فن المغالطات والحجج الباطلة

زهير الخويلدي

ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنَّى يُصرَفُون

استهلال:

يضع الناس المعرفة في غير موضعها عندما يخطئون الوسائل اللغوية الشرعية التي تسهل عملية تحصيلها وتوصيلها وعندما يرغبون في التعلم لا بدافع ترجمة ميدانية لموهبتهم العقلانية ولا للتعبير عن فضول طبيعي وبالبحث عن التنوع والتفرد وإنما لقضاء للحاجة وطلب للشهرة والمجد ولتحقيق للربح الآني والمصلحة المادية وهذا أكبر الأخطاء ومنبع الشرور وخاصة حينما ينعكس ذلك سلبا على العلاقة بين الفكر واللغة وبين الكلام والمعنى ويصبح الذهن منقادا لسلطة الخطاب وتتحول ساحة المجتمع إلى سوق لغوية تشهد تزاحم الأصوات وتناطح اللهجات وتتحول اللغة إلى وسيلة مغالطة وفن من فنون التزييف ويتم إقحام الكلام البشري في استراتيجيات الخداع والتضليل التي تعتمدها السلطة.

هكذا يبدو أن الدافع إلى الخصومة والنزاع هو الذي يحرك المجهود الاستدلالي الذي يقوم به العقل البشري وذلك لأن الناس يتصارعون فيما بينهم على الكلام وبالكلام من أجل الهيمنة وحين يحاول البعض التعريف بمشاكلهم وعرض قضاياهم عن طريق البيانات المطولة والأقوال المستفيضة يخونهم اللسان وتعجز اللغة عن التعبير ويصابون بالعي ، وفي المجمل يحرص وعاظ الأخلاق وخطباء السياسة على ترصيع كلامهم بالجمل الرنانة والألفاظ الجذابة وذلك قصد التأثير في الناس والحصيلة هي دس الغث بالسمين والجيد بالرديء عن طريق شحن النفوس بالمتخيلات والأوهام بغية شحذ العزائم ودفع الهمم نحو العمل.

لكن حينما يشرع الناس في التصديق الفوري والتطبيق الآلي تظهر لهم عورات الخطب ويكتشفون قبح الكلمات وفشل المحاولات وتذهب أحلامهم سدى ويتبين لهم كذب الألسن وعرج الأسلوب ويسقطون في جب المغالطات والأقوال المغشوشة، ولذلك تراهم يسارعون إلى البحث عن طرق تحميهم من معسول الكلام ومن الأفكار الظنية المدسوسة بالاستدلالات السفسطائية ولا يجدون سوى الاعتصام بالعقل والاحتماء بفن المنطق كأحسن السبل العلمية للوقاية من وقوع الذهن في الزلل وللحماية من مصيدة المغالطات.فماذا نقصد بالمنطق؟ وماهي أقساهم؟ وهل هناك منطق لإنتاج الأوهام مثلما يوجد منطق لإنتاج الحقائق؟ وكيف نفسر وقوع الناس ضحية المغالطات؟ وماذا نعني بالمغالطات؟مم تتكون؟ وماهي أنواعها ومستوياتها؟ وما الفرق بين المغالطة والغلط؟ وما السبيل إلى التخلص من هذا المنطق التضليلي؟ وما علاقة ذلك بالجدل والخطابة والشعر؟ وهل يمكن توظيف الخطابة على نحو جديد من أجل تنقية الاستدلال من المغالطات وبلوغ التفاهم والوفاق بين المتحاورين؟

ما نراهن عليه وماهو في ميزان الفكر هو نقد امبريالية المنطق على عالم المعرفة ووضع حد لهيمنة القياس البرهاني على بقية الأنماط والعمل على تجديد منطق التفكير من خلال استثمار قدرة الخطابة والجدل والشعر والبلاغة على توليد المعنى وإنتاج الدلالة عبر وساطة المحاكاة والتخييل.

1- الفرق بين الغلط والمغالطة:

 إن الناس قليلي الخبرة ليس لهم بشأن الاستدلال والدحض سوى نظرة ضبابية.(2)

لو حاولنا رصد هذا المفهوم من الناحية الاتيمولوجية وتتبعنا أصله وفصله وتاريخ تكونه ومواسم هجرته وترحله فإننا نجد ما يلي: المغالطة هيσόφισμα في الإغريقية وفي اللاتينية sŏphism وفي الفرنسيةsophisme وتعني فيما تعنيه اختراع عبقري ومهارة في استعمال اللغة وترتبط بالحكمة sophía والمغالط هو السوفسطائي أخصائي الحكمة ورجل الخطابة ولكنها تعني الفكر المخادع وذلك لكون الاستدلال يبدو من حيث الظاهر صارما ومنطقيا ولكنه في الواقع ليس صالحا ولا مطابقا مع الحق.

من نافل القول أن المغالطة والغلط والمصادرة على المطلوب والوقوع في الدور والقلب الفاسد والمماثلة الباطلة وحجة السلطة والتعميم المتسرع والخلط بين المقولات هي كلها أشكال من الحجاج الباطل ومن القياس الناقص، ومن المعلوم أيضا أن الحجاج الباطل هو خلل في بناء الاستدلال في مستوى صيغته المنطقية وفي ترتيب المقدمات وفي استخلاص النتائج وفي إصابة الحد الأوسط بحيث تصير العملية التفكيرية غير مستقيمة وتسقط التجربة اللغوية برمتها في الصفاقة والرعونة.

 في هذا الإطار يتنزل البحث في فن المغالطة بماهو بناء استدلال يبدو في الظاهر متماسكا ومشروعا ولكنه في الواقع مختل من جهة صياغته المنطقية والغرض من هذا التلاعب هو الإيقاع في الخطأ وخداع الآخرين. وإذا كانت المغالطة sophisme تفترض الوعي بالخلل وتوظفه من اجل التمويه فان الغلط paralogisme هو اختلال في الاستدلال ناتج عن خلط غير مقصود ودون وعي من قبل واضعه والذي يكون ضحيته باعتبار أنه أول من يقع في شركه. من البين أن الغلط paralogisme هو فعل مضاد للقياس المنطقي يحاول فيه المتكلم عن حسن نية أن يبرهن على وجاهة رأيه ولكن يقع في الخلف.

 إن الغلط هو القدرة على فعل مواز للمنطق ولكن دون أن يكون متفقا مع القواعد السليمة للتفكير ودون أن تكون النتائج مستخلصة من المقدمات بطريقة علمية. ويمكن أن نشبه الغلط بأنه اختيار مسار عشوائي للتفكير أو التفكير عن طريق الصدفة والحظ والخروج عن قواعد المنطق نتيجة الغفلة أو الجهل أو السهو. في حين أن المغالطة هي التفكير باستعمال المكر والغدر والاحتيال مع دراية بالقوانين المنطقية والتفنن في استعمالها من أجل إنتاج الكذب وإيقاع الآخر في الزيف وقلب الحقيقة إلى وهم وتتعمد إيجاد الإقناع عن طريق الإبهار والدهشة واستخراج الحقيقة من الإحراج والمعضلة التي يقع فيهما المحاور.

 عندئذ كل مغالطة هي غلط ولكن ليس كل غلط هو مغالطة لأن هذه الأخيرة تتضمن سوء نية وما يمكن تفاديه. فالغلط خطأ غير إرادي في الاستدلال بينما المغالطة هي الخطأ وذلك عندما يتدخل ضغط خارجي في حالة البحث عن الحقيقة أو في حالة الخطابة والجدل وتقول الشعر. من ناحية أخرى تعرف الخطابة على أنها قياس مركبة من مقدمات مقبولة أو مظنونة من شخص معتقد فيه والغرض منها ترغيب الناس فيما ينفعهم من أمور معاشهم ومعادهم كما يفعله الخطباء والوعاظ. هكذا ننتهي إلى أن المغالطة هي الاستدلال المختل الذي يتعمد منتجه إخفاء عيوبه وإظهار تماسكه حتى يتمكن من التأثير في المصغين وإسقاطهم في مصيدة الغلط. ولكن يمكن أن تفهم المغالطة المنطقية على أنها خطا في التفكير والاستنتاج وقد تكون مقنعة عند البعض وتؤدي بالبعض الآخر للوصول إلى نتائج زائفة، وفي العموم هي صناعة علمية لا تفيد استنتاج اليقين في الحجاج بالضرورة طالما أن الخصم قد يسلم بها وقد يرفضها وبالقياس إلى أنها تسمى سفسطة إذا ما استعملت مع الحكيم وتدعى مشاغبة إذا ما طبقت مع الجاهل.

لكن ماهي أصناف المغالطات؟ وأي منزلة تحتلها بالمقارنة مع القياسات والبراهين المنطقية؟

2- منطق المغالطة :

لو برع المرء في تأليف أقوال تكشف عن الأخلاق وتمتاز بفخامة العبارة وجلالة الفكرة لما بلغ المراد من المأساة وإنما يبلغه حقا بمأساة أضعف عبارة وفكرة ولكنها ذات خرافة ولكنها ذات خرافة وتركيب أفعال.

إذا كان كل من سقراط وأفلاطون سعا إلى مواجهة المغالطات وذاك ببيان زيفها بالاعتماد على منطق غير صارم فإن أرسطو سيستعرض في الدحوض السوفسطائية مختلف الحيل اللغوية والوسائل التي ينبغي توخيها لدحضها وسيعمل على بناء علم صوري مهمته التمييز بين الاستعمال المشروع للغة والاستعمال لغرض التضليل والخداع وبين الاستدلالات العلمية والاستدلالات الظنية. ويتمثل المنطق في بعده الخطابي في فن بناء الخطاب المتماسك وفي فن الحصول على المعقولية دائما،غير أن بعض الخطابات تعتبر مغالطات زائفة بسبب عدم كفاية المقدمات أو عدم اتفاقها مع النتائج. والمغالطة هي قول مؤلف من قضايا شبيهة بالقطعية أو بالظنية أو بالمشهورة.

لقد ذكر الجرجاني في التعريفات أن: المغالطة هي قياس فاسد إما من جهة الصورة أو من جهة المادة... وقيل: المغالطة مركبة من مقدمات شبيهة بالحق ولا يكون حقا ويسمى سفسطة أو شبيهة بالمقدمات المشهورة وتسمى مشاغبة. بينما المظنونات هي القضايا التي يحكم فيها حكما راجحا مع تجويز نقيضه والقياس المركب من المقبولات والمظنونات يسمى خطابة.

في الواقع إنهوميروس بخاصة هو الذي علّم سائر الشعراء فن الاحتيالات المتقنة الصنع أعني المغالطة. فإذا كان وجود أو وقوع واقعة يستلزم، نتيجة له، وجود هو وقوع واقعة أخرى، فإن الناس يجنحون إلى اعتقاد أنه أينما وجد التالي وجد المقدم بالضرورة، ولكن هذا باطل. ولهذا فانه إذا كان المقدم باطلا، ولكن كان هناك شيء آخر يجب أن يوجد أو يقع إذا كان صادقا، فيجب ضم الاثنين لأنه متى كان العقل يعلم هذا الشيء الآخر صادق، فإنه يستنتج من هذا خطأ أن المقدم هو الآخر صادق.

هكذا تعمد المغالطة على منطق تضليلي وعلى خلاف الغلط توجد في المغالطة إرادة نحو الخطأ ورغبة في التزييف. كما ترتكز المغالطة على محرك التغليط والذي يفيد التفنن في إنتاج ماهو مخادع وصناعة ماهو كاذب وظني من الكلام بغية إقناع المستمع والتأثير في الغير.من هذا المنطلق يتم استعمال القياسات الكاذبة لغايات بيداغوجية تعلمية ولغايات اجتماعية مثل الهيمنة وكسب المنافع المادية.

 على هذا النحو ينبغي التمييز بين البراهين الصحيحة والمغالطات في حالة النقاشات الساخنة. كما أن المنطق التضليلي هو منطق كاذب بمعزل عن صدق المسلمات والنتائج. انه من الصعب التخلص من الاستدلالات الخاطئة وذلك لنجاعتها في الإقناع والحاجة اليها في بناء التماسك المنطقي لبعض القضايا.

غير أن ستيوارت ميل في كتابه نسق المنطق الاستنباطي والاستقرائي ( (1843 يقترح يضع المغالطات في أربعة أصناف وهي:

1- مغالطات التفتيش البسيط والقبلي simple inspection وتضم البديهيات والمشهورات التي لا تحتاج إلى برهنة.

2- مغالطات الملاحظة observation وهي أخطاء في الاستدلال ووقوع المرء في الزلل عند عملية البرهنة وذلك لضعف الوسائل ورداءة الأدوات.

3- مغالطات التعميم généralisation وهي الأكثر شهرة وناتجة عن اعتبار فكرة جزئية قاعدة عامة تنطبق على كل عمليات وتصلح في جميع ميادين المعرفة.

4- مغالطات الخلط confusion وهي ناتجة عن تصور فضفاض وتقدير سيء لقيمة برهان معين والتباس في المعايير والأبعاد والمقادير.

غني عن البيان أن المغالطة تتكون من عنصرين:

- الوهميات وهي الآراء الباطلة والقضايا الزائفة التي تصدر عن الوهم عند حكمه على الأمور المفارقة للحس والتجربة مثل الآراء الكاذبة حول الغيبيات.

- المشبهات وهي القضايا المنطقية التي تسقط في الكذب والزيف نتيجة اشتباه في الألفاظ أو خلط في المعاني.

في هذا الصدد يفرق المناطقة بين المغالطات الصورية التي ترتكز على نقاش مؤسس على شكل خاطئ من التركيب بين المقدمات والنتائج، والمغالطات غير الشكلية التي تحترم قواعد المنطقي الصوري ولكن تخالفه في المضمون وترتكب أخطاء في مستوى المعنى التجريبي للقضايا نتيجة التعميم المتسرع والافتراض المسكوت عنه والادعاء الكاذب. لكن كيف يقع الكشف عن المغالطات ودحضها؟

3- في الوعي بالمغالطات:

 صار استعمال الطرق الجدلية والسوفسطائية في الآراء التي تمكنت في النفوس عن الملة يزيل تمكنها ويوقع فيها شكوك يجعلها بمنزلة ما لم يصح بعد وينتظر صحتها أو يتحير فيها حتى يظن أنها لا تصح هي ولا ضدها.

إن الحجاج هو تقديم البراهين والأدلة المؤدية إلى نتيجة معينة ، وهو يتمثل في انجاز تسلسلات استنتاجية داخل الخطاب تفضي إلى إثبات صدقه والتأكد من يقينيته واقتناع المستمعين، وينبغي التمييز بين الحجاج الفلسفي وهو البرهان الذي يبني حججه على مقدمات يقينية وتكون النتائج لازمة لزوما ضروريا عنها والحجاج الباطل الذي يقوم على مقدمات ظنية واستنتاجات ضعيفة ويترتب عنه نتائج احتمالية.

إن البرهان هو القياس المؤلف من اليقينيات سواء كانت ابتداء وهي الضروريات أو بواسطة وهي النظريات، والحد الأوسط فيه لابد أن يكون علة لنسبة الأكبر إلى الأصغر، فإن كان مع ذلك علة لوجود تلك النسبة في الخارج أيضا فهو برهان كمي...وقد يقال على الاستدلال من العلة إلى المعلول برهان كمي ومن المعلول إلى العلة برهان آني. وأما منفعة هذه الصناعة أنها هي وحدها تكسبنا القدرة على تمييز ما تنقاد إليه أذهاننا هل هو حق أو باطل.

أما عدد أجزاء صناعة المنطق فيقدمها الفارابي في ثمانية أجزاء وهي المقولات والعبارات والتحليلات الأولى (القياس المطلق) والتحليلات الثانية (أمور البراهين) والمواضع الجدلية والمغالطات والخطبيات أو البلاغيات والشعريات، ويستفيض الفارابي في شرح فحوى الكتاب السادس بقوله:الكتاب الذي فيه هذا الجزء يسمى سوفسطيقا ومعناه المغالطات التي قصد مستعملوها أن يظن بها علما أو فلسفة من غير أن يكونوا كذلك. فإن سوفسطس معناه حكمة مموهة وعلم مموه أو مظنون بها أنها حكمة وليست كذلك.

من هذا المنطلق يسمى الفارابي الشخص البارع في التغليط بالسوفسطاي ويرى أن السفسطة تشمل الأمور المغالطة وما يضاف إليها ويصرح في هذا الشأن: هذه القوة إنما تحصل بأن يكون للإنسان القدرة على التمويه بالقول وعلى مغالطة السامع بالأمور التي توهم أن الذي يسمعه حق أو بحيث لا يمكنه دفعه.

علاوة على ذلك يطرح الفارابي مشكل المنزلة المعرفية والأنطولوجية التي يحتلها علم المنطق على النحو التالي:صناعة المنطق ليست ننظر فيها على أنها أحد الموجودات لكن على أنها آلة نتوصل بها إلى معرفة الموجودات فنأخذها كأنها شيء آخر خارجة عن الموجودات وعلى أنها آلة لمعرفة الموجودات.

من هنا يرفض الفارابي أن تكون هذه الصناعة المنطقية جزء من الفلسفة وأن تظل مجرد مقدمة لكل علم ويرى أنها آلة يقوى بها الإنسان على معرفة الموجودات وصناعة قائمة بنفسها وليست جزءا لصناعة أخرى ولا أنها آلة وجزء منها. فهل أن المنطق الأرسطي ظل على حاله في عصر الحداثة؟ وهل هو أورغانون منهجي أم قانون وجودي؟ وألا ينبغي الخروج عنه من أجل وعي حقيقي بالمغالطات؟

4- مغالطات العقل المحض:

أنا أخلط بالتالي التجريد الممكن لوجودي المتعين امبريقيا مع الوعي المزعوم بوجود ممكن لذاتي المفكرة ومستقلة، وأظن أني أعرف ما فيّ من جوهري كحامل ترنسندنتالي مع أنه ليس لدي في تفكيري سوى وحدة الوعي التي تؤسس كل تعيين بوصفه مجرد صورة للمعرفة.

إن المنعرج الذي حصل للفلسفة في عصر الحداثة هو نقد العقل مع كانط وذلك من خلال التمييز بين الاستعمال المنطقي للعقل والاستعمال المحض وذلك بأن نقيم تمييزا بين ما يعرف بلا توسط وما لا يعرف إلا بالاستدلال والإقرار بأن كل معرفتنا تبدأ بالحواس وتنتقل منها إلى الفاهمة وتنتهي في العقل الذي لا يصادف فينا شيء أسمى منه كي يشغل مادة الحدس ويحيلها إلى وحدة التفكير السامية.

على هذا النحو ينقسم كل استدلال إلى ثلاثة عناصر: قضية تلعب دور المبدأ وقضية أخرى تستمد منها النتيجة وفعل الاستنتاج الذي يربط بين القضيتين،يصرح في هذا السياق: في كل استدلال عقلي أفكر أولا قاعدة بواسطة الفاهمة ومن ثم أدرج معرفة تحت شرط القاعدة بواسطة الحاكمة وأخيرا أعين معرفتي بمحمول القاعدة وبالتالي قبليا بواسطة العقل.

غني عن البيان أن كانط يكشف عن المغالطات الأربعة التي تقع فيها البسيكولوجيا العقلية ويميز بين المغالطة المنطقية والمغالطة الترنسندنتالية على الشكل التالي: تقوم المغالطة المنطقية في غلط الاستدلال العقلي من حيث الصورة أيا كان مضمونه إلى ذلك. أما المغالطة الترنسندنتالية فلها مبدأ ترنسندتالي يجعلنا نغلط في الاستدلال من حيث الصورة وبهذه الطريقة يكون لمثل هذا الاستدلال المغالط أساس في طبيعة العقل البشري ويؤدي إلى وهم لا مفر منه وان كان لا يمتنع تحليله.

إذا كان الكوجيتو هو النص الأول الذي تستمد منه البسيكولوجيا العقلية حكمتها فإن نقد العقل يكشف عن جملة من المغالطات بخصوص هذا النص تتوزع كما يلي: النفس جوهر بسيطة من حيث كيفها وواحدة لا متكثرة في مختلف الأزمنة التي تمر بها وتقيم علاقة بالموضوعات الممكنة في المكان.

 ويرى كانط أن الجوهر يعطي اللامادية والبساطة تعطي اللافساد والشخصية والروحانية وأن العلاقة تعطي خاصية التبادل والجوهر المفكر كمبدأ للحياة يعطي خاصية الخلود. بيد أن كانط يكشف عن استدلال فاسد يوجد وراء مغالطة تسيطر على البسيكولوجيا العقلية برمتها وتكتفي بالإشارة إلى قضية الهوية دون الإحالة على أي نمط وجودي ويستعرضها على النحو التالي:ما لا يمكن أن يفكر إلا كحامل لا يوجد أيضا إلا كحامل وهو إذن جوهر. والحال أن الكائن المفكر منظورا إليه بماهو كذلك وحسب لا يمكن أن يفكر إلا كحامل. إذن، انه لا يوجد إلا كذلك أعني كجوهر. ا

لقد اكتشف كانط مغالطة هذا الدليل وذلك عندما قام بالتمييز بين الفينومان والنومان أو بين الجوهر والمظهر وأكد على أن مفهوم شيء يمكن أن يوجد بحد ذاته كحامل وليس فقط كمحمول لا ينطوي بعد على أي واقع موضوعي. فماهي التحولات التي طرأت على فن المغالطات في العصر الهرمينوطيقي التواصلي للعقل؟

خاتمة:

 لابد لنا أن نتأمل عن مزيد من القرب كيف تعمل الكلمات في الخطاب

أمكن للفكر الفلسفي المعاصر أن يبحث عن سبل يحرر من خلالها الحجاج من صرامة الاستدلال المنطقي الذي تكون فيه الحقيقة ضرورية ملزمة ويمكن تجاوز هيمنة النموذج الرياضي القائم على البرهنة والنموذج التجريبي القائم على التثبت وإقامته على شكل من الخطابة التي تستند إلى معقولية الحوار والإجماع والحرية التي تقر بنسبية الحقائق وتعددها مع تفادي الوقوع في النزعة الريبية وتستبد العنف وتهدف إلى تحقيق الإقناع والوفاق بين المتحاورين.

إن آيتنا من ذلك هو أن: في البلاغة القديمة بالطبع الكثير الذي يمكن للبلاغة الجديدة أن تنتفع منه، والكثير أيضا مما يمكن أن يكون مفيدا إلى أن يستطيع الإنسان أن يغير طبيعته والكثير من عاداته في الجدل والنقاش والإثارة والخداع والاعتداء على الضعفاء والمداهنة.

غني عن البيان أن الخطأ الكبير الذي أوقعتنا فيه المغالطة ناتج عن اعتقادنا بلوغ جواهر الأشياء ومعرفة الأمور بطريقة صحيحة وقدرة العقل البشري على تحصيل المطلق وعدم اقتناعنا بالبعد الاستعمالي للغة وبالطابع التطوري للمعرفة والخاصية النسبية للحقيقة، وهكذا نضني عقولنا في محاولة الكشف عن هذا المعنى الجوهري المشترك دون أن نتفطن إلى أن ما نبحث عنه هو حصيلة محاججة جدلية ضعيفة وسريعة.

ولعل أهم مقولة خضعت لهذا التجديد هو مفهوم الحجاج وذلك بنقله من التناول المنطقي الصارم إلى التناول الأنثربولوجي التداولي المرن والمفتوح في إطار اتيقا النقاش وآداب المحاورة في الفضاء العمومي. من هذا المنطلق صار الحجاج يعني متابعة بوسائل فكرية للنشاط الموجه نحو التفاهم المتبادل.

في السياق الخاص بهذه الخطابة الجديدة ينقسم الحجاج حسب يورغن هابرماس إلى ثلاثة مراحل هي المسار والإجراء والإقناع وينتهي بتقديم حجج ملائمة تزعم امتلاك الصلاحية، وفي ذلك يقول:الحجاج هو إجراء يتعلق بشكل من التفاعل المنظم على نحو يخص المسار الاستدلالي للوفاق. بين إذن أنه بفضل الحجاج القائم على أسباب غير إلزامية يمكن للمرء أن يفلت من المعضلة التالية: إما القبول بحقيقة جائزة موضوعيا وكليا، وإما الالتجاء إلى الإيعاز والى العنف لفرض القبول بآرائه وقراراته.

لكن المشكل الذي قيد البحث هو الاعتبار من ربط الخطاب القرآني بين المجادلة والمغالط في هذه الآية الكريمة: الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبُرَ مقتا عند الله وعند الذين آمنوا ،فكيف يتأتى الفهم الحقيقي للقرآن عن طريق امتلاك سلطان المجادلة؟ وهل يجوز الحديث عن منطق فكري خاص بالقرآن يدعونا إلى إتباعه؟ وهل هذا المنطق القرآني هو مفتاح لتأويل آيات القرآن أم أنه القواعد الصحيحة في التفكير والمنهج الرباني في الحياة ويلزم كل كائن بشري يتوق نحو النجاة في الآخرة والصلاح في الدنيا؟ وهل هو موائم لخصوصية لغة الضاد أم أنه ينطبق على كل لسان دون إشكال؟ ثم ماهي الشروط الضرورية إلى الارتقاء بهذا المنطق القرآني السليم إلى المنزلة الكونية التي تليق به؟

* كاتب فلسفي

......................................

المراجع:

أبو نصر الفارابي، الألفاظ المستعملة في المنطق، تحقيق محسن مهدي، دار المشرق، بيروت، الطبعة الثالثة، 1986.

أبو نصر الفارابي، كتاب الحروف ، تحقيق محسن مهدي، دار المشرق ، بيروت، طبعة ثانية 1990.

أرسطو طاليس، فن الشعر، ترجمة عبد الرحمان بدوي، دار الثقافة بيروت، لبنان، الطبعة الثانية 1973.

آ.أ. ريتشاردز، فلسفة البلاغة، ترجمة سعيد الغانمي وناصر حلاوي،أفريقيا الشرق بيروت، طبعة 2002.

الشريف الجرجاني، التعريفات، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 2000.

عمانوئيل كانط ، نقد العقل المحض، ترجمة موسى وهبة، مركز الإنماء القومي، بيروت، الطبعة الأولى، 1988.

Aristote, Réfutations sophistiques, , traduction Louis-André Dorion, Paris, Vrin, 1995.

Ch.Perelman et O. Tyteca. Traité de l’argumentation, éditions de l’université de Bruxelles - 1992

 J. Habermas, Théorie de l’agir communicationnel, éditions Gallimard 1980.

John Stuart Mill, Système de logique déductive et inductive, Pierre Mardaga éditeur, Bruxelles, 1988.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 26/أيلول/2010 - 16/شوال/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م