استنفر العالم الاسلامي بشعوبه المضطهدة المقموعة وبعض من سلطاته
السياسية الحاكمة بوجه ماخطط القس تيري جونز الاعلان عنه على صفحة
موقعه على الفيسبوك يوم 17 تموز، قبل ان يتراجع في الساعات الاخيرة،
حيث كشف هذا القس عن نيته احراق عدد من نسخ القران الكريم فيما أسماه "
اليوم العالمي لأحراق القران " الذي يتزامن مع الذكرى التاسعة لأحداث
11 سبتمبر عام 2001، وهو الحدث الذي شكّل نقطة تحول كبرى في السياسة
الامريكية تجاه بعض دول العالم الاسلامي، وتم بعدها رسم العالم، من قبل
ريشة الرسام الامريكي، على نحو أخر مختلف عما سبقه.
ودشنّت الولايات المتحدة الامريكية في عهد الرئيس الامريكي جورج
بوش، بعد تلك الهجمات الدامية، حرب جديدة شنتها ضد الجماعات الاسلامية
المتطرفة التي اعلنت انها تقف وراء هجمات سبتمبر والبلدان التي تأويها
وتتخذ منها تلك الجماعات ملاذا آمنا ومستقرا ومعسكرا لتدريب وتجنيد
اعضائها على تنفيذ عمليات ارهابية في مختلف بلدان العالم التي تطالها
ايديهم. وحينها بدأ الربط من قبل بعض المتطرفين في العالم الغربي بين
الاسلام والقران من جهة وبين الارهاب من جهة اخرى منطلقاً من افكار
هؤلاء الذين نفذوا هجمات 11 سبتمبر خصوصا وهم قدموا انفسهم على أنهم
يمثلون الاسلام ويجسدون افكاره، وليسوا فئة وحفنة ضالة اقدمت على عمل
كارثي كانت له تداعيات خطيرة مازلنا لحد الان نعيش في خضم ملابساته
وتعقيدات تبعاته.
استنكار وتنديد عالمي
التنديد والاستنكار ضد تهديد القس تيري بحرق القرآن عَبَر من
المستوى المحلي الى الاقليمي وصولا الى المستوى الدولي والعالمي. أذ
رفض الرئيس الامريكي باراك اوباما ماينوي القس القيام به ودعا المجتمع
الامريكي الى التسامح الديني، كما شجبت المؤسسات الرسمية الدينية
المسيحية ماينوي القس القيام به من فعل اعتبروه مُدنسا للكتب السماوية
المقدسة، واتفق الجميع على ان خطة القس تهدد الامن والتعايش السلمي بين
الحضارات والدول وتُحرّض على العنف والكراهية بين الامم التي لاينقصها
هذا الشعور، وهي عملية لاجدوى منها ولاتخدم سوى المتطرفين الذين
سيستخدمون هذه الافعال الشنيعة لتجنيد الشباب وغسل عقولهم والتحريض على
العنف وشحن الكراهية تجاه الاخرين.
ولهذا اتصل وزير الدفاع الامريكي غيتس بالقس ووجه اليه قائد الجيوش
الامريكية في افغانستان جورج بترايوس تحذيرا يتعلق بتداعيات مايمكن ان
يؤدي اليه حرق القران من نتائج على جنوده في ارض المعركة في افغانستان.
بعض هؤلاء المستنكرين لم يبرئ أميركا كدولة من فعل القس واتهمها
بانها تسير نحو نوع من الطالبانية، نسبة الى حركة طالبان الأفغانية
المتطرفة، لانها تسمح لبعض الرجال كـ نيوت جينكرش وباميلا كالير وتيري
جونز باشعال الفتن والتحدث بتعصب وتأجيج المشاعر كما يقول الباحث مشرف
زيدي في مقالته المهمة في صحيفة فورن بوليسي الامريكية بتاريخ 10
سبتمبر والتي كان عنوانها طالبانية امريكا The Talibanization of
America. القس تيري جونز.
صاحب هذه الزوبعة الاعلامية الفاضحة والحركة الاستعراضية الفجة هو
القس تيري جونز راعي كنيسة تسمى Dove World Outreach Center في مدينة
غاينسفيل بولاية فلوريدا، وهي كنيسة إنجيلية صغيرة، بل صغيرة جدا على
حد تعبير الصحفي جيمس راينولد من الBBC، لا يزيد عدد أتباعها عن خمسين
شخصا فقط ممن يسيرون وراء افكار وتوجهات تيري.
كنيسة تيري لا تمثل، كما يرى مختصّون في الشأن الديني، شيئا يُذكر
بالنسبة للخط العام المسيحي الكاثوليكي والبروتستانيعلى حد سواء، فهي
حركة هامشية لا قيمة حقيقية لها ولاتمثل، باي شكل من الاشكال، العالم
المسيحي. وتيري " شبيه بالمتطرفين الذين لا يمثلون الإسلام الحقيقي"
كما قال بلير مؤسس وراعي مؤسسة توني بلير للإيمان، وهي حقيقة لاتقبل
الشك والريبة ويجب التنبيه لها. لكن تيري يحاول ان يتحايل على الحقيقة
حينما يقدم نفسه وافكاره، كذبا وتزويرا، كما رأئ في لقاءه مع نيويورك
تايمز بتاريخ 28 اب، كنموذج للمشاعر الامريكية المتنامية ضد الاسلام،
فهو يصادر اراء ملايين الامريكيين ويحتكرها ويتحدث باسمها من غير وجه
حق، مع العلم انه خارج اصلا عن افكار الكنيسة دينياً والافكار
الامريكية وتوجهاتها العامة وطنياً.
ماضي القس المخزي
صحيفة " برلينر تسايتونغ " الألمانية كشفت الجمعة 10 سبتمبر بعض من
ماضي القس تيري وسيل الفضائح التي ارتكبها في المانيا حينما قدم نفسه
للاهالي على أنه موفد من القس المتطرف الأميركي دونالد نورد للتبشير
والدعوة لطرد الشياطين من أوروبا، فقد اقام فيها ربع قرن وأسس في مدينة
كولونيا عام 2001 كنيسته المسماة " الكنيسة المسيحية" صاحبة الافكار
التي اعتُبرت مستقلة عن الكنيستين الألمانيتين الكبيرتين الكاثوليكية
والبروتستانتية.
وقد وصف يواخيم كيدين وهو المسؤول السابق بالكنيسة البروتستانتية
بولاية راينلاند، تيري بانه " كان شخصا شديد التطرف ومجردا من المشاعر
ويتصرف كآلة، وكانت له مشكلة في التأقلم مع المجتمع الألماني الذي رفضت
كنائسه أي تعامل معه"، ناهيك عن الفضائح الاخرى التي وصِم بها حينما تم
تغريمه ثلاثة آلاف يورو بسبب إضافته لقب دكتور إلى اسمه، بالاضافة الى
شك أعضاء الكنيسة المسيحية في قضايا مالية تتعلق به، اذا أتهموه
بالتلاعب في المخصصات المالية للكنيسة وتحويل ستة منازل تابعة لها إلى
ممتلكات شخصية.
جهل القس
اللقاءات التي اجريت مع القس تيري من قبل وسائل الاعلام الغربية
والتي بلغت رقما قياسيا، كشفت، كما اوضح "ديمن كيف" في لقاء معه في
نيويرك تايمز، عن حقيقة توجهات القس واعترافه بانه لم يقرأ القرآن اصلاً
!، وهو أمر غريب من قس او رجل دين لايملك معلومات عن كتاب المسلمين
المقدس وينوي احراقه، مثلما قد نستغرب اذا كان هنالك عالم دين مسلم
لايعرف ولم يقرأ الانجيل او حتى يطلع عليه، بل نرى القس تيري يستغرب،
بغباء او ربما بدهاء ماكر، من طلب الكنائس والعالم المسيحي منه الكف عن
خطته القاضية بحرق القران !.
القس تيري يعيش في حالة من التناقض الصارخ،فهو يؤكد في اللقاء ان "
مسيحيي اميركا لهم الحق في حرق كتاب المسلمين المقدس القران " نافيا ان
يكون لخطته هذا اي اثر على وضع امريكا وجنودها في العراق وافغانستان مع
العلم انه، كما يقول ديمن كيف، وهو تناقض صارخ من قبل هذا الشخص غير
السوّي،" يحمل مسدسا ويعترف بان " الموقف الكلي سيكون اكبر مما نتوقع"
!.
وفي عبارته الاخيرة اشارة واضحة الى ماستكون عليه ردة الفعل
الاسلامية خصوصا من قبل الجماعات البسيطة والشعبية من جهة اولى
والتنظيمات الارهابية من جهة ثانية التي ستستغل الموقف وربما تهاجم
الكنائس او المصالح العائدة للولايات المتحدة الامريكية التي رفضت فعل
تيري واستنكرته. ولعل في رد وزير الكنائس الموحدة في فلوريدا السيد "
لاري ريمر" مثال واضح ورائع على الرد الامريكي العام على القس. اذ قرر،
كما يقول الباحث مشرف زيدي، ان يقرأ في تجمعه الديني آيات من القران
كجزء من عبادته في الكنيسة، وقال عبارة جميلة وتستحق الوقوف عندها، وهي
" اذا كانوا يستطيعون حرقه.....نحن نستطيع قراءته !".
منهج مخادع
لانطمع ولانأمل ان نجد لدى القس تيري وامثاله من المتطرفين
والمنغلقين مناهج منطقية ورؤية علمية وتبريرات موضوعية لما يبدوه من
افكار او يظهروه من اراء يزعمون ان النزاهة والحيادية تقف ورائها،
فالنوايا الخبيثة والاهداف الشخصية والمصالح الضيقة والامراض
السايكولوجية والعقد المرضية والتأويلات الخاطئة هي من تحدد سلوكهم
وترسم افكارهم وتعيّن مساراتهم الفكرية وهم يقدمون انفسهم على انهم
أصحاب افكار ومبادئ واهداف نزيهة واحيانا يصفونها بانها " مقدسة ".
واذا اردنا ان نحاكم، بشكل منهجي وعلمي، تيري، على مايعتنقه من
افكار.... فاننا نجد أنه يستخدم رؤية ساذجة مخلّة بالمنهج العلمي
وتعميماً خاطئاً لا يصمد امام اي رؤية عقلانية محايدة، وهي نفس العلل
التي يستخدمها المتطرفون والاصوليون سواء كانوا من المسلمين او
المسيحيين او اليهود، حينما يحكمون على اتباع دين كامل بفرية وعمل
وسلوك بعض من افراد هذا الدين ممن رفضهم اصلاً هذا الدين وندّد بسلوكهم
وتصرفاتهم واعمالهم الشنيعة التي اضرّت ببقية اتباع الدين.
وهذا مالاحظه بدقة الخبير في مجال الاديان السيد اويست تيم، حيث
اشار الى ان " الذين يكرهون او يعارضون بعض المسلمين لانهم مسلمون،
فانهم يلومون كل المسلمين على مافعله بعضهم، فالمسلمون في الغرب
مسالمون كاي شخص اخر يعيش معهم بوفاق"، ويضيف السيد اويست " لكي تلوم
المسلمين بسبب مافعلته حفنة في 11 سبتمبر، فانك كمن يلوم كل اليهود على
قتل السيد المسيح وهو لوم شرير وخطير".
كما اننا لانجد اي علاقة بين المركز الاسلامي المزمع بناءه قرب
المكان الذي حدثت به تفجيرات 11 سبتمبر، وبين الكف عن حرق القرآن، كما
طلب تيري قبل عدوله عن الامر حينما ربط ايقاف عملية حرق القرآن بالغاء
فكرة بناء مركز اسلامي ضخم. فالربط بينهما غير منطقي وليس هنالك اية
علاقة عقلانية او موضوعية بين الحدثين، ومحاولة اعتبار المركز الأسلامي
ممثلاً أو تعبيراً عمن فجروا برج التجارة العالمي هي محاولة غير صحيحة
وخاطئة بل وغبية تماماً.
محاولة غير صحيحة... لان المركز ومن يقفون وراء بناءه لاينتمون الى
عين المدرسة التي خرّجت منفذي هجمات 11 سبتمبر، فشتان بي اسلام معتدل
نيّر يرسم معالم الحياة ويضيئها بجمال وروعة وتسامح واتزان... وبين
اسلام أخر مصطنع قدَّم نموذجه التكفيريون الظلاميون الغلاة من اصحاب
التطرف والانغلاق الذين يكرهون الحياة وينبذون الاعتدال ولديهم أطر
ضيقا ان لم اقل معدومة للتعامل مع الأخر المرفوض من قبلهم.
وهي، بالاضافة الى كونها غير صحيحة، محاولة غبيّة أيضاً، اذا ان
الغرب وامريكا بحاجة الى ان ينتشر الاسلام المعتدل والمتسامح بينهم لا
ان يحاربوا هذا الاسلام ويضيّقوا عليه ويضعون أمامه الاسوار. وهي افعال
تصب كلها في صالح التكفيريون والمتطرفون الذين يحاولون ان ينتهزون اي
فرصة لتجييش العالم الاسلامي ضد الغرب.
فمحاولة ايقاف بناء المركز او اجهاض مشروع يمكن ان يستغلها هؤلاء من
اجل تحقيق اهدافهم على الرغم من اعتقادي ان بناء المركز ليس امراً
مقدساً ولا هو واجب ولاينبغي علينا ان نجعله سببا لمعركة وهمية مع
العالم الغربي، خصوصا مع وجود امثال تيري من المتطرفين الذين يحاولون
ان يجدوا اسبابا وحججا لسلوكهم وتصرفاتهم التي يقومون بها حينما يقومون
بتقديم انفسهم كمدافعين عن ضحايا 11 سبتمبر في حين ان الحقيقية التي
لايمكن انكارها هي ان تيري لن ينتصر لهؤلاء الضحايا اذا منع بناء
المركز او أحرق القرآن، بل ان حرق القران " سيزيد من اعباء واحزان اهل
الضحايا " كما قالت والدة احد ضحايا 11 سبتمبر السيدة باتريكا بنكيلي
لجيمس رينولد من الـ BBC.
الالة الاعلامية الضخمة
القضية برمتها خضعت لوسائل الاعلام وماكنته الدعائية الضخمة، التي
لولاها لما كان فعل القس قد اخذ المساحة التي احتلها الان، وفي ذلك
يقول أستاذ التلفزيون والثقافة الشعبية في جامعة سيراكيوز، روبرت
طومسون،" ان السلوك الشاذ الملتوي لرجل مثل جونز، وهو قس لا يتعدى عدد
أفراد كنيسته 50 شخصا، لم يكن ليرتقي حتى ليكون خبرا محليا، فهو لا
يمثل أي شيء؛ إنه رجل مجنون ".
وهو امر صحيح وواقعي الى درجة كبيرة، ولهذا نجد بوب ستيلي مدير معهد
باندل للاخلاق يؤكد هذه الحقيقة ويقول " لكل اسف ان قصة القس تيري جونز
وتهديده بحرق القران قد اثبتت ان العديد من الصحفيين والمنظمات قد
استبعدت المهنية والمعايير الاخلاقية لصالح مسعى متحمس من اجل قصة
مثيرة للجدل " كما جاء في تقرير اعدته شبكة CNN الامريكية بعنوان "
دروس من حادثة حرق القرآن" نُشر بتاريخ 14 سبتمبر.
فوسائل الاعلام التي التقت بتيري والتي بلغت حوالي 150 قد وجد بعضها
فيها مادة دسمة لكي تحقق فيها عدة أغراض واهداف بحسب توجهها وبرامجها،
فبعض من هذه الوسائل الاعلامية نفخت فيها واوصلتها الى ما وصلت اليه
بحيث حولت هذا القس المغمور،الذي الف العام الماضي كتابا ضد الاسلام لم
يجد له سوى ست مراجعات اغلبها سلبية على موقع Amazon.com كما تقول
الكاتبة فرح اكبر، الى رجل شهير وان كانت شهرة مبنية على التصرفات
السيئة والمجنونة.
مسلمون حرقوا القرآن ايضا
لم تكن غاية المقال في الحقيقة الحديث عن القس تيري وتحليل ما اراد
القيام هذا الرجل المنبوذ والمعروف بشذوذه الفكري فقط، فللمقال غرض اخر
يهدف الى الكشف عما فعله المسلمون بالقران منذ ان نزل على النبي محمد
صلى الله عليه واله ولغاية الان، فنحن في العالم الاسلامي شعوبا
وحكومات قد استنكرنا الفعل الذي اراد القس القيام به والذي لاينتمي لا
للاسلام ولا للدين المسيحي أيضا، لكننا لانقوم بنفس ردة الفعل وعين
الاستنكار تجاه مايقوم به المسلمون الذي يحرقون القرآن الكريم يوميا
جهارا نهارا وعلى صورتين:
الاولى: الحرق المعنوي
الابتعاد عن تعاليم القرآن وجوهره وروحه والتقهقر الحضاري والتخلف
المعرفي للمسلمين والعرب الذي تراجعوا وانتكسوا بعد حضارة وتقدم وتطور
عظيم شهدته عصورهم الذهبية السابقة التي كانت منارا ومركزا اشعاعيا
تستقي منه اوربا المعرفة والعلم قبل ان تعاني هذه الامة النكوص
والتراجع وتصبح كمن حرق كتابه وتعاليمه ومرجعه الذي يدعي انه يسير
بتعاليمه وينتهج اسلوبه الذي يدعو للعلم والمعرفة وكانت اول اية فيه هي"
أقرا ".
التاريخ يروي لنا حادثة قد تقترب من هذا المعنى الذي نتحدث عنه، حيث
يحكي لنا المؤرخون انه لما بويع عبد الملك بن مروان بالخلافة، كان في
حجره مصحف فأطبقه قائلاً " هذا فراق بيني وبينك "، وهي عبارة واضحة تدل
على حرق هذا الخليفة للقران معنويا حالما تسلم سلطة يحكم بها رقاب
الامة.
الثاني: الحرق الواقعي
حكى الماوردي فى كتاب " أدب الدنيا والدين " ان الوليد بن يزيد بن
عبد الملك كان يدّعي أنه يتفاءل بالقرآن الكريم، فيفتحه كل يوم قبل
خروجه من قصره، ليقرأ الآية التي تظهر أمام عينيه، وفي أحد الأيام ظهرت
له الآية التي تقول: ( واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد )، فما كان منه إلا
أن مزّق القرآن ورماه في الهواء منشدا:
أتوعد كل جبار عنيد فها أنا ذا جبار عنيد
إذا ما لقيت ربك يوم حشر فقل يارب مزقني الوليد
هذا نموذج صارخ لحرق حقيقي قام به خليفة من خلفاء بني أمية الذين
حكموا العالم الاسلامي من عام 661 م-750 م، وتجد بعض من المسلمين
يمتدحه ويرى فيه خليفة من خلفاء المسلمين الذي ينبغي طاعتهم ! وهؤلاء
ربما فيهم من غضب واستشاط من فعل القس تيري وتظاهر ضده.
كما نجد حرق القرآن بوضوح وجلاء فيما يؤدي اليه التفكير الوهابي
المتطرف، الذي وجد له مصداق جلّي في سلوك الفئة الضالة التي نفذت هجمات
ارهابية وارتكبت عمليات انتحارية في العراق وافغانستان وباكستان وايران
والسعودية والصومال ومصر والجزائر، وبقية الدولة التي قامت قوى الارهاب
والتكفير بعمليات انتحارية وتفجيرية كفرت فيها بكل القيم الدينية
والانسانية.
حيث يقوم الانتحاري، وبتأثير تعاليم الفكر المتطرف، بتفجير نفسه في
الجوامع والحسينات الممتلئة بالمصاحف، مُحرقا اجساد المسلمين المصلين
الابرياء، وممزقا ومُشعلا بالنار قرانه وكتابه المقدس، الموجود في
الجامع، والذي هو في الحقيقة ليس قرانه ولا كتابه المقدس.
وهنا علينا ان نقف قليلاً مع الاسئلة الآتية التي تستحق ان نضعها
امام القارئ:
الا يُحرق الانتحاري القرآن حينما يفجر نفسه داخل مسجدا للمسلمين؟
الا يغدو القرآن ممزقاً ومحترقاً ومتشظياً أشلاءأً بعد ان يرتكب
الانتحاري جريمته النكراء؟
الا تختلط اوراق القران المحترقة،اثناء تفجير الانتحاري، باجساد
ودماء ولحوم الشهداء المصلين الابرياء الذي لم يرحمهم هؤلاء الضالون
ممن تحركوا بفتاوى مشايخ التكفير والارهاب؟.
هل ندّدنا بحرق القران المستمر على يد هؤلاء الانتحاريين كما ندّدنا
وشجبنا نيّة القس تيري حرق القران؟
ولو اردنا رياضيا ان نقارن بين النسخ القرانية التي حرقها
الارهابيون وبين ماحرقه تيري وامثاله...لمن ستُرجح الكفة؟
مسلمون متغافلون
المسلمون عموما الذين استنكروا ونددوا وتظاهروا ضد فعل القس تيري
ونيته حرق القرآن يتغافلون في معظمهم عن الحرق المعنوي والحقيقي للقران
الذي ارتكبه المسلمون بقرآنهم المقدس وكيف تركوه وراء ظهورهم وحرقوه
علانية، وهم على الرغم من ذلك لم يتظاهروا ضد من حرق القران وفرغه من
مضمونه وروحه وجرده من تفسيراته الانسانية والمعاني العميقة فيه، بل
سكتوا عن امرين:
الاول: الحرق المعنوي والواقعي الذي جرى على كتابهم المقدس خلال
السنوات الماضية والحاضرة.
الثاني: تداعيات ونتائج هذا الاحتراق على المسلمين اولا والاخر
المختلف عنا ثانيا، فالحرق المعنوي كان من بين العوامل التي أدت الى
نكوص المسلمين وارتدادهم وتراجعهم عن خط مسار التقدم العالمي، اما
الحرق الحقيقي فكانت نتائجه وخيمة ومُريعة بدات حينما انتشر الفكر
الارهابي والوهابي الذي يُلغي الاخر ويسحق وجوده وينفي ذاته،وبالتالي
يسمح له باستلاب حياته، وهذا مانراه قد حدث في 11 سبتمبر حينما هاجم
مسلمون متطرفون قلب امريكا وقتلوا حوالي 3 الاف مدني، والتي على اثرها
توجه الكثير من الشعب الامريكي، كما تقول جوسيلين كاسري مديرة برنامج
الاسلام في الغرب في جامعة هارفرد وجون هوبكنز، للمكتبات ل" شراء
القرآن من اجل فهم لماذا قام 19 مسلم متطرف بتنفيذ اكثر هجوم مُدمر
تتعرض له امريكا"، وهي حقيقة مرة ومؤلمة تكشف مدى فداحة ما ارتكبه
هؤلاء والذي بسببهم بحث الامريكان عن القران لكي يجدوا فيه علّه ماحدث
كأن القران والاسلام كان السبب وراء هذا السلوك الشاذ المدان.
براءة الأسلام وذنب المسلمين
نقولها بكل ايمان وثقة ان الاسلام بريء مما فعله الارهابيون
المسلمون في شتى اصقاع الارض، فهذا الارهاب قد حصد من المسلمين اضعاف
ماحصده من اهل الكتاب من المسيحيين واليهود بل وحتى ممن لايؤمن باي دين.
نعم المسلمون انتكسوا وتراجعوا واصبحوا خارج التاريخ عالة على غيرهم
استهلاكيا وثقافيا واجتماعيا ينتظرون من الاخر ان يصنع ليلبسوا ويركبوا
ويعيشوا، بل لم يصبحوا عالة على غيرهم فقط بل اصبحوا داء ومرض بسبب
ماتولده وتخلقه افكار وتسميم مشايخ الارهاب لديهم من شخصيات ضائعة
تائهة تعيش في عالم اخر وتحلم بجنات في الاخرى متناسية ان الاسلام
نصحنا " ان نعيش دنيانا كاننا نعيش ابدا ".
الامريكيون الذي قراوا القران لكي يبحثوا عن علّة مافعلته حفنة 11
سبتمبر لم يميزا بين تفسير مشايخ التكفير والارهاب للقران وبين روح
القران نفسه الذي دعا للتسامح والمحبة والتعاون والاخاء بين البشر الذي
هم اخ لنا في الدين او نظير لنا في الخلق بحسب كلام ينسب الى الامام
علي عليه السلام.
الغرب يتناسى ان العرب الذي يوجه الكثير منهم تهمة الارهاب اليهم
بسبب افكار المتطرفين أقاموا، كما يقول الدكتور احمد صبحي منصور، "
بالاسلام فى عهد خاتم المرسلين أول وآخر دولة اسلامية علمانية حقوقية
ديمقراطية تكفل الحرية الدينية وتطبق الديمقراطية المباشرة وترعى العدل
وتقيم الاحسان والتكافل الاجتماعى...وبالاسلام ارتقت واشتهرت اللغة
العربية وأصبحت ـ ولا تزال لغة عالمية، أنهت سيطرة لغات أخرى، وتكلم
بها أبناء الحضارات القديمة، وبها أصبح صعاليك العرب فى الجاهلية
مشهورين مخلدين ".
أي اسلام نقدم للانسانية
جميع المحاولات التي تجري من قبل الغيارى على الدين الاسلامي من
المفكرين والكتّاب وحتى علماء الدين المتسامحين المعتدلين يجب ان تصب
في رايي الشخصي على الاجابة على سؤال مهم وهو " أي اسلام نقدمه للعالم؟
"، وهو سؤال هام تتوقف على اجابته تشخيص الكثير من المسائل والاشكالات
التي تمسك بتلابيب الرؤية الغربية للعالم الاسلامي الذي شوه التكفيريون
صورته.
قبل محاولة اضاءة الجواب للقارئ حول سؤالنا اعلاه لابد لنا ان نتحدث
بصراحة وواقعية عن صورة الدين الاسلامي، وهو كلام يشمل الديانة
المسيحية ايضا، فالاسلام له اكثر من صورة وشكل ولايمكن لاحد عاقل ان
يزعم ان الدين الاسلامي يُقدم الى العالم بنمط واحد ذو ابعاد واتجاهات
متفق عليها بالاجماع، فالاسلام اليوم مقسم ومجزأ بين تمظهرات عدة تختلف
فيما بينها بل وتتناقض تناقضا شديدا في بعض الحالات، فالاسلام السني
بتعالميه وتوجهاته وصورته التي يقدمها مشايخه لاينطبق تماما مع الاسلام
الشيعي الذي لديه مرجعيات واطر تختلف عما هو موجود لدى الاسلام السني.
ولايقتصر الامر على هذا التشخيص بل الامر يمتد ويتوسع في داخل
الاسلام الشيعي والسني على حد سواء حيث في كل منهما هنالك تيارات
وافكار وتوجهات تتراوح بين الاعتدال والوسطية الى التشدد والاصولية
المغلقة، الامر الذي يجعلني افضل تصنيف الاسلام الى صنفين رئيسيين هما
اسلام معتدل متسامح واخر اصولي متطرف،ولكل منهما مدارس وتوجهات واراء.
وهنا نصل الى سؤالنا الذي وصفناه بالمهم " أي اسلام نقدمه للعالم "،
حيث لاريب في ان اي نموذج نمطي مغلق للاسلام سوف تكون نتائجها وخيمة
على صورة الاسلام كدين وحضارة وفكر، ويجب ان يقوم علماء الاسلام
ومفكريه وباحثيه بمهمة مزدوجة فيما يتعلق بهذا الدين الذي يتعرض لهجمة
شرسة من قبل المتطرفين المسلمين والغربيين على حد سواء.
المهمة الاولى: ازالة التشوهات والترسبات السيئة التي الصقها
الارهابيون والتكفيريون بهذا الدين من خلال ماقاموا به من افعال
وسلوكيات اضرّت بالاسلام واهله قبل غيرهم.
المهمة الثانية: عرض وتقديم الاسلام وافكاره للاخر على نحو ايجابي،
وتبيان تسامحه واعتداله، والكشف عن الجوانب الانسانية المضيئة فيه
وماقدمه من مشروع ثقافي حضاري تنويري، فضلاً عن توضيح كيف استطاع
الاسلام وحضارته ان يكونا منارا تهتدي به اوربا في العصور الوسطى قبل
ان يغرق العرب في الفوضى والظلام والجهل.
حرائق المسلمين
محاولة القس تيري حرق القران لاتختلف في جوهرها عن حرائق الارهابيين
والجماعات الاسلامية المتطرفة من القاعدة وغيرهم من حثالات المسلمين
وعاراتهم ممن فجروا هنا وقتلوا هناك.... فكلاهما، واقعيا، يحرق القران
ويمزقه مستخدما حجج فارغة وتبريرات واهية من اجل تحقيق اهداف وغايات
خارجة عن الاطر الواقعية والسياقات العقلانية التي ينبغي ان تُتَبع في
التعامل مع الاخر.
وان كان القس تيري قد هدد بحرق 200 نسخة من القران، فان الارهابيين
في العراق قد أحرقوا الآف النسخ من القران في عملياتهم الانتحارية التي
ارتكبوها في العراق. وقد ذهب في تفجير شارع المتنبي المختص ببيع الكتب
في العراق بتاريخ 6-3-2007 مئات النسخ المقدسة من القرآن الكريم. ولم
نر ولم نسمع ولم نشعر حتى بأي استنكار عربي واسلامي على هذه الجريمة
المروّعة التي ارتكبها ارهابيون مسلمون ينتمون لمدرسة معروفة التوجهات
والافكار وتنشط في الكثير من الدول العربية والاسلامية تحت مسميات
وعناوين واضحة وعلنية حينا وسرية وغير مكشوفة حينا أخر.
ينبغي على العالم العربي والاسلامي ان ينهض من غيبوبته ويدرك حقيقه
مواقفه ومايتخذه من قرارات تتعلق بمثل هكذا افعال يقوم بها القس تيري
وامثاله، ولايجب عليه ان يتغاضى عن حقيقة الوضع المأساوي والمتردي الذي
يعيشه مواطنه على مختلف المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية
والعلمية والمعرفية، فنهضة الامم وبناء االحضارات لايمكن ان يتم دون
مراجعة فعلية للمواقف المتخذة من قبل هذه الامم ومدى تطابقها مع
المرجعيات الفكرية التي تزعم انها تسير على خط مسارها.
اسئلة حرجة
كيف يتم التقدم ونحن نعيش كسلا معرفيا وتشددا اصوليا يتم ارضاعهما
لاطفالنا منذ الطفولة وفي مدارسنا؟ وقبل ايام كشفت ايلاف ان مفتي سعودي
متشدد هو يوسف الاحمد الف كتاباً يُدرس رسمياً لأطفال السعودية، وقد
بلغ استياء البعض من هذا الامر الى درجة ان بعض السعوديين قد تناقلوا
في هواتفهم الجوالة رسائل تقول " "الأحمد هو من سيربي أبناءكم".
كيف يمكن ان نتطور ومؤسساتنا التعليمة مافتأت تعيش ركوداً معرفياً
وبعداً علمياً عن آخر مستجدات الواقع العلمي والحضاري الذي يعيشه
العالم الآخر، بل انها تعيش جهلاً مؤسساً على حد تعبير المفكر العربي
الكبير الذي غادر عالمنا يوم 14 من سبتمبر الجاري الاستاذ المرحوم محمد
اركون؟
اليس من الاجدى لنا ان نزيل عن عقولنا صدأ التكفير والانغلاق
والتشدد وعدم التسامح لننطلق نحو رؤى المستقبل الذي لامكان فيه لأهل
التشدد ويعدهم الاخرون شيئا من الماضي والتاريخ المأساوي الذي ينبغي
تجاوزه؟
متى نشعر بان القطار العالمي سوف يفوتنا نهائيا وانه ربما لن يكن
لنا قدرة على اللحاق بركبه؟
الم يحن الاوان للمسلمين والعرب ان يرفضوا بشكل قاطع كل مايقف عقبة
بينهم وبين التقدم والتطور؟
انني اشك في امكانية تحقيق ذلك على المدى القريب، وليتني اكون مخطئا
في هذا التشخيص والتوقع.
alsemawee@gmail.com |