من يراقب سيرة السيد نوري المالكي السياسيّة في كسب السلطة والحفاظ
عليها منذ أن تولى المنصب الأول في الحكومة العراقية والى هذه الساعة،
يجدها سيرة لا تخلو من الدهاء والحنكة. لم يكن المالكي معروفا في
الأوساط العامة في بدايات التغيير في العراق، فهو ليس عضوا في مجلس
الحكم ولا منافسا على المركز الأوّل في الدولة، حيث لم يكن مكان خشية
السياسيين المتنافسين على السلطة. إنما في الحقيقة كان الشخصيّة
الثانية في السلّم التنظيمي لجناح من أجنحة حزب الدعوة الإسلامية الذي
كان يقوده الدكتور إبراهيم الجعفري، وكانت حصة هذا الجناح من المقاعد
البرلمانية خمسة عشر مقعدا حسب تقسيمات ومحاصصة الإئتلاف العراقي
الموحد أنذاك.
ففي الإنتخابات البرلمانية التي تمخضت عن أول برلمان عراقي عام
2006م كان الدكتور الجعفري مرشحا عن كتلة الإئتلاف العراقي الموحد
لرئاسة الوزراء، إلاّ أن رفع الأكراد للفيتو بوجهه جعله يتنازل عن هذا
المنصب للشخصيّة التي تليه أي للسيّد المالكي الذي حاز على الرضا
والتأييد من دون ضجيج وممانعات.
هنا لعب الحظ دوره في تسلّق المالكي قمة الهرم أو ربما الأمور كانت
أكبر من ظواهرها في كيفية حصوله على هذا المنصب. لم يكن حكم العراق في
تلك الظروف نزهة جميلة للسيد المالكي، بل كان عليه أن يتدبر أمره أمام
الكثير من التحديات والمصاعب. أهمها: الأمن المتردي، حالة عدم
الإستقرار في كل الأوجه: السياسية والإدارية والإقتصادية والإجتماعية
والنفسية وغيرها، إعادة بناء البنية التحتية المدمرة، الموازنة بين
متطلبات وأهواء الأطراف الخارجية المتناقضة، وأخيرا الحفاظ على كرسي
الوزارة من الوقوع بسبب الهزات الأرضية القوية التي تعرض لها.
النجاح السياسي الأول للمالكي هو أن أستطاع وبسرعة نسبيّة أن يشكل
حكومة مشاركة وطنية تضم غالبية الأحزاب والكتل المعروفة على الساحة وهي
مهمة ليست سهلة أمام أول تجربة بهذا المضمار. هذا التآلف في صياغة
الحكومة سرعان ما أنفرط حينما انسحبت غالبية الكتل المتآلفة، فخرج
التيار الصدري بثقله منه وخرج حزب الفضيلة وهما مكونان من مكونات
الإئتلاف العراقي الموحد، إضافة الى إنسحاب الأحزاب والتكتلات الأخرى
كحركة الوفاق الوطني وجبهة التوافق وغيرها من الكتل والأحزاب السياسية
المشاركة في الحكومة أنذاك، حتى بلغ العدد الكلّي للوزراء المنسحبين
السبعة عشر وزيرا.
التفتت الذي حصل في حكومة المالكي كان قياسيّا ولو حصل ما يشابهه في
أي حكومة ديمقراطية في العالم لسقطت منذ اليوم الأول، لكن نواميس
السياسة في العراق غريبة وإستثنائية. لم يتزحزح المالكي من موقعه بل
بقي متمسكا فيه رغم إنسحاب نصف وزرائه. فرغم هذا الإهتزاز بقى المالكي
يتحدى تمرد الآخرين بمختلف صوره ولم يتردد بإستخدام كلّ الوسائل والسبل
في الحفاظ على السلطة والإمساك بزمام الأمور. حارب على الصعيدين
السياسي والعسكري بكل ما أوتى من قوّة، فقد وقف بوجه من تمرد من
الصدريين بمعركة دموية شرسة حصلت في جنوب العراق سماها صولة الفرسان.
وحارب القاعدة والمجاميع المسلحة بمساعدة أرتال قوات الصحوة التي شجع
على تأسيسها وتمويلها رغم الإعتراضات الكثيرة عليه.
لم يتهاون مع كلّ من يهدد سلطته، كرديّا كان أم عربيّا، سنيّا كان
أم شيعيا، علمانيا كان أم إسلاميّا، حتى خفت حدّة النعرات الطائفية
وأنحسرت ظاهرة القتل على الهوية في زمنه وتمت السيطرة على الأحياء التي
كانت تسيطر عليها الجماعات المسلحة وأوقفت عملية التهجير القسري ورجع
بعض الناس الى مساكنهم مما أوحى بتحسن واضح في الحالة الأمنية العامة
وإن كان ذلك دون مستوى الطموح.
استطاع المالكي أن يتسلم رئاسة حزبه بعدما فشل الدكتور الجعفري في
البقاء في منصبه كرئيس لهذا الحزب وغادر الأخير حزب الدعوة ليشكل حزبا
آخرا أسماه " تيار الإصلاح" الذي لم يرق في شعبيته الى مستوى الطموح،
بل بقي حزب الدعوة صاحب القدح المعلىّ بين رواده ومناصريه لأن قاعدة "
البقاء للأقوى" هي شعار السياسة في العراق!. هذا على صعيد حزبه أما على
صعيد المجتمع العراقي بشكل عام فقد نجح المالكي في إستمالة الكثير من
رؤساء العشائر العراقية من أجل بناء قواعد شعبية له، إذ أن الولاء
العشائري لا زال طاغيا في المجتمع العراقي بل زاد وتشجع بعد التغيير.
وفوق هذا وذاك فإنه أجتهد في بناء مؤسسة أمنية وعسكرية موالية له
ولم يتردد بإستدعاء أهل الخبرة والمعرفة من ضباط ومراتب الجيش المنحل.
أما على صعيد العلاقات الخارجية فأنه وازن في علاقاته بين الأقطاب
الخارجية المهمة والمؤثرة في معادلة الهيمنة على الساحة العراقية
وبالأخص القطبين الرئيسيين الأمريكي والإيراني. كان المالكي ذكيّا في
مسك العصا من وسطها مما جعل نفسه غير مرفوضا من قبل هذين القطبين. ربما
لم يكن يمثل طموح الإيرانيين أو الأمريكيين في شخصيته وسيرته، لكنه يعد
مقبولا وحلاّ وسطا لكل منهما ان قورن بمن يتخذ أحد الأقطاب المتناقضة
إماما له. فالإيرانيون يفضلونه على رئيس القائمة العراقية الدكتور أياد
علاوي الذين يعتبرونه من الموالين لأمريكا، والأمريكيون من جهتهم
يفضلونه إن قورن برؤساء الأحزاب الإسلاميّة الشيعيّة الكبيرة الأخرى
كالتيار الصدري أو المجلس الأعلى الإسلامي. حافظ المالكي على التوازن
بين مصالح القطبين الكبيرين، إذ كانت سياساته تستلطف مشاعر الأمريكين
من جهة ولا تبغض الإيرانيين بشكل ملموس وواضح.
إستلطفته أمريكا حينما قاتل متمردي التيار الصدري وأبلى فيهم "بلاءا
حسنا" وأستلطفته أيضا حينما ثار على السوريين وهدد وتوعد بعد أن إتهمهم
بإيواء ومساعدة المسلحين والإرهابيين، حيث وصلت الأمور الى تقديم دعوى
في المحكمة الدولية ضد سوريا. كما أن توقيعه على المعاهدة الأمنية بين
العراق وأمريكا رغم إعتراضات الإيرانيين عليها كان برهانا واضحا
للأمريكيين بأن عليهم أن يناموا مستلقين على ظهورهم، فمصالحهم محفوظة
في ظل ولاية المالكي. أما الإيرانيون فيصعب عليهم التشكيك بنوايا
المالكي وهو قائد لحزب إسلامي جعفري، وحتى إن وصلت الأمور الى حد الشك
وسوء الظن فسيصعب عليهم التصريح بها على الأقل في الوقت الراهن. هكذا
كسب المالكي لعبة الأطراف الخارجية مما جنبه،على أقل تقدير، إعتراض هذه
الأطراف عليه في التجديد لولاية ثانية.
أما في الإنتخابات البرلمانية الأخيرة فقد رفض المالكي منذ بدء
الحملة الإنتخابية الإنضمام الى تكتل الإئتلاف الوطني العراقي رغم
الدعوات والصرخات، مما أوحى للاخرين بوجود إنشقاق في الصف الإسلامي
الشيعي. في الحقيقة ليس هناك إنشقاقا، إنما كان المالكي يعتقد إعتقادا
موثقا بأنه سيحصل على كم كبير من أصوات الناخبين في الإنتخابات الأخيرة
يجعل تكتله السياسي "إئتلاف دولة القانون" أكبر من أي تكتل سياسي آخر
وهذا ما سيضعه في موقع الإقتدار والقوة لتمرير نفسه مرة أخرى لولاية
ثانية. أما إن إنضم منذ البداية الى الإئتلاف الوطني العراقي فهذا يعني
ضياع الأصوات وضياع فرصة ترشيحه للولاية الثانية، خصوصا بوجود أعداء
كثيرين له في هذا الإئتلاف. أصر المالكي أن يكون خارج الإئتلاف وأوحى
بأنه سيتآلف معه بعد إعلان نتائج الإنتخابات، أي يتآلف وبيده مفاتيح
الخزينة كي تبقى له حصة الأسد في تشكيل الحكومة.
فعلا أعلن رسميّا إئتلافه وإنضمامه الى الإئتلاف الوطني العراقي
مباشرة بعد الإنتخابات كي يفوّت الفرصة أمام القائمة العراقية التي
أحرزت النسبة الأكبر من أصوات الناخبين والتي على أساسها وحسب الدستور
تمنح إستحقاق التكليف بتشكيل الحكومة. وهكذا خفّف من حدّة وتعدد
الصراعات التي حوله وجعلها مقتصرة على دائرة التحالف الوطني الذي يضم
إئتلاف دولة القانون والإئتلاف الوطني العراقي.
صراعه مع الإئتلاف الوطني العراقي بدأ بعد إعلانه بأنه المرشح
الوحيد في دولة القانون لرئاسة الوزراء وهذا يعني،
أولا: عدم تشتيت أصوات قائمته بترشيح شخصا آخرا للمنصب وعدم
المجازفة بتضييع فرصة توليه مقاليد الحكم مرة ثانية إن جعل منافسا له
من حزبه.
ثانيا: لقد أغلق الباب أمام أعدائه من الصدريين وغيرهم في كسب أو
إستمالة شخصيّات من حزبه أو من أحزاب متآلفة مع حزبه حيث حافظ على كيان
إئتلافه ومنعه من الإنفراط والتشتت رغم المرغبات والمنشطات
والإستهواءات التي عرضت على أعضاء وأحزاب هذا الإئتلاف من قبل الأطراف
الأخرى.
ثالثا: أن إصراره على التمسّك بالسلطة رغم الضغوطات الكبيرة
المسلطة عليه من الداخل والخارج، جعل الكتل الأخرى عاجزة عن إيجاد حلول
تستطيع من خلالها تجاوز المالكي أو السير بموازاته. فقد نجح بتمرير
شعاره " أما المالكي وأما لا حكومة من بعده...".
بعد هذا النجاح السياسي في أداء المالكي لكسب السلطة والحفاظ عليها،
ستبقى عيون المراقبين تنتظر نتيجة الإمتحان الأكبر الذي يعتبر الأهم في
سيرة حياة هذا الرجل السياسيّة. فإن نجح في مسعاه وكسب ولاية ثانية
فهذا يعني تربعه على سدة الحكم الى أجل غير مسمّى! وإن فشل فيه فهذا
يعني بأنه سيرحل عن وجه السياسة الى الأبد ويصبح في ذمة التأريخ!.
ومهما كان من أمر فقد يتمتم العراقيون مع أنفسهم ولسان حالهم يقول: لو
كان لدينا سياسيون أقوياء وأذكياء في تطوير بلدهم وإصلاحه، كقوتهم
وذكائهم في الحفاظ على كرسي الحكم، لأخذ العراق يقفز قفزات متوالية نحو
الرفاه والعلى..... |