العراقيون للولايات المتحدة: شكرا على الفوضى

علي الأسدي

العنوان أعلاه ليس من عندي، بل هو عنوانا لمقال كتبه " شارلس مك ديرمد " من مجلة التايم الأمريكية عشية الاعلان عن انسحاب القوات المقاتلة من العراق.(1)

لقد تباينت المشاعر التي عبر عنها العراقيون تبعا لاجتهاداتهم في تقييم الدور الأمريكي في العراق، فبعضهم كان وما يزال مؤمنا بأن ما قامت به الولايات المتحدة تجاه شعبنا يستحق الاشادة والتقدير، فلولاهم لما سقطت الديكتاتورية، ولما تمتع العراقيون ببعض أجواء الديمقراطية التي كانت حلما غير قابل للتحقيق في ظل نظام خطط ليبقى ولو على أشلاء ملايينه الثلاثين. ولهؤلاء كل الحق لابداء امتنانهم للولايات المتحدة، وخاصة لمن اكتوى بعذابات ذلك النظام المتخلف، سجنا وتعذيبا وقمعا وخوفا وعوزا وبطالة، وتمييزا عنصريا وطائفيا وقبليا ومناطقيا ودينيا وعقائديا وسياسيا.

 نظام لم يعرف الرحمة أو العفو أو التسامح حتى مع أذنابه وعملائه ومرتزقته، ولم تفوته وسيلة شريرة إلا واستخدمها ضد العراقيين الوطنيين، فكان سببا في هجرة قسرية لملايين منهم تشردوا حول العالم، حاملين معهم متاعهم الوحيد وهو حبهم لوطنهم وثقافاتهم وتقاليد شعبهم. ويعبر هؤلاء عن ترحيبهم بما ستقوم به القوات الأمريكية المتبقية في العراق حتى عام 2011 وما بعدها، لأنهم يجدون في ما قامت به الولايات المتحدة ينسجم تماما مع المصالح الوطنية العراقية.

وهناك شطر من العراقيين لم يقتنع بموضوع الانسحاب أصلا، بل وكان يأمل من الأمريكان البقاء في العراق للدفاع عن العراق ضد الاعتداءات الأجنبية ولحماية المجتمع من حرب أهلية طائفية محتملة ربما تكون سنية / شيعية، أو كردية / عربية، أو كردية / كردية، أو عربية / عربية بين المحافظات و بين القبائل، لأسباب قد يكون من بينها النزاع على النفوذ والسلطة والموارد النفطية والأراضي الزراعية ومصادر المياه، أو لغيرها من الأسباب. ويمكن الاتفاق مع هذا البعض لأسباب موضوعية، أحدها التجربة المريرة التي مرت على العراقيين خلال عامي 2006 و2007 وما أدته من خسائر في الأرواح والممتلكات، وثانيهما وهو الأهم، عدم استكمال السلطة التنفيذية تكوينها المؤسساتي، وفي المقدمة منها ضعف الحكومة الاتحادية كمركز للقرارات السياسية، مما أجج الخلاف بين المركز والمحافظات.

ويضاف إلى ذلك عدم استكمال التشكيلات العسكرية والأمنية هيكليتها القانونية والتنظيمية والعددية اللازمة، وتجهيزاتها المادية والتقنية، والخلل الجوهري الذي اكتنف عملية الشروع بتأسيس تلك التشكيلات المتعلق بوحدتها الفكرية وانتماءها الوطني. فقد جرى بناء تلك التشكيلات في ظرف استثنائي، اعتمد على الكم والولاء الطائفي والانتماء الحزبي على حساب المهنية والوطنية العراقية، مما يهدد الوحدة والتماسك والتعاون والتعاطف بين أفرادها، وهو أخطر ما يواجه الجيش والشرطة والأمن في الوقت الحالي وفي المستقبل، اذا لم يتم تلافيه في أقرب وقت.

 وتنقل ليز سلاي عن السيد محمود عثمان النائب في البرلمان العراقي معارضته للانسحاب في الوقت الحاضر بقوله : " بعض الناس يعتقدون انه هروب تدريجي وانسحاب غير مسؤول، مرددا تعهد أوباما من أجل التوصل إلى انسحاب “مسؤول” للقوات الامريكية. “هذا هو ما يحدث في أمريكا، وليس حول ما يجري على أرض الواقع”.(2)

 أما الأوساط العراقية الأكثر احباطا، فهي تلك التي صدقت الحملة الاعلامية الواسعة التي سبقت الحرب على العراق مروجة لفكرة أن الولايات المتحدة ستحول العراق إلى يابان ثانية في الشرق الأوسط، وهو ما لم يحصل، مما تسبب بخيبة أمل كبيرة لهذه الشريحة من المجتمع. وقد نشرت العديد من المقالات في الصحف الأمريكية والبريطانية وغيرها لكتاب مرموقين عبروا فيها عن خيبة الأمل بخروج القوات الأمريكية من العراق قبل أن تنفذ وعودها باعمار العراق واستكمال بناء نظامه الديمقراطي، كما اجروا مقابلات مع ممثلي مختلف الشرائح الاجتماعية في بغداد خصوصا، عبر أصحابها فيها عن عدم رضاهم عن ذلك الانسحاب. فيكتب شارلس مك ديرمد في مقاله المشار اليه أعلاه في مجلة التايم قائلا:

" لقد غادرت القوات الأمريكية المقاتلة البلاد الآن، مخلفة وراءها 53 مليار دولار من خطة بناء اعمار لم تكتمل بعد، و50000 الف عسكري لتقديم المشورة ومساعدة السكان " وينقل الكاتب عن المواطنة العراقية " حسناء علي " وهي تتساءل : "ما الذي حققه الأميركيون لهذا البلد حتى يقرروا الآن أن يغادروا؟ " واضافت : "ليس لدينا مياه نظيفة أو كهرباء، وأسعار كل شيء عالية جدا، وليس هناك أمن، لاوظائف ولا سكن. واذا كان هدفهم من القدوم الى هنا هو منحنا الحرية والديمقراطية، فكيف يمكن أن يتركونا الان ونحن غارقون في الدم والقمامة؟ ". وتنقل الصحيفة عن مواطن آخر هو علي نصار، يعمل في جمع القمامة في بغداد قوله : "عندما جاءت قوات الاحتلال إلى العراق، كان من الجيد انهم تخلصوا من صدام حسين، ولكن في الحقيقة كل شيء ازداد سوءا، الأمن والكهرباء والمياه، والقمامة -- ولكن عندما يغادرون فلن يتحسن اي شئ أو يعود إلى ما كان عليه، ولا يهم، اذا كان الاميركيون هنا أم لا، فالعراق بلد مدمر".

وفي مقال في صحيفة الغارديان البريطانية بعنوان " وسط الحرارة والوعود، لم يفز سوى بائع الثلج " كتبه مارتن كلوف جاء فيه (3) : " بعد مرور سبع سنوات، و53 بليون دولار امريكي من اموال اعادة الاعمار، فأن بغداد لا تزال تعتمد على ألواح من الثلج للحفاظ على البرودة " ويستطرد قائلا: " فأن فكرة جورج دبليو بوش لخطة مارشال جديدة، الخطة التي ساعدت في إعادة بناء أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية في العراق تبدو وهمية على نحو متزايد".ويضيف المحرر: ” في جميع أنحاء العراق، ينظر وبشكل متزايد الى الانسحاب الامريكي على انه اندفاع للخروج، في حين انه لا يزال هناك الكثير من العمل الذي يتعين القيام به " وينهي مقاله بكلمات صانع الثلج تركي التي جاء فيها : “ انهم يريدون انهاء الامر، ولكن هذا لا يعني ان الامر قد انتهى، وهذا لا يزعجني على الرغم من ذلك، لأنني سأظل اصنع الثلج لمدة عشر سنوات قادمة، فقط انظروا الى الفوضى التي عليها العراق، هل تعتقد انهم سيرتبون الامور معا بشكل ما عندما يترك الرجل القوي المدينة؟ كلا، العراقيون سيأكلون بعضهم بعضا من أجل السلطة”.

ورغم ما تناقلته اجهزة الاعلام في الولايات المتحدة وبلدانا أخرى عن اهمية انسحاب القوات الأمريكية القتالية من العراق في الموعد الذي أعلن عنه إلا ان الصورة الحقيقة للوجود الأمريكي في العراق غير ذلك. فالقوات العسكرية المتبقية لا يمكن الاستهانة بها، فما تزال هناك خمسون الف جندي امريكي في اربعة وتسعين قاعدة امريكية، لها قدرات قتالية هائلة إلى جانب حوالي 4500 من المقاولين والمتعاقدين ضمن عشرات الشركات الأمنية. وبتعبير اخر فان ما حصل ليس أكثر من أعادة تسمية مهمة القوات العسكرية الباقية (بالفجر الجديد) لاسباب سياسية تتعلق بتعهد الرئيس أوباما بالانسحاب في المواعيد التي قطعها على نفسه، ويأتي ذلك تزامنا مع موعد الانتخابات النصفية القادمة لمجلس الكونغرس. دون أن نغفل أنه بالفعل قد جرى سحب أعدادا كبيرة من القوات الأمريكية، لكننا بنفس الوقت لا يجب أن نستبعد قيام الولايات المتحدة باختلاق التبريرات لتمديد بقاء قواتها الى مابعد الموعد الذي التزمت به من خلال الضغط على المسئولين العراقيين بتمديد بقاء القوات الى أمد طويل، وهو ما يتوقع أن تقوم به البعثة الدبلوماسية الكبيرة في سفارتها في بغداد.

وما يؤكد ما ذهبنا اليه، ما أورده الكاتب جيرمي هاموند في صحيفة الفورن بوليسي جورنال، في مقاله يوم الثالث من سبتمبر حول هذا الموضوع، حيث علق فيه على كلمة القاها قائد اللواء الكولونيل جون نوريس على جمع من الجنود في احتفال بمناسبة الانسحاب الأمريكي من العراق والتي جاء فيها : " انها مناسبة تستحق الاحتفال، عملية تحرير العراق تنتهي امام أنظاركم " وعلق الكاتب على ما ذكره الكولونيل : الآن نتذكر اعلان الرئيس بوش عن نهاية عمليات القتال الاساسية في الاول من مايس عام 2003 من على حاملة الطائرات وتحت لافتة تقول (المهمة انجزت) Mission Accomplished، وبعد اكثر من سبعة اعوام فان اعلان انتهاء عملية تحرير العراق يحمل نفس الأوهام". وينقل الكاتب نفسه عن صحيفة الواشنطن بوست قولها : " بأن خمسين الف من القوات الامريكية ستبقى في العراق بعد الانسحاب، أساسا كقوة للتدريب، ثم تنازلت الصحيفة بالاعتراف (وربما لن تكون هناك أبدا نهاية معترف بها للحرب في العراق، أو اللحظة التي ستكف فيها ان تكون صراعا امريكيا، او قدوم اللحظة التي سيتنتهي فيها فعلا الوجود الامريكي في العراق ".

 وينهي الكاتب مقاله بالقول : " من المفروض ان كافة القوات الامريكية ستنسحب من العراق بحلول الحادي والثلاثين من كانون الاول عام 2011ولكن المسرح قد اعد سلفا من قبل الخطاب السياسي الامريكي الرسمي لاستمرار الوجود العسكري الامريكي لما بعد هذا الموعد. لكن ما يهدد الاستقرار في العراق ليس هو الانسحاب الامريكي بل استمرار الوجود الامريكي ".(4)

أسباب امتناع الولايات المتحدة عن استنساخ تجربتها الناجحة في اليابان وأوربا

.الرغبة بالقيام بعمل ما غير التصميم والتخطيط له، وحشد الأموال وفرق البناء اللازمة لتنفيذ مهامه، أما الوعود وانجاز شارع هنا، وحفر قناة هناك، فلن تعيد بناء بلد تعرض لخراب الحروب لثلاثة عقود من السنين كانت الولايات المتحدة الأمريكية أحد أكبر المشاركين فيه. ولو كانت الرغبة الحقيقية قد توفرت بالفعل لدى الأمريكان لتمكنوا من انجاز الكثير خلال الأعوام السبعة الماضية لكنهم لم يفعلوا، لأنهم وببساطة شديدة لم يضعوه في سلم أولوياتهم، مع أن للعراق من الموارد النفطية والطبيعية ما لم تحظى بمثيلها أوربا أو اليابان،وله من القوى العاملة والكوادرالهندسية والادارية ما يكفي للاضطلاع بمهمة اعادة الاعمار الى جانب القدرات الأمريكية فيما لو حشدت بالفعل. نحاول أدناه البحث عن أسباب امتناع الولايات المتحدة عن استنساخ تجربتها الناجحة في اليابان وأوربا في الوضع العراقي.

السبب الأول قد تكون له علاقة بميزان القوى الدولية الجديد بعد اختفاء جبهة الاشتراكية العالمية في تسعينيات القرن الماضي. هناك حقيقة يجهلها كثيرون تعود لعهد الحرب الباردة، هي أن ما حفز الولايات المتحدة لبناء اليابان وأوربا حينها هو رغبتها في تجنيبهما الزحف الشيوعي الذي انتشر في أجزاء واسعة من أوربا كانتشار النار في الهشيم، وأصبحت ملهما لدول أخرى في أوربا وخارجها. ما عدا ذلك فالولايات المتحدة لم تحب أحدا، و لم تقع في عشق أوربا أو اليابان، عندما ساعدتهما في اعادة بناء اقتصادهما بعد الحرب العالمية الثانية، وهي ليست متيمة بحب العراق أيضا، إنها مسحورة بحب مصالحها وحدها، وذهبت الى أقاصي العالم باحثة عنها، وما وجودها في العراق الا لضمان تلك المصالح. لقد تناول هذا الموضوع بالتحليل، الصحفيان المخضرمان هانس- بيترمارتين و هارالد شومان في كتابهما الموسوم " فخ العولمة، الاعتداء على الديمقراطية والرفاهية " حيث كتبا :

" الزعم القائل بأن أمريكا تساعد باقي العالم على حل مشاكله حبا في الخير لوجه الله لا غير، هو زعم باطل أصلا. فبغض النظر عن كل ما بينها من اختلافات، لاتحقق حكومات الولايات المتحدة الأمريكية، منذ قديم الزمان، إلا ما تراه يخدم مصالحها القومية. فما دام يتعين مكافحة امبراطورية الشر في الشرق أي (الاتحاد السوفيتي السابق) كان من المصلحة ان أن يعم الرخاء والاستقرار أوربا الغربية أيضا، كواجهة حسنة للرأسمالية ودليل أكيد على فشل الشيوعية. الا أن حاجة واشنطن الى أوربا انتفت الآن. ففي أوغسطس عام 1996 جاء المثال التالي- فبحجة مكافحة الارهاب صادق الرئيس الأمريكي على قانون تمنع بموجبه جميع الشركات الأوربية واليابانية الناشطة في مجال البترول والبناء على وجه الخصوص من الدخول الى السوق الأمريكية، اذا ما استمرت هذه الشركات في التعامل مع ليبيا وايران ". ويشير الكاتبان مارتين وشومان أيضا الى حقيقة، " أنه منذ نهاية خطر الديكتاتورية البروليتارية في أوربا الشرقية،فان العمل جارعلى قدم وساق وبكل جدية واصرار على تشييد ديكتاتورية السوق العالمية. وهكذا تبين فجأة أن الرفاهية التي تنعم بها العاملين، لم تكن سوى تنازل اقتضته ظروف الحرب الباردة، وحتمته الرغبة في عدم تمكين الدعاية الشيوعية من كسب موقع قدم ". يظهر أن التغيير في ميزان القوى العالمية بزوال " كابوس الشيوعية " المرعب، ربما كان سببا لاهمال الولايات المتحدة لموضوع تنمية العراق الاقتصادية، وبهذه الحالة فان سوء الحظ وحده قد قاد الأمريكان لاحتلال بلادنا بعد زوال الشيوعية، بعكس ذلك كنا سنكون بالفعل يابانا ثانية في الشرق الأوسط.

السبب الثاني، ويكمن في حقيقة أن لا الولايات المتحدة ولا بريطانيا اللتين قادتا الحرب لاطاحة النظام الديكتاتوري السابق قد خطتتا لهيكلية سياسية مؤسساتية رصينة بديلة عن سلطة النظام السابق، تقود عمليات التغيير السياسي، وتضطلع بمهمة اعادة بناء ما خربته الحرب وفق منظور واضح ومدروس جيدا. بدليل أنهم تركوا مصير العراق لقرارات شخص لا خبرة و لا المام له بالواقع العراقي، ولم يكن مؤهلا لوضع صورة لعراق المستقبل، أو للمخاطر الخارجية والأطماع التي يمكن أن تهدد الوطن والمجتمع بعد انتهاء عهد الديكتاتورية الغاشمة. وهذا ما اعترف به أخيرا رئيس الوزراء السابق توني بلير في مذكراته التي نشرت أخيرا، حيث أورد، أنه وحليفه جورج بوش لم يخططا لما سيكون عليه العراق بعد اطاحة صدام حسين، و تجاهلا الدور الذي يمكن أن تلعبه كلا من ايران والقاعدة في مستقبل البلاد. وفي رأي كثير من العراقيين والعرب، المحتجين على عملية اسقاط النظام السابق، أن الرئيسين بلير وبوش لم يغفلا هذه القضية المهمة، بل تغافلا عنها، بهدف دفع العراق نحو الفوضى. فليس من المعقول في رأيهم أن يكونا على تلك الدرجة من الغباء السياسي، حتى يتجاهلا ما كان سيحدث بالتأكيد نتيجة انعدام الأمن والنظام.

 ويعتقد آخرون أن جهود اعادة بناء العراق لم تكن قد أخذت بالاعتبار أصلا، لأن المهمة كانت محددة باسقاط النظام وترك الأمر بعد ذلك للعراقيين لبناء بلادهم وادارة شئونهم. لكن خبراء سياسيون أمريكيون لهم وجهة نظر مغايرة في كل هذا وفي عملية الانسحاب من العراق أيضا. حيث رأى " كيل سبيكتور" مستشار الأمن القومي في مؤسسة " تيردواي " أن " الدرس الذي يتعين على صناع القرار السياسي تعلمه هو، هل لدينا مهمة واضحة، أم نتحسس الطريق فقط؟ " وأضاف : " ان حرب العراق قد تؤثر على قرارات المخططين العسكريين في المستقبل، فاذا واجهوا احتمال شن عمل عسكري فربما يرجعون بخواطرهم الى حرب العراق ". وقال مايكل أوهانلون، الزميل البارز " لمؤسسة بروكينغز " للأبحاث " ان " اهم الدروس الاستراتيجية المستفادة من حرب العراق هو ضرورة التخطيط لما بعد اثار الغزو، اذ لا يمكن للمرء ابدا افتراض ان نظاما ما سيخرج بشكل طبيعي من وسط الفوضى".(6)

 للأسف هذا ما حصل، لقد أقحمنا بتلك الفوضى، وما زلنا في قلبها الى جانب أشلاء آلاف الضحايا من الشيوخ والشباب والأطفال، وسط القمامة وأنقاض المدن، في مشهد لا يتذكر العالم مثيلا لفظاعته عدا ما حل بمدينتي هيروشيما وناكزاكي اليابانيتين بعد القاء القنبلتين الذريتين عليها. لقد عبر رئيس الحكومة السابق توني بلير عن شعوره بالذنب، ليس تجاه الشعب الذي ما يزال ينزف بسببه، بل تجاه العسكريين البريطانيين الذي قضوا نتيجة أخطاء السياسة، فتبرع لهم بجزء من موارد مبيعات مذكراته التي نشرها مؤخرا. لم يتذكر السيد بلير ولو لبرهة أن يفعل الشيئ نفسه لأيتام وأرامل ومعوقي حرب العراق الذين يشكلون حاليا حوالي ربع تعداد سكان بلادنا.

أما السبب الثالت الذي نعتقد أنه وراء عدم التزام الولايات المتحدة بمهمة اعادة بناء العراق، فهو المصاعب الاقتصادية الجدية التي تواجهها منذ سنوات والتي لا تبدو لها نهاية قريبة. وكان الصحفي الأمريكي توماس فريدمان قد كتب في 3 / 9 / 2006 في صحيفة النيويورك تايمز، مقالا، وصف الحالة الاقتصادية لبلاده بدقة تغني عن الكلام الكثير، حيث يقول: " لقد خرجت الولايات المتحدة قوة عظمى من الحرب العالمية الثانية تحمل الخبز والسلاح للجميع، وإحدى القوتين العظميين خلال الحرب الباردة، والأمة التي لا غنى عنها بعد الانتصار في الحرب الباردة، و«القوة العظمى الهزيلة» اليوم. حاولوا أن تعتادوا عليها، فهذا هو لقبنا الجديد. فلا حاجة لأن يقلق معارضو الحرب بعد الآن بشأن خيار الحرب، فلن نقوم بذلك مرة أخرى. فلن نتحمل تكلفة غزو غرينادا * اليوم ". ما تحدث عنه السيد فريدمان نذكر بعض تفاصيله أدناه، لا لنبرر تقاعس بلاده عن تعهداتها بالمساعدة في أعادة بناء العراق، بل لأننا جزءا من الالتزامات الاقتصادية والسياسية والأخلاقية الأمريكية التي عليها الايفاء بها.

 كجزء من جهودها لتجاوز المصاعب الاقتصادية، تسعى الادارة الأمريكية لمعالجة العجز في الميزانية الاتحادية، وتخفيض الدين العام الأمريكي الذي بلغ حتى نهاية النصف الأول من هذا العام 13.442 تريليون دولار، مشكلا نسبة 92 % الدخل القومي الاجمالي لعام 2009، ويتوقع أن تزيد الحالة سوء مع اتساع حدة وسعة العمليات العسكرية في أفغانستان. حيث يرى الخبراء الماليون في الخزانة الأمريكية أن الدين العام سيرتفع في عام 2014 الى 18.350 تريليون دولارا، لتبلغ نسبته في الدخل القومي 99.8 %، وهي نسبة لم يبلغها الدين العام الأمريكي منذ حروب الاستقلال. وعلى خلاف الحروب الكثيرة التي خاضتها الولايات المتحدة في العالم والتي كانت تمول عن طريق زيادة الضرائب على الشعب الأمريكي، فان حرب العراق وأفغانستان تمول حاليا من خلال الاقتراض من دول أجنبية على رأسها الصين الشعبية واليابان وبريطانيا. فقد اقترضت في المتوسط حوالي 500 بليون دولارا سنويا بين 2003 -2007، وفي 2008 وحدها اقترضت 962 بليونا و في 2009 اقترضت 1786 بليونا، وحتى نهاية الربع الثاني من 2010 بلغ ما اقترضته 1471 بليونا من الدولارات. وقد بلغ المتوسط السنوي لمبالغ الفوائد على الدين العام الأمريكي حوالي 240 بليون دولارا، أو ما يعادل 9.5 % النفقات الحكومية السنوية.(7)

ولعلم القارئ العزيز أن الدول الدائنة للولايات المتحدة هي الأخرى غارقة في الديون (عدا الصين) فالدين العام الياباني يقترب من نسبة 240 % دخلها القومي، فيما يبلغ الدين العام البريطاني حوالي 50 % دخلها القومي.

 أما التكاليف المالية التي أهدرتها الولايات المتحدة خلال حرب العراق وحده فقد بلغت حوالي 10 ملايين دولارا في الساعة الواحدة، أي ما يعادل حوالي 344 مليون دولارا في اليوم الواحد. وكما يرى الأستاذ جوزيف ني ستيغليتز: (8) " أن هذه الحرب كانت بمثابة وبال اقتصادي علي أمريكا. ولا ينحصر الأمر في المبالغ الهائلة التي أنفقتها أمريكا علي الحرب بالفعل والبالغة 12 مليار دولار شهرياً، وما زال العد مستمراً بل إن المعضلة الأكبر تكمن في فاتورة الحرب التي لم تسدد بعد، مثل التعويضات والرعاية الصحية اللازمة لحوالي 40% من الجنود العائدين من الحرب بعاهات أغلبها خطيرة للغاية ". ويتساءل الاستاذ ستيغليتز، ويقصد هنا ادارة السيد جورج بوش الابن، " من كان يتصور أن إدارة واحدة قد تحدث مثل هذا القدر من الضرر بهذه السرعة؟ المؤسف هنا أن أمريكا، والعالم، سوف يتحملان ثمن إصلاح هذا الضرر لعقود قادمة من الزمان"

وبصرف النظر عما ارتكبته الولايات المتحدة من أخطاء جسيمة بحق المواطنين العراقيين الأبرياء وممتلكاتهم، وما سببته عملية الاحتلال من خراب في البنية الاقتصادية والاجتماعية لبلدنا، وبرغم ما نعتقده بأن على الولايات المتحدة التزاما أخلاقيا قبل أن يكون قانونيا أن تقوم باعادة بناء بلدنا وتعويض مواطنيه عن الظلم الذي لحق بهم نتيجة حربهم، هناك كلمة حق يجب أن تقال بحق موقفين مهمين للقوات الأمريكية.

أولهما، الموقف الصلب الذي اتخذته القوات العسكرية في كبح أعمال العنف إبان الأحداث الدموية في عامي 2006 و2007 بعدما نجحت قوى التكفير المرتبطة بالقاعدة الارهابية في تأجيج الصراع الطائفي بين السنة والشيعة،والتي أوشكت بسببها أن تندلع حربا اهلية طائفية لم يكن يرغب فيها غالبية الطرفين. لكن ومع كل التضحيات التي تحملتها القوات الأمريكية بسبب تلك الاحداث، لم يكن الهروب من المعركة خيارها الأفضل، بل اختارت الصمود وعدم الاستسلام، رغم الدعوات الكثيرة من الداخل الأمريكي بالانسحاب من العراق. لأنهم يعرفون أنه ليس بوسع المجتمع الأمريكي القبول بهزيمة على غرار هزيمتهم في فيتنام في سبعينيات القرن الماضي، أو تكرار هزيمة القوات السوفيتية في أفغانستان، عندما هربت من المعارك تاركة الحكومة الأفغانية العلمانية الوطنية هناك، تواجه مصيرها المجهول في حرب غير متكافئة مع بهائم المجاهدين طالبان بعد ذلك، المدعومة حينها بكل سخاء من قبل الولايات المتحدة وباكستان والسعودية بشكل خاص.

وثاني المواقف التي تستحق التقدير، هو ما حققه القائد العسكري الأمريكي في العراق حينها الجنرال ديفيد بترايوس. فقد نجح هذا في اقناع عشرات الآلاف من المسلحين من السنة العرب، بوقف نشاطهم المسلح ضد القوات الحكومية والأمريكية، وشجعهم على التوقف عن احتضانهم ودعمهم لارهابي القاعدة وحلفائها. وليس ذلك فحسب، بل أقنعهم بالمشاركة في المجهود العراقي تحت ما اطلق عليه حينها مجالس الصحوة التي ما زالت لحد اليوم تعمل لحفظ الأمن في مناطق عديدة، كانت عبارة عن محميات تحت سيطرة الجماعات التكفيرية الارهابية، واكثر من ذلك قيام تلك المجالس بمطاردة فلول الارهابيين وطردهم من الأوكار التي كانوا يخططون منها هجماتهم على المدنيين والقوات المسلحة العراقية.

إن المثال أعلاه كان يمكن أن تقوم به السلطات العراقية من خلال الحوار البناء، ومحاولة اقناع المجاميع المسلحة بأن طريق خدمة العراق هو بناءه لا ترويع شعبه الذي هم جزءا منه، لكن السلطات العراقية أغفلت ذلك وما تزال تتغافل عن كسب كثيرين، استغفلتهم القوى الارهابية لتمرير اهدافها السوداء لخدمة أعداء العراق وراء الحدود. وما تزال الفرصة سانحة لمد يد المساعدة للكثير من الشباب وانتشالهم من حياة العوز والضياع، فأكثرهم عاطلون عن العمل محبطون، ولايمكن الجلوس والانتظار لحظة صحوة الضمير لديهم، والتراجع عن ما اعتادوا ممارسته منذ سبعة أعوام. إن مثل تلك اللحظة قد تأتي فعلا، وربما لن تأتي أبدا. السماح بذلك وانتظار الآخر ليقدم الطاعة بدون أي مقابل لا يقودنا إلى أي شاطئ أمان، علينا تقع مسئولية تعزيز وحدة الشعب الوطنية، وعلينا تقع مسئولية اعادة بناء بلدنا قبل أي جهة أخرى، فلا أحد يقوم بذلك نيابة عنا، لا الولايات المتحدة ولا غيرها.

......................................

لزيادة الاطلاع أنظر:

1- شارلس مك ديرمد، " العراقيون للأمريكان... شكرا على الفوضى "- مجلة التايم الأمريكية – ترجمة صحيفة الاتحاد الكردستانية.

2- ليز سلاي- لوس أنجلس تايمز – " مع تأخر تشكيل الحكومة: لا ابتهاج في الشوارع مع رحيل القوات القتالية الأمريكية "، صحيفة الاتحاد الكردستانية.

3- مارتن كلوف- الغارديان اللندنية – " وسط الحرارة والوعود، لم يفز سوى بائع الثلج " الاتحاد الكردستانية.

4- جيرمي هاموند – " الخطاب الرسمي الأمريكي حول الانسحاب من العراق " مجلة فورن بوليسي جورنال الأمريكية – صحيفة " الاتحاد الكردستانية "

5- هانس- بيترمارتين و هارالد شومان – " فخ العولمة – الاعتداء على الديمقراطية والرفاهية "،تأليف د. عدنان عباس علي، عالم المعرفة، الكويت 1998 ص. 389

6- أور نيوز / واشنطن – خبراء أميركيون يناقشون مواطن الفشل في حرب العراق- 3

 / 09 / 2010

7- United States Department of The Treasury

8- جوزيف ني ستينغليتز- أستاذ علوم الاقتصاد بجامعة كولومبيا، وحائز علي جائزة نوبل في الاقتصاد في العام 2001. وكان آخر كتاب من مؤلفاته بالاشتراك مع ليندا بيلمز تحت عنوان " حرب الثلاثة تريليون دولار: التكاليف الحقيقية للصراع في العراق ".

* (غرينادا، جمهورية صغيرة في البحر الكاريبي مساحتها عدة كيلومترات مربعة،عدد سكانها في حدود 80 ألف نسمة، كانت مستعمرة بريطانية سابقة أقامت علاقات تعاون وثيق مع النظام الكوبي بعد استقلالها، غزتها الولايات المتحدة في عام 1983 من القرن الماضي فاسقطت نظامها بعد أن اغتالت رئيسها الشاب، خشية أن يقيم نظاما مشابها للنظام الكوبي مما يشكل خطرا على أمن الولايات المتحدة.. ؛؛؛).

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 19/أيلول/2010 - 9/شوال/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م