
شبكة النبأ: يطرح المحرر السياسي في
شبكة النبأ حيدر الجراح جملة من التسائلات الجوهرية حول ما يدور في افق
التعايش السلمي في العراق والحراك السياسي القائم، معلقا في سياق
تحليله الدوري على شكل وطبيعة السلطة التي تناوبت على حكم البلاد خلال
الفترة المنصرمة، ومخاض تشكيل الحكومة المرتقبة، مستشرفا اسقاطات
الانقسام الطائفي والقومي على المدى القصير.
فيقول، من نحن؟ وكيف ننظر الى العالم؟ وهل تؤثر نظرتنا الى انفسنا
في نظرتنا للاخرين؟ وهل عملت وسائل الاتصال الحديثة على تجسير هوة
اختلافاتنا نحو التلاقي ام انها باعدت بين المسافات؟
في الكثير من صفحات تاريخنا الاسلامي تبرز محطات كثيرة للصدام بين
الشيعة والسنة ومحطات اقل للتوافق والانسجام، وقد يرد البعض على هذا
الكلام من خلال ايراد الكثير من الامثلة الدالة على الوفاق الاجنماعي
الا ان تلك الامثلة يدحضها هذا التوتر وهشاشة البنيان التوافقي ذاك حين
تفعل السياسة افاعيلها بين الطائفتين.
ولا داعي لايراد الامثلة من تاريخنا القريب والذي نعاصره الان
وسيكون صورتنا المستقبلية في القادم من الاعوام.
اشير فقط الى حالتي (لبنان – العراق).
هذا الوفاق الهش يطرح مسألة الانتماء لمذهب معين وطائفة معينة
والهوية المحددة لشخصياتنا وطبيعة انتمائنا، تلك الهوية التي ننظر بها
الى انفسنا وننظر من خلالها الى الاخرين، وهي التي تحدد معايير
الاصطفاء والاقصاء حين تدلو السياسة بدلوها في مسيرة حياتنا التي
نحياها في بلداننا المنقسمة على ذواتها وهوياتها، والتأرجحة بين قبول
الاخر ورفضه.
ينظر المؤرخ النفسي اريك اريكسون الى الهوية بوصفها عملية تقع في
القلب من الانسان، كما توجد في قلب ثقافته الجمعية، وهذا مايخلق
الرابطة بين الفرد والمجتمع، وتركز النظرية الدينامية النفسية على
الجوهر الداخلي للبناء النفسي بوصفه بناء له هوية مستمرة (وان كانت
متصارعة).
اما الاتجاه السوسيولوجي الخاص بنظرية الهوية فانه يرتبط بالتفاعلية
الرمزية كما نبع من النظرية البراغماتية للذات التي تناولها وليم جيمس
وجورج هربرت ميد، فالذات تعدّ قدرة انسانية تمكّن الافراد من التفاعل
مع الطبيعة ومع العالم الاجتماعي عن طريق اللغة والاتصال.
وقد اهتمت البنيوية وما بعد البنيوية باللغة والتصورات وساهمت في
دعم الاتجاه التفاعلي الرمزي في دراسة الهوية، وبرز فردينان دي سوسير
في هذا الاتجاه حيث ركز اهتمامه على تأمل كيف يتم انتاج المعنى في
اللغة، واوضح ان ذلك لا يتم من واقع قصد الكاتب او المتحدث وانما يتحقق
من خلال تفاعل العلامات، وقد اعلن سوسير ان اللغة هي الحقيقة التي
تخاطب الفرد باخضاعه لقواعدها وليس العكس.
وقد استخدم هذا الوصف لدعم الرأي القائل بان جميع المعاني
الاجتماعية والثقافية انما تتخلق داخل اللغة او بشكل اكثر عمومية تتخلق
داخل انساق التصور.
وبعبارة اخرى يمكن القول بان العالم حولنا بل والمكان الذي نعيش فيه
انما يكتسب معناه ودلالته في اطار التصور الذي نملكه.
وهكذا يمكن القول ان هويتنا (من نكون) او احساسنا بالهوية انما
يتشكل من خلال المعاني المرتبطة ببعض الخصائص والقدرات واشكال السلوك.
واستطاع الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو ان يدفع هذا التحليل للهوية
خطوة الى الامام مطورا اراء سوسير تلك وذلك بفضل بحوثه وكتاباته عن
الخطاب.
وعلى هذا الاساس يمكن القول ان المادة الخام للهوية قد تشكلت فعلا
داخل انواع الخطاب المستخدمة ثم تلقاها الفرد واستوعبها وتبناها وبذلك
تتم بالفعل عملية تكوين الهوية وتشكيلها.
تعد الثورة الاسلامية الايرانية في هذا السياق اشارة مهمة لبروز
ثنائية (الشيعة – السنّة) كمعطى لظهور هوية جديدة وهذه المرة (دينية –
سياسية) تنهل من العقيدة المغايرة والمختلفة لعقائد محيط سني لم يستطع
ان بفجر ثورة في بلدانه ضد انظمة تعايش معها، قسرا احيانا كثيرة، مثل
تلك الثورة.
هذا المحيط المتوجس والمشكك بتلك الهوية المقصيّة والتي اكتفت على
مدار قرون طويلة بالدفاع عن نفسها عبر (التقيّة) ومن خلال توجهها الى
الفقه والعقائد، رغم نشوء كثير من الدول الشيعية في بلدان العالمبن
العربي والاسلامي.
اضحت الان على مسرح الاحداث تقود دولة كبيرة مترامية الاطراف تشرف
على كيانات سياسية هشة وضعيفة لا يمسكها عن السقوط الا قوة كبرى من
خلال تحالفات ومعاهدات سياسية وامنية.
وقد ظهرت الى السطح شعارات منع تصدير الثورة مقابل تصديرها الى
الدول المجاورة، واصبحت الهوية العقائدية الخائفة، مخبفة الان.
الحدث الاخر الذي يكاد ان يكون بحجم وقوة حدث الثورة تلك هو حدث
سقوط بغداد حاضرة الخلافة الاسلامية، حبث برزت هوبة شيعية عراقية هذه
المرة، برزت كاغلبية سكانية استثمرتها السياسة في انتخابات العام 2005
لتكون هناك اغلبية سياسية لملايين رفعت شعار المظلومية طوال قرون عديدة
من حكم العراق.
وهنا ايضا يبرز المحيط السني كاحد طرفي المعادلة باعتباره رافضا
لهذا التغيير وهذه المعطيات الجديدة، تحت شعارات رفض الاحتلال والمقاوة
الوطنية وجهاد القاعدة في بلاد الرافدين.
بالعودة الى سؤالنا الافتتاحي بعلامات استفهامه الثلاثة الاولى، حدد
انتماءنا المذهبي نظرتنا الى انفسنتا ونظرتنا الى الاخرين بين مواقف
القبول لحالة قائمة ومواقف الرفض لحالة مستجدة، مع تبادل الادوار.
واذا كانت ايران لم تتناوشها حروب طائفية بين ابناءها، فان العراق
اقتتل فيه ابناء الطائفتين دفاعا عن مصالح متعارضة وحفاظا على ارواح
مهددة.
على مدار تاريخنا الاسلامي حكمت بعض الخطوط الحمراء جملة من
المتبنيات العقائدية للمذهبين، رغم الجهد العلمي المبذول في كلتا
المدرستين، حفاظا على نوع من التعايش الذي قد تهدده كلمة من هذا الطرف
او ذاك.
تلك الخطوط الحمراء اختفت واضمحلت بنشوء سلطة اخرى غير سلطة التعايش
والتوافقات الهشّة بعد ظهور وانتشار الفضائيات العديدة في سماء الدول
والطوائف العربية والاسلامية.
انها سلطة الخطاب الفضائي العابر للحدود والحواجز، والتي اضحت منابر
جديدة تشتغل على السياسة في بداياتها، وهي سياسة مفارقة لما تعوّد عليه
المشاهد، ثم اخذت تنحى باتجاه الثقافة بتنوعاتها المختلفة، والتي
ستنزوي لصالح فنون الغناء والفيديو كليب عبر فضائيات انشئت لهذا الغرض،
غرض تسويق الضحالة في الافكار والثقافات والسلوك، عبر الاغنية الصاعدة
سلم الترتيب او عبر تسويق المغنين النجوم.
هذا الكم من المزاوجة بين الفن والسياسة عبر الفضاء العربي
والاسلامي، افسح مجالا اخر لنوع جديد من التواصل عبر فضائيات جديدة
اخرى بدأت تظهر على الساحة وهذه المرة عبر ما يمكن تسميته بـــــــ(اسلمة
السياسة والفن) والاتجاه بها بعيدا في مخاطبة الاتباع لكسبهم الى صفوف
مشاهدنها ومتابعة برامجها.
وقد ذهبت بعض من تلك الفضائيات بعيدا عبر (طوأفة) منابرها تلك من
خلال تسفيه كل معتقدات الاخر المجاور في بلدانها وتكفيره واباحة دمه.
وقد نشطت هذه الفضائات في الاغتراف من جميع النصوص الميتة واعادتها
الى الحياة مرة اخرى. وغابت العقلانية ومنطق التعايش السابق (رغم
هشاشته) والجميع يمتلك الحقائق المطلقة وما لدى الاخرين محض اكاذيب
واباطيل. |