التقاعد من العمل والآثار الاجتماعية الناجمة

عبد الكريم العامري

 

شبكة النبأ: ان التقاعد بمفهومه المتعارف عليه هو تخلي الفرد عن عمله ووظيفته عند وصوله الى سن معين، ببلوغه هذا السن يتحقق له مكافأة أو مرتب تقاعدي يضمن له حاجاته المعاشية الأساسية. أن التقاعد بمفهومه الشامل  أصبح يتضمن عددا آخر من المعاني الفعلية، منها تخلي الفرد عن عمله عند إكماله سنوات معينة من الخدمة، أو بناء على رغبته، أو بضرورات العجز، الحوادث، المرض.

كل هذه الحالات جعلت من تقاعد الفرد أمرا ممكنا قبل  سن التقاعد المتعارف عليه أو المحدد بالقوانين. هو الأمر الذي فرق التقاعد عن معاني الكبر، العجز، هي المعاني التي ارتبطت وما زالت ترتبط في أذهان الناس، لكن إرجاع عمر التقاعد الى 63 سنة قد يثبتها ويزيدها. 

ان استعراض أسباب التقاعد ومراحل العمر التي يقع فيها يبين تفاوتا عظيما بينها. التفاوت نجده فيما يحدث للمتقاعد بعد تخليه عن عمله المعتاد، منهم من يواصل عمله في مجال صنعته واختصاصه، من يغير نمط عمله الى عمل آخر يحسنه أو يهواه، من يقوم بعمل بيتي أو اجتماعي يشغل وقته، يعطيه الرضا والقناعة، منهم بسبب تقدم العمر، المرض، الشيخوخة، الوحدة، عدم تناسب الراتب مع الوضع العام المحيط يلجأ الى التسول. ان التخلي الفعلي والكامل عن العمل المعتاد واستبداله بحالة اللاعمل، هو حدث عظيم في حياة الفرد والمجتمع الذي يعيش فيه، ذلك أنه يتطلب تغييرا أساسيا وجذريا، ليس في الحياة النفسية للمتقاعد فقط إنما في علاقاته  العائلية والاجتماعية.

 لقد كان الاهتمام في الماضي الى النواحي الاقتصادية من مشكلة المتقاعدين، مع أن هذه المشكلة مازالت أساسية وهامة في الكثير من البلدان منها العراق بسبب الحروب وغلاء المعيشة، إلا ان الكثير من الاهتمام قد توجه في السنوات الأخيرة الى دراسة الموضوع من نواحيه الاجتماعية، النفسية، الطبية.

هنالك أبحاث كثيرة في هذه المواضيع تؤيد النظر الى التقاعد بأنه تحول جذري من مجرى الحياة للفرد، له أن يخل في العلائق الاجتماعية، يخلخل الحياة النفسية أو أن يضر بالصحة العامة، يضاعف من المرض، العجز، إلا إذا أمكن أن يوافق ويكيف نفسه مع الوضع الجديد في حياته.

أن الآثار الاجتماعية الناجمة عن عملية التقاعد واسعة وان كانت غير محسوسة بكاملها. فالمجتمع ينظر الى المتقاعد نظرة عجز، يعتبر التقاعد عالة اجتماعية، بعض الأحيان حاجزا يعيق مسيرة الحياة.

هنالك أيضا تبدل في النظرة الى المتقاعد ومركزه الاجتماعي، تميل معظم النظرات الاجتماعية الى تقدير أقل لقيمة المتقاعد عن مستواها السابق، خاصة إذا كان المتقاعد يشغل وظيفة أو مركزا معتبرا أو مرموقا. مثل هذه النظرة قد تطرأ على النطاق العائلي وفي العلائق الزوجية.

فقد ينظر الى رب العائلة وكأنه أصبح عثرة في المسيرة الروتينية للحياة العائلية لتواجده في البيت بالصورة الطارئة الجديدة.

أما بالنسبة للفرد نفسه فان الآثار النفسية التي يمكن أن تحدث بسبب التقاعد فانها تعتمد على عدة أمور منها درجة التكامل في شخصيته، طبيعة علائقه البيتيه والاجتماعية، مدى تعلقه بعمله، شعوره بخسارة عمله أو مركزه، مدى ارتباط تقدير نفسه بطبيعة مركزه.

ان الاضطراب النفسي يكون أكثر احتمالا، أوسع حدودا إذا ما كان الفرد متعلقا بعمله، مرتبطا به الى حد الشعور بالخسارة التي لا تعوض، خاصة إذا لم يكن للفرد فرصة للتعويض عن هذه الخسارة بعمل أو فعالية أخرى تكسبه القناعة والتقدير في عين نفسه وعين من لهم علاقة به.

ان من أهم العوامل المقررة للحياة النفسية للمتقاعد في وضعه الجديد هو مقدرته التكيف على هذا الوضع. هذا يتضمن ليس فقط عملية التوافق وقبوله، إنما مقدرة الفرد على التأثير في محيطه بشكل ايجابي يجعل من هذا المحيط أكثر ملاءمة لحاجاته. هنالك اليوم في الكثير من المجتمعات مؤسسات وجمعيات ينتمي اليها المتقاعدون تأخذ على عاتقها احداث التغيير الاجتماعي والمحيطي الملائم لحاجات المتقاعدين ليس في النواحي المادية فقط وإنما في النواحي المعنوية والترفيهية أيضا.

تفيد بحوث عديدة بوجود تأثير سلبي على الصحة العامة للمتقاعدين.  إلا ان هذه النتائج يجب أن تأخذ بنظر الاعتبار أن مثل هذه التأثيرات السلبية هو أمر منتظر في هذه المرحلة  من العمر، اضافة الى أن انخفاض الامكانيات المادية له أن يقلل من مستوى التغذية، ظروف السكن، وسائل الوقاية، العلاج. هناك بحوث تبين على العكس بحدوث تبدل ايجابي في الصحة العامة في نواحيها النفسية والجسمية ولكن أعتقد ليس في مجتمعنا أو بشكل فردي.

ان ما يحدث للفرد بسبب تقاعده يتقرر بعوامل شتى يمكن أن تكون حصيلتها ايجابية أو سلبية. أهم هذه العوامل شخصية المتقاعد، تجاربه الحياتية، مدى ارتباط حياته بعمله، علاقاته الاجتماعية بما فيها صداقاته الدائمة، طبيعة علاقته البيتية، وضعه الاقتصادي، مقدرته على المساهمة في نشاط ما أو إشغال نفسه بهواية أو متعة تعطيه الرضا والقناعة.

معظم النتائج السلبية تحدث في حياة أولئك الذين لم يعدوا أنفسهم إعدادا ملائما لهذه المرحلة الحياتية الجديدة،أو لم تنصفهم القوانين والمجتمع فإذا واجهوها لم يجدوا في أنفسهم المقدرة الكافية على التكيف عليها بسبب فقدانهم للعناصر الأساسية لمثل هذا التكيف.

لهذا توجب على الدولة والفرد أن يؤهل نفسه بالعناصر اللازمة لهذه المواجهة قبل سنوات طويلة من ملاقاتها..إذا استطاع ذلك فان لمرحلة التقاعد أن لا ترمز الى بداية النهاية بالنسبة للمتقاعد وانما الى مرحلة قناعة استحقها بعد عمر طويل من الجد والكفاح بالعمل والإنتاج. يمكن أن تكون هذه المرحلة وحتى نهايتها مرحلة خلاقة ومجدية تجعل من حدث التقاعد مجرد فاصلة تهيئ المتقاعد لعمل جديد وخلق جديد، من خلال زجه في مؤسسات يكون فيها مستشارا في مجالات عمله، أو يبقى يقبض راتبه التقاعدي من نفس دائرته، بدلا من الوقوف في طوابير لا نهاية لها.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 6/تشرين الأول/2010 - 26بش/شوال/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م