذواتهم الجمعية وماضيهم المستبطن في فعلهم الممارس على الفضاء الخاص
والعام وعبره. وهو ما يعمّق حقيقة تعقّد الواقع الذي يستقرئه التناول
السوسيولوجي، لا يقرأه، لينفذ الى طبيعته الجدلية والمعقّدة التي تطرح
اليوم نفسها بإلحاح على التناولات المبحثية متعدّدة التموقعات
البراديغمية للظواهر المدينية، من أجل إستنباط الحلول العلمية للظواهر
المرضيّة التي المدينة في المجتمعات العربية اليوم.
إنّ أبسط ما يمكن أن تعرّف به الحياة اليومية ما يلتقي عنده كلّ من
لوفافر ومافيزولي إستنادا لمعيار التكرار، هي أنّها الأفعال والتعاملات
والإستعمالات التي تتكرّر في حياة الناس يوميّا. والحياة الإجتماعية
لديه تحيطنا وتسيّجنا من كلّ الجوانب ومن كلّ النواحي. فنحن " فيها
وخارجها " (14)، في الآن نفسه. وتشمل الحياة اليومية أبسط جزئيات حياة
الناس لكلّ الأيّام، الظاهر منها والمخفيّ، على الصعيدين الفردي
والجماعي. وهي المجال الذي يتعلّم فيه الإنسان ويصبح ضمنه " المشروع
إنجازا " (15) والذي داخله وإنطلاقا منه تنجز الإبداعات الحقيقية التي
" تنتج الإنساني والناس خلال تأنّسهم " (16).
تتطابق المشاعر والأفكار وأساليب الحياة داخل هذا اليومي أي
الروتيني أو بعبارة أخرى المتكرّر في حياة كلّ الأيّام والذي صمنه يصبح
ما يحدث ويتكوّن في دووائر عليا للمارسة الإجتماعية مدعوّ لإثبات صحّته
داخله، إعتبارا لكونه هو المقياس والمجسّد للتغيّرات التي تحدث داخل
هذه الدوائر، لذلك نفهم لماذا يعتبر لوفافر أنّ " تاريخ يوم يحوي تاريخ
العالم وتاريخ المجتمع " (17). هذا التاريخ هو " ذاته معاش " (18)
وبالتالي يجسّد المشهد اليومي لديه مستوى من الممارسة الإجتماعية بما
أنّنا نقف في نظريته على إستبعاد إمكانية المماثلة أو المطابقة بين
اليومي والممارسة إعتبارا لأنّ هذه الأخيرة " تتطابق مع الكليّة " (19)
أي أنّها تستبطن في الآن نفسه البنية التحتيّة والبنية الفوقيّة
والتفاعلات بينهما.
والحياة اليومية هي الموجود الأكثر تملّصا وعدم قابليّة للإحاطة به
وحصره وتحديده. وإن كانت الحياة اليومية تشكّل مستوى من الممارسة أي من
الكليّة فإنّ طابعها الجزئيّ لا ينفي إعتبارها ظاهرة كليّة أو كليّة في
مستواها أي في حدّ ذاتها.
لا يمكن معرفة الحياة اليومية فى المجتمع ولا " وضعية الأولى في
الثانية ولا تفاعلاتهما بدون نقف راديكاليّ للواحدة والأخرى وللواحدة
بالأخرى والعكس " (20) , ففهم الواقع لديه يقتضي إستدعاء كلّ أبعاده ,
فالمقاربة الكلّية والنقديّة لا تنفي حصائل المعارف الجزئيّة ولا
تتنازل عن الكليّة , فهي رفض، إذا، للإجتماعويّة والتارخانية
والنفسويّة والثقافويّة، أي رفض للمغالات بكلّ مجالاتها: الإجتماعيّ
والتاريخيّ والثقافيّ والنفسيّ , فالحضارة الإجتماعية لا تحتمل
إختزالها أو ردّها كليّا لأحد أبعادها المتعدّدة التي يفترض تناولها
تعقّل مختلف أبعادها.
...................................................
1- Maffèsoli ( M): La conquète du prèsent ; paris
puf ; 1979 ; pp 78.
2- Ibid ; p 76.
3- Bouchrara Zanned ( T ): La viulle Mèmoire ;
Mèridien klick seick ; 1994 ; p 9.
4- Maffèsoli ( M ): L’ombre de dionysos ; paris:
librairie des mèridiens ; 1985 ; p 14.
5- Lacan ( J ): Le seminaire ; Liv XI: Les quatres
concepts fandamentaux de la psychanalyse ; ed Seuil ; 1973 ; p 78.
6- Fourrier ( C.H ): Le nouveau monde Amoureux ;
Anthropos ; XIIV.
7- Maffesoli ( M ): La conquete du present ; paris
puf ; 1979 ; p 79.
8- Ibid ; p 80.
9- Maffesoli ( M ): La conquete du present ; paris
puf ; 1979 ; p 87.
10- Ibid ; p 88.
11- Maffesoli ( M ): Logique de la domination ;
paris puf ; 1976 ; p 75.
12- Poggeler ( O ): La pensèe de Martin heidegger
; Au bien Mantaigne ; 1968 ; p 23.
13- Ibid ; p 80.
14 - Lefebvre ( H ): critique de la vie
quotidienne ; paris crasset – l’arche ; 1958: p 46.
15- Ibid ; p 46.
16 - Ibid ; p50.
17 - Lefebvre ( H ): La vie quotidiénne dans le
monde moderne ; gallimard ; 1968 ; p 13.
18 - Bouchrara zanned ( T ): La ville mémoire ;
paris meridien ; 1994 ; p 39.
19 - Lefebvre ( H ): critique de la vie
quotidienne ; paris crasset – l’arche ; 1958: p p 50 - 51.
20 -Lefebvre ( H ): La vie quotidiénne dans le
monde moderne ; gallimard ; 1968 ; p 16 |