مغزى تراجع اليابان

عن موقع الاقتصاد الثاني في العالم

علي الأسدي

قد يكون من الأصح اطلاق تسمية الجزر اليابانية بدل اليابان، لكونها بالفعل بلدا يضم 6852 جزيرة، وربما من الأجمل العودة إلى اسمها القديم المشتق من الشمس "أرض مشرق الشمس" الذي تناقلته أساطيرالأولين.

 يبلغ عدد نفوس اليابان مائة وثماني عشرون مليونا ينعم أكثرهم بمستويات معيشة هي بين الأعلى في العالم، و يعتبر العمر المتوقع للسكان فيها من الأطول في العالم، إضافة إلى تمتعها بأقل نسبة في وفيات الأطفال مقارنة بدول مقاربة لها في مستويات المعيشة، لكنها تواجه حاليا انكماشا سكانيا أخل بالتوازن العمري فيها حيث زيادة نسبة كبار السن على حساب الأجيال الشابة، بسبب معدل الولادات السالب.

 ظل الاقتصاد الياباني وعلى مدى الأربعين عاما الماضية الاقتصاد الثاني في العالم بعد الولايات المتحدة، قبل أن تتصدى لها أخيرا مستعمرتها السابقة بلاد ماوتسي تونغ، التي تمكنت من إزاحتها والحلول مكانها.لقد كانت الصين قبل خمس سنوات فقط تستقبل معونة اليابان بارسال المستشاريين والخبراء للمساعدة في بناء وتحديث طرقها ومطاراتها، وتقوم حتى بتمويل عمليات البناء فيها، كما يذكر ميجيو ناكاموتو في مقاله في الفاينانشال تايم في 22 اب الجاري(1)، في حين كان ناتجها القومي يعادل نصف مثيله الياباني. رغم ذلك تمكنت الصين في أقل من عشرة سنين من زيادة ناتجها القومي متجاوزة لأول مرة في تاريخها حجم الناتج القومي لليابان.

لكن كبير الاقتصاديين في مصرف باركلي في طوكيو السيد كيوهي موريتا له نظرة أخرى للتفوق الصيني، إذ يقول : " إن الأرقام الأخيرة عن الناتج القومي الصيني ليست اكثر من علامة رمزية " ويضيف : " إنه في الوقت الذي يوجد في الصين بضعة عشرات من أصحاب المليارات، فإن مليارا وثلاثمائة مليونا من الصينيين لا يتجاوز دخل الواحد منهم أكثر من دخل المواطن في أكثر البلدان فقرا في العالم".

لايمكن أخذ قول السيد موريتا على أنه واقع الحال في الصين، فقد أفلح الصينيون بالفعل من تحرير أكثر من 300 مليون مواطن من تحت خط الفقر، وهو ليس بالانجاز السهل فالرقم 300 مليون يزيد عن عدد سكان الولايات المتحدة الأمريكية.

 لقد نما الاقتصاد الياباني منذ عام 1960 بمعدلات عالية تراوحت بين 5 % - 10 % حتى 1980، قبل أن تبدأ قيمة الين الياباني في الارتفاع بالنسبة للعملات الأخرى القوية في سوق الصرف الأجنبي، حيث أدى ذلك إلى انخفاض الطلب لأول مرة على صادراتها. تبع ذلك هبوط معدلات نموها الاقتصادي في السنين التالية، مما دفع باليابان إلى اعادة ترتيب خياراتها في استثماراتها الصناعية في داخل البلاد وخارجها. فبدأت بنقل أهم صناعاتها إلى جاراتها في جنوب شرقي اسيا وبخاصة إلى الصين الشعبية، حيث تكاليف الانتاج فيها منخفضة كثيرا عن ما هي عليه في اليابان نفسها. لكن فقاعة الأسهم والعقارات التي انفجرت بداية عام 1990 عرضت الاقتصاد الياباني إلى موجة جديدة من الركود الاقتصادي، كانت اولى نتائجها ظهور البطالة لأول مرة منذ عام 1950، حيث ارتفعت من حوالي 0.0 % في عام 1990 إلى 2.2 % عام 1992، والى 3.2 % في عام 1995،والى 4.9 % في عام 2000 والى 5.7 % في 2009 (2)، لكن هذه النسبة رغم ذلك تعتبر الأقل بين البلدان الرأسمالية الأخرى.

 وقد رافق تصاعد نسب البطالة في الاقتصاد الياباني إلى تناقص متتابع لمعدل النمو الاقتصادي ليصل في المتوسط الى 1,5 % سنويا قبل أن يتراجع أكثر، حيث هبط إلى ما دون الصفر في عام 2008 و 2009، وهو مستوى لم تشهده اليابان خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.

 ما يواجه الاقتصاد الياباني حاليا هو موجة جديدة من تباطؤ الطلب على صادراتها مشابهة لتلك التي واجهتها في ثمانينيات القرن الماضي التي أحد أسبابها تصاعد سعر صرف الين مقابل الدولار الأمريكي، مما جعل أسعار سلع الصادرات اليابانية وبالأخص السيارات والألكترونات أعلى من مثيلاتها في الدول الأخرى كالصين والولايات المتحدة وأستراليا، وهي الأسواق الرئيسية للصادرات اليابانية. يقابل ذلك في نفس الوقت ضعف الطلب الداخلي على المنتجات اليابانية بسبب الانكماش الاقتصادي الذي يخيم على الاقتصاد منذ عام 1989.

 لقد توقع الخبراء الاقتصاديون اليابانيون أن ينمو الاقتصاد الياباني بنسبة 4.4 % في العام الحالي، لكنهم أعادوا النظر بتنبؤاتهم فخفضوا نسبة النمو المتوقعة إلى 2.3 % فللاقتصاد تفاعلاته التي لا تحكمها ارقام التنبؤات، وبناء عليه لم ينمو الاقتصاد الياياني في الربع الثاني من عام 2010 بأكثر من 0.1 % وفق ما جاء في الأرقام التي أفصحت عنها مصادر حكومية يابانية طبقا لصحيفة الغارديان البريطانية في 16 أب الجاري (3)، مما سبب صدمة للحكومة ومراكز الأبحاث اليابانية والدولية.

التوقعات للأشهر الثلاثة القادمة غير متفائلة، فحجم الاستهلاك لم يشهد زيادة في الربع الماضي من هذا العام، ويبدو أنه سيظل جامدا على هذا الحال حتى نهاية العام، كما أن تباطؤ الاقتصاد العالمي قد شكل سببا ثالثا لتراجع الصادرات اليابانية، ويعود ذلك كما بينا إلى استمرار تصاعد قوة الين الياباني نسبة إلى الدولار للسنة الخامسة عشرة على التوالي، حيث بلغت قيمته في الخامس والعشرين من أب هذا العام 83.57 ينا للدولار الواحد، وهي القيمة التي لم يبلغها منذ 1995.

وتواجه اليابان مشكلة ارتفاع حجم الدين العام، حيث بلغت نسبته 200 % ناتجها القومي الاجمالي لعام 2009، وتعتبر هذه النسبة الأعلى بين الدول ذات المديونية في العالم، ويتوقع أن يرتفع إلى 250 % مع نهاية عام 2014 كما يذكر الكاتب في الفايننشال البريطانية بيتر تاسكر في عددها ليوم 16 أب الجاري (4).. لقد حددت اليابان عام 2011 كموعد اقصى لموازنة الميزانية العامة وتصفية الدين العام الياباني، وقد تمكنت في عام 2007 من تخفيض ديونها البالغة 6.55 تريليون دولارا إلى 4.4 تريليون دولارا بالاقتراض من مصادر داخلية برغم ارتفاع أسعارالفائدة. كما قامت الصين من جانبها بشراء ما قيمته 1.7 تريليون ين من السندات اليابانية القصيرة والطويلة المدى بمتوسط 255.7 بليون ينا في العام. وقد تضمنت الميزانية المالية الجديدة التي تنتهي في مارس 2011 والبالغة مخصصاتها 92 تريليون دولارا التزاما باصدار سندات جديدة بقيمة 484 مليار دولارا، وبذلك يكون الدين العام الياباني قد أزداد تمددا في حين المطلوب تقليصه، وهو ما سيدفع الحكومة اليابانية لاتخاذ قرارات صعبة لمعالجة مشكلة حجم الدين العام المتعاظم وتكاليفه الباهظة. فخدمة الدين العام وحدها تشكل 20 % من مبلغ الميزانية السنوية، وهي قيمة الفوائد المستحقة عن مبالغ الدين العام.

 وما لم تجد الحكومة مصادر مالية جديدة فلا مفر لها من اتخاذ اجراءات ذات مردود اجتماعي باهظ الثمن. بعض تلك الاجراءات موضوع دراسة الحكومة الجديدة، وهي خفضا كبيرا في الانفاق العام، وفرض ضرائب جديدة، قد تكون احداها زيادة ضريبة الاستهلاك إلى أكثر من 5 % حيث مستواها الحالي، ما يعني أعباء جديدة على ذوي الدخل المحدود، وهو القرار الذي تتردد الحكومة اليابانية في اللجوء اليه بسبب انعكاساته السيئة على الطلب الاستهلاكي العام الذي تبنى عليه آمال تحسين وتائر النمو الاقتصادي الضعيف أصلا.

من جانب آخر تشير بعض الأرقام الاحصائية الحكومية أن الأزمة الاقتصادية العالمية السائدة حاليا قد دفعت باليابان إلى الاتجاه الصحيح، فهناك علامات ايجابية في اتجاه الصادرات والعمالة والدخل القومي. فقد انخفضت البطالة من 5.7 % في نهاية 2009 إلى أقل من 4.9% في الربع الثاني من هذا العام، والصادرات حققت زيادة تعادل 41 % خلال 12 شهرا فقط في نمو لم تشهده اليابان منذ 30 عاما. وبناء على رأي الاقتصادي أكيو تاكوموري في شركة سوميتومو مينسواني،أن هذه الأرقام تعني أن الاقتصاد الياباني يتعافى بتأثير طلب قوي على الصادرات من وراء البحار، وهذا سيشجع الشركات اليايانية للتوسع في استثماراتها.(5) لكن هذه المؤشرات ما فتأت أن تبخرت امام موجة جديدة من الركود وانخفاض الطلب على السلع في الأسواق اليابانية متبوعا بانخفاض جديد في أسعار السلع في السوق الداخلية الذي أدى هو الآخر إلى تناقص مردود الضرائب بنسبة عالية.

تراجع النمو الاقتصادي، وحجم المديونية المتعاظم، لا يثير مخاوف الحكومة اليابانية الجديدة على ما يبدو، بدليل اصرارها على الاستمرار في تنفيذ سياسة العجز في الميزانية مع ادراكها هول المديونية التي سترهق اقتصادها لسنين طويلة قادمة، إذا ما استمر الركود مخيما على الاقتصاد الياباني. فهي زادت حجم المديونية لتقترب من 250 % ناتجها القومي، فهي بذلك كمن يكافح الحريق بالنار، ويمكن لنا أن نفهم السر وراء القرار الخطر هذا، فهي تضخ المال لدعم القوة الشرائية للمواطن الياباني، وبفضلها فقط ينتعش الطلب الداخلي كما مخطط له، وهو المؤشر الوحيد ربما الذي يعزز الثقة في نفوس المستثمرين.

 لقد سلكت حكومة العمال البريطانية السابقة هذا الطريق، وهناك اشارات عديدة بأن تلك السياسة كانت في الاتجاه الصحيح، وفي الغالب أن تحرز السياسة المالية اليابانية النجاح في المستقبل المنظور. ولليابانيين الحق في أن يثقوا بقدرة اقتصادهم على التعافي والخروج من حالة الانكماش الاقتصادي الراهنة، فاليابان ما زالت من بين قلة من البلدان المتطورة الأعلى في نصيب الفرد من الدخل القومي، وفي مستوى التصنيع والتقدم العلمي والتقني. فالناتج القومي لليابان الذي بلغ في العام 1999 45 % الناتج القومي للولايات المتحدة، ما زال أعلى من الناتج القومي لألمانيا وفرنسا مجتمعين، وما زالت صادرات اليابان الصناعية هي الأكبر بعد الولايات المتحدة الأمريكية، وتحتل في الوقت نفسه المرتبة الثانية كأكثر الدول تفوقا في تصدير التكنولوجيا المتقدمة (6).

وينظر إلى القوى العاملة اليابانية باعتبارها الأكثر احتراما لعملها، والأشد التزاما بتأدية واجباتها، وحيث تسود روح التعاون والتضامن بين أفرادها، وفي هذا يكمن سر الانتاجية العالية للعامل الياباني مقارنة بمثيله في الدول الأخرى. وتسود تقاليد العمل هذه بين شعوب البلدان المجاورة كوريا الجنوبية وهونك كونك والفلبين والصين وسنغافورة وتايلاند وماليزيا، كما تربط دولهم علاقات تعاون اقتصادي وتجاري ومالي وثيق مكونة سوقا تجارية لبعضها البعض.

وبرغم المصاعب التي سببتها الأزمة المالية العالمية للاقتصاد الياباني فقد طورت اليابان نظاما حكوميا للمنافع والحماية الاجتماعية في حالات البطالة والاعاقة والتقاعد والمرض وفقدان الزوج أو المعين. وتنفرد اليابان بنظام للرعاية والتعاضد القائم على التطوع، ينضوي فيه الشباب من طلاب المدارس والجامعات ومن فئات المجتمع الأخرى. يعتبر النظام الحكومي للمنافع الاجتماعية في اليابان الأكثر دينامية بين الدول الرأسمالية، بصرف النظر عن حالات الركود الاقتصادي التي مرت بها اليابان خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وقد حرصت الحكومات اليابانية قاطبة على زيادة نفقات المنافع الاجتماعية في الميزانيات الحكومية في حالة تباطؤ معدلات النمو الاقتصادي في البلاد، في حين تعمد دولا رأسمالية عديدة أخرى إلى تخفيض نفقاتها تنفيذا لسياسة ترشيد الانفاق لخفض العجز المالي في الميزانية، كما تحاول حكومة المحافظين البريطانية الحالية، وحكومات أوربية أخرى.

لقد قامت الحكومة اليابانية بزيادة حصة نفقات المنافع الاجتماعية في الميزانية عام 1973 برغم تباطؤ النمو الاقتصادي على إثر أزمة أسعار النفط حينها، وما تبعه من انخفاض معدل النمو من 10 % إلى أقل من 5 %. ووفق حسابات مركز الاحصاء السكاني والمنافع الاجتماعية بلغت مخصصات الأخيرة في عام 1996 6754.3 تريليون ينا بزيادة مقدارها 2.8 تريليون ين عن السنة التي سبقتها. وقدر متوسط الزيادة السنوية في مبلغ المنافع الاجتماعية 3 تريليون ين اعتبارا من عام 1990، حيث بلغ متوسط نصيب الفرد الواحد من المشمولين بها 536.600 ألف ينا. ومقارنة بعام 1951 التي رصدت للمنافع الاجتماعية فيها 126.1 بليون ين، تضاعفت في 1996 الى 540 ضعفا ونصيب الفرد من المنافع الى 280 ضعفا، ونما المتوسط السنوي لمخصصات المنافع في الميزانية الحكومية بمعدل يزيد عن معدل زيادة الدخل الفردي في البلاد.(7) وإذا كان هناك من دلالة لهذه السياسة فهي الثقة العالية بالقدرة على تجاوز الأزمات الاقتصادية، وبصواب الاجراءات المتخذة لتحسين الأداء الاقتصادي، ويعود الفضل في ذلك للسياسة الثابتة التي أتبعتها اليابان منذ 1950 والتي قادت الاقتصاد الياباني ليحتل مركز ثاني اقتصاد قي العالم بعد الولايات المتحدة عام 1968.

لقد اتبعت اليابان منذ خمسينيات القرن الماضي سياسة حمائية للانتاج الياباني من المنافسة الاجنبية، وتوفير سبل تطوره ليصل في المحصلة إلى تحقيق المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية التي تتعهد الالتزام بها تضامنيا الشركات الخاصة والحكومية والأفراد والاتحادات التجارية والعمالية المهنية ومؤسسات الدولة التنفيذية والتشريعية. وقد تبنت اليابان حتى تسعينيات القرن الماضي سياسة حماية اقتصادها من الرأسمال الأجنبي، حيث فرضت قيودا حازمة على الاستثمارات الأجنبية في البلاد، و قيودا مشددة كثيرة على استيراد السلع الأجنبية من الدول الأخرى حماية لانتاجها الوطني، لضمان الاستخدام الكامل للقوى العاملة فيها. ولم تتسامح في حرية الاستيراد إلا فيما يتعلق بالمواد الأولية والوقود، والسلع والخدمات لتغطية احتياجات السوق الداخلية. وقد استخدمت اليابان التقنية الأمريكية التي طوعتها بشكل بحيث اصبحت تتنافس بها مع الولايات المتحدة نفسها.وبفضل تطويع التقنية المستوردة، أقامت اقتصادا متقدما استحق بجدارة لقب الاقتصاد الأعجوبة.

..........................................

1 – الفايننشال تايمز البريطانية، 22 / 8 / 2010

2 - رولاند بورك – بي بي سي نيوز، طوكيو، 28 / 8 / 2009

3 الغارديان البريطانية، 16 / 8 / 2010

4 - الفايننشال تايمز- مصدر سابق

5- Alex MESSENGER , Japanies Economy Plagued and Debt,World Socalist Web Site,25/3 / 2010

6 – Japan- Overview of Economy, Encyclopedia of the Naions “ Asia and Pacific” Japan.

7 – Ministry of Health and Welfare , Annual Reports on Health and Wealth,1998 - 1999

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 9/أيلول/2010 - 29/رمضان/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م