الثقافة الإنسانية ودورها في الثقافة السياسية

علي حسين عبيد

 

شبكة النبأ: في حلقة سابقة من سلسلة الثقافة تصنع الحياة، ورد الكلام عن دور الثقافة في صناعة الحياة على نحو شامل، وبهذا سنتفق على تعدد أهداف الثقافة وفقا لتعدد مجالات الحياة وأنماطها وفروعها التي تكاد تأبى الحصر، فالثقافة كما نفهمها ينبغي أن لا يشوبها الاحتكار، كما أنها لا تخص فئة دون غيرها، ولا يجوز لأحد أو جماعة أن تدّعي الثقافة لذاتها وتحصرها في كينونتها، فالمثقف عموما هو الانسان الفرد او الجماعة التي يمكنها العيش بإسلوب يؤكد إنسانيتها وذكائها وقدرتها على التعامل مع الحياة بطريقة فكرية عملية مثلى تحفظ ذاتها وخواصها مثلما تحفظ ذوات الآخرين وتحترمهم.

بهذا المنظور العام تكون الثقافة وعاءً واسعا يمكنه احتواء الجميع بفرص عيش متكافئة وسليمة قائمة على التقارب وتبادل الرؤى والافكار وتعتمد التعايش سبيلا لمواصلة حياة مستقرة وناجحة، ولكن كيف يمكن أن يتحقق مثل هذا الهدف المثالي كما يبدو، وهل ثمة دور هام للسياسي في هذا المجال؟

ولنطرح السؤال بصيغة أوضح، ما هو دور السياسي بصنع الحياة الناجحة، ومتى تتوفر للسياسي فرص المشاركة في صنع الخطوات الفعلية القادرة على تحويل المجتمع من حال أسوأ الى أفضل ؟.

هنا لابد أن يبرز دور الثقافة بقوة، فالسياسي المثقف هو الاكثر قدرة من غيره على المشاركة في صنع الحياة الافضل وغالبا ما يتخذ دوره موقع الصدارة في هذا الجانب، والاسباب كثيرة في هذا المجال، أولها سعة الآفاق الفكرية والعملية التي يتعامل السياسي من خلالها مع الحياة وموجوداتها البشرية او غيرها، وثمة معادلة يأتي إقرارها من بداهة القول، فكلما ارتفعت ثقافة السياسي وتعمقّت كلما ازدادت فرص إسهامه في صنع الحياة المثلى، والعكس يصح تماما.

كما تتيح الثقافة الفكرية السلوكية انفتاحا واسعا لآفاق العمل والفكر والرؤى ومن ثم تقودنا الى التخطيط الاجرائي الذي يؤدي بدوره الى تحويل الانتاج الفكري والرؤيوي الى ملموس مادي يسهم بتجسيد الاهداف ويحولها من طبيعتها المجردة الى أفعال مادية قائمة، يأتي هذا المطلب ضمن إطار الفرد والجماعة بغض النظر عن طبيعة المسؤولية المنوطة بها، لكن يبقى السياسي يتقدم على غيره في إمكانية التغيير كونه يمتلك القدرة على صنع القرار وتحويل القول الى فعل وهي ميزة لا يتمتع بها الانسان العادي.

من هنا تأتي أهمية السياسي المثقف، كونه يتحصّن برؤية بعيدة النظر، ويكاد ينفرد بقدرة التأثير المباشر في تغيير الواقع من حال الى حال، وقد أثبتت التجارب البعيدة والقريبة أهمية السياسي المثقف ودوره الفعال في نقل المجتمع من حالة النكوص والتراجع والسكون الى حالة التفاعل والنهوض والتطور في مجالات الحياة المتعددة، ولكن لا يتحقق هذا من دون التشارك المثمر والتعاون في تداخل الادوار وتلاقحها بين النخب القيادية في المجتمع.

وتبقى صدارة التأثير الفعلي للسياسي المثقف أولا لأنه يتمتع بسعة الآفاق والرؤى مع ميزة الاقتدار على صنع القرار الذي غالبا ما يأتي في الوقت المناسب فيحوّل القول او البرمجة او التخطيط الى واقع عملي قائم.

ولنا في تجارب الامم التي سبقتنا في هذا المضمار أدلة قاطعة على صحة ما نذهب إليه، فليس القائد السياسي الجبار هو الشخص المناسب لتطوير المجتمع، إنما غالبا ما يشكل جبروته مسارا نحو تحقيق المجد الشخصي، فيما يكون القائد السياسي المثقف حلقة الوصل القادرة على ربط المجتمع بالمعاصرة.

وهذا النوع من السياسيين لا يبحث قط عن المجد الشخصي الذي سيتحقق له، ولكن من دون اللهاث خلفه، أي أن السياسي المثقف لم يضع المجد هدفا لمسعاه الفكري والعملي، ولكن ثقافته وأفكاره وأفعاله التي تنقل الشعب الى مرحلة افضل هي التي تصنع له مجده، كما هو الحال مع القائد الهندي المسالم غاندي الذي تمكن من تحرير الهند من ربقة الاستعمار البريطاني بثقافة سلمية مؤمنة مقرونة بالفعل الخلاق الذي حققه القائد السياسي والشعب في آن واحد.

هكذا تكون الثقافة مصدر قوة للسياسي وهكذا تفتح الآفاق الواسعة له نحو حلول لا يرقى لها الزلل في الغالب كونها تضع مصلحة العامة في مقدمة ما تهدف إليه، أما الجهل والتعصب ومجافاة الثقافة الحقة ستصنع سياسيين جهلة مستبدين، وستكون سمة او صفة الاستبداد هي العلامة الفارقة التي تفرزهم عن غيرهم.

فحريّ بساسة اليوم والغد أن يتثقفوا بالثقافة الانسانية الأصيلة التي تؤهلهم فعلا للقيام بدور القائد المثقف القادر على نقل الامة من حالة النكوص والتراجع والسكون الى حالة السمو والتطور والارتقاء، وهذا هو السبب التلقائي الذي سيمنحهم شهادة المجد.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 5/تشرين الأول/2010 - 25/شوال/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م