أتاحت الانتخابات العامة السويدية لليمين المتطرف الدخول لقبة
البرلمان، وهو الأمل الذي راوده منذ فترة طويلة بعد الحرب العالمية
الثانية، حيث حصل ممثله الحزب الديمقراطي السويدي على حوالي 6 % من
أصوات الناخبين، وبذلك يكون له 20 مقعدا، محدثا صدمة ومفاجئة أذهلت
الرأي العام السويدي والأوربي، ولعله بهذا النصر سيرفع من معنويات
الحركة الفاشية في كل مكان. فقد سبقه الحزب اليميني المتطرف في
بريطانيا " الحزب القومي " بتحقيق نصر غير متوقع بدخوله البرلمان
الأوربي لأول مرة في تاريخ البرلمان منذ تأسيسه عدة سنوات مضت.
لقد استغل الحزب اليميني السويدي تصاعد المشاعر العنصرية في بعض
أوساط المجتمع ضد المهاجرين الأجانب الذين استقروا في بلاده. لقد دفعت
الظروف الصعبة لكثير من مواطني دول العالم لهجرة بلدانهم الأصلية
والتوجه إلى دول العالم المتقدمة، بحثا عن مستقبل أفضل مستفيدين من
التسامح والتعاطف السائد فيها. لقد ركز اليمين السويدي حملته
الانتخابية نحو تخفيض هائل في اعداد اللاجئين في البلاد، أما عن طريق
اعادة من لم يبت في امرهم الى بلادهم، او بوقف قبول المزيد منهم
مستقبلا. ولم يكتفي بذلك بل قاد حملة تنديد قبيحة بالجاليات الأجنبية
في السويد، معتبرا الإسلام اكبر خطر اجنبي يهدد السويد منذ الحرب
العالمية الثانية. وقد روجت وسائل الاعلام اليمينية لرأي أشاعته هي
نفسها في أوساط المجتمع لكسب مزيد من اصوات الناخبين، بأن المهاجرين
وراء الأزمة الاقتصادية والبطالة التي تعاني منها البلاد لما تشكله من
عبئ اقتصادي ثقيل يستنزف موارد البلاد.
ويشكل المهاجرون حسب الأرقام التي بثها اليمين المتطرف السويدي بأن
واحدا من كل سبعة سويديين هو مهاجر أجنبي.
ليست ظاهرة تحميل الأجانب مسئولية الأزمة الاقتصادية والبطالة
ظاهرة سويدية فحسب، بل اوربية أيضا، ففي هولندا وبلجيكا و الدنيمارك
والنمسا ترتفع مثل هذه الأصوات، وترتفع بأكثر حدة في ألمانيا، مع أن
غالبية الأجانب يحملون الجنسية الوطنية للبلد الذي يعيشون فيه، ويعملون
ويدفعون الضرائب ويوفون بأي التزامات أخرى تقرها القوانين. الأجانب
يعانون هم أنفسهم من البطالة أيضا، بل أن بعضهم يتعرض للتمييز العنصري
عند تقدمه بطلب العمل، مما أضطر بعضهم الى تغيير أسمائهم كما يجري في
فرنسا حاليا ضد الفرنسيين من أصول مغاربية.
لا ينكر أن الحركة الرجعية الاسلامية، هي من يتحمل بعض المسئولية
عن تنامي الاتجاه المعادي للاجانب وبخاصة ضد المسلمين في أوربا. فهي
التي بدأت في اقتحام طريقة الحياة الأوربية وتشويه معالمها، وعدم
احترام خصوصياتها، وبدلا من بناء الجسور مع المجتمع الجديد، لتتقرب الى
قلوب الناس وتكسب احترامهم، راحت تستفز المشاعر بسلوكها وتقاليدها ونمط
تدينها المرفوض حتى في بلدانها الأصلية، وهذا ما ساعد على ظهور ردود
أفعال سلبية ضد الجالية المسلمة بشكل عام. لكن الى جانب ذلك نشأت بين
المهاجرين فئات استحقت الثناء، فقد استفادت ايجابيا من الظروف التي
أتاحها البلد المضيف، فكان منهم نوابا في البرلمانات، وكتابا وصحفيين
ورجال أعمال ناجحين واساتذة جامعات، أثبتوا جدارة وكسبوا احترام الجميع.
اليمين الأوربي المرتبط بالطغمة المالية، لم يتقبل أبدا رؤية
الغرباء في بلدانهم منذ زمن، حتى قبل أن تزيد نسبتهم في المجتمعات
الأوربية الى أكثر قليلا من الصفر، وما أثير ضدهم أثناء الحملة
الانتخابية في السويد، انما هو بدوافع كراهية عنصرية عميقة الجذور في
المجتمع السويدي، وهو ما استغله الحزب الديمقراطي السويدي لتحقيق مكاسب
انتخابية. وكانت ظاهرة العداء للاجانب قد تصاعدت قبل ذلك في النمسا
وفرنسا، حيث شهد هذان البلدان في تسعينيات القرن الماضي بروز اسم
الفاشي النمساوي جورك هايدر، و الفرنسي ليبان الذي شارك هايدر أفكاره
المتطرفة ضد الاجانب. وبتأثير هذه الحمى، صادقت الحكومة الائتلافية
النمساوية المكونة من الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب الشعب على مشروع
قانون جديد، يمنع بموجبه منح فرص العمل الجديدة للاجانب، مستثنيا بضعة
الاف من مواطني الدول غير المنتمية للاتحاد الاوربي، وحددهم بذوي
الكفاءات العالية، وبنفس الوقت اتخذ اجراءات متطرفة تجاه المقيمين
الدائميين الأجانب، بتهديدهم بالطرد من النمسا في حالة ارتكابهم اية
مخالفة حتى لو كانت حادثا مروريا.
لكن اليمين الأوربي المهموم بأعباء الأجانب الهائلة على ميزانية
بلاده، لا يخفي تذمره من إعانات البطالة والرعاية الصحية التي يتمتع
بها العاطلون عن العمل من مواطنيه، معتبرا اياها أحد أهم اسباب عجز
الميزانية وتراكم الدين العام الحكومي، ويطالب الحكومة بتقليصها. ويمكن
ملاحظة ذلك من الاتجاه الحالي للسياسات المالية التي تتبع حاليا في
أغلب الدول الأوربية التي استلمت مقادير الحكم فيها الأحزاب المحافظة.
فالسويد وبريطانيا وفرنسا وايرلندا وبلجيكا والنمسا، تسير على نفس
الخطى لمعالجة عجز الميزانية من خلال خفض الانفاق العام الذي تتضرر منه
الطبقة العاملة، في وقت لم تتجرأ حكومة واحدة منها لزيادة الضرائب على
الثروة ورأس المال، بل بالعكس قامت بعضها بمنح تخفيضات ضريبية على
أرباح راس المال، بنفس الوقت تغض النظر عن النقل المتزايد للثروات الى
مناطق الواحات الضريبية.
فالأزمة الاقتصادية التي بدأت في الربع الأخير من عام 2007 مع فقاعة
الاسكان في الولايات المتحدة الأمريكية وانتقلت الى كل العالم بعد ذلك،
ألقت بملايين العمال الى البطالة في أوربا، وبفضل نظام التكافل
الاجتماعي أمكن حماية أولئك العاطلين عن العمل من العوز والفاقة،
والحفاظ على تماسك المجتمع وأبعدته عن الانحدار الى الفوضى والتفكك.
ويجري اليمين الأوربي ممثلا بمدراء المصارف وشركات التأمين والمضاربين
الماليين، ضغوطا هائلة على الحكومات الأوربية بعدم اللجوء الى الضرائب
لمعالجة العجز في الميزانية، بحجة أن ذلك يهدد الانتعاش الاقتصادي، بل
باتباع سياسات تقشف تقلص بموجبها النفقات العامة، مستهدفين بذلك
بالمقام الأول مخصصات اقتصاديات التكافل الاجتماعية.
لا يمكن اعتبار نظام التكافل الذي تأخذ به اكثر الدول الأوربية
امتيازا شرفيا منحته الطبقة الغنية بمحض ارادتها للطبقة العاملة، انه
بمعناه السياسي تراكم نضالي حققته الحركات العمالية عبرعشرات السنين من
النضالات المطلبية ضد أرباب العمل، وقدمت في سبيله تضحيات جسيمة تعرض
العمال خلالها لعقوبات الفصل من العمل والغرامة وحتى عقوبات بالسجن.
لقد اتخذت نضالات العمال صورا عدة تراوحت بين المظاهرات الجماهيرية
والاضرابات، والمؤتمرات العمالية، والنشاطات الفكرية والسياسية عبر
الاحزاب والمنظمات والصحافة العمالية. مع العلم ان ما يقرب من 80 % من
المدفوعات الاجتماعية لنظام التكافل الاجتماعي، تمول من خلال الأقساط
المفروضة على الدخول المتأتية من أجور العمال ورواتب المستخدمين أنفسهم
وليس من جيوب الرأسماليين. ومع ذلك باشرت الحكومات الأوربية واليمينية
بشكل خاص، تحت ضغط أرباب المال، تقليص النفقات على الرعاية الصحية
ورواتب التقاعد واعانات البطالة والطفولة والعجز بسبب العمر أو المرض
أو الحوادث. بل ذهبت بعض الدول الى سياسة تخفيض أجور العاملين في قطاع
الخدمات العامة، كالشرطة والجيش وموظفي الادارة المدنية، ووقف مشاريع
بناء المدارس أو صيانتها.
مما لا شك فيه،ان خفض المدفوعات الاجتماعية يؤدي إلى خفض القوة
الشرائية في السوق الداخلية التي ستتسبب مباشرة انخفاض الطلب على
السلع، وهذا سيقود بدوره الى ضياع عشرات الآلاف من فرص العمل في
الأسواق والمحال التجارية، لكن الحكومات لا ترغب بالاعتراف بهذا. وهذا
ما تحاوله الحركة العمالية في أوربا حاليا، حيث تطالب الحكومات
الأوربية بزيادة الضرائب على دخول أرباب الطبقات الثرية، وبفرض ضرائب
على أرباح رؤوس الأموال العابرة للحدود لا أعائها منها، و بانهاء حالة
السماح التي تجيز لأصحاب الأموال نقل أموالهم إلى ما يسمى بالواحات
الضريبية، والمباشرة فورا بفرض الضرائب عليها. و تتزايد الضغوط على
الحكومات المعنية بزيادة التدخل في النشاط الاقتصادي من خلال استثمار
الموارد الضريبية في تنمية المناطق المتخلفة في الأرياف وأطراف المدن،
كوسيلة لخلق فرص عمل جديدة، تساهم في حل مشاكل البطالة وزيادة معدلات
النمو الاقتصادي. أما الانصياع الأعمى لسياسة الليبرالية الجديدة فلن
يساعد على تطوير الاقتصاد المحلي، بل سيعمق التفاوت الاجتماعي داخل
المجتمعات الأوربية كافة. |