على الرغم من كل الجهود التخريبية الجبارة التي بذلتها مجموعات
العنف والارهاب، مدعومة بالاعلام الطائفي والعنصري واموال البترودولار
التي تغدقها عليهم اسر حاكمة واجهزة مخابرات وانظمة بوليسية حاكمة في
المنطقة، على الرغم من كل ذلك، فقد وفت الحكومتان العراقية والاميركية
بوعدهما، فتم اليوم تحقيق واحدة من اهم بنود الاتفاقية الاستراتيجية
والامنية الموقعة بين بغداد وواشنطن نهاية العام 2008، فلقد انسحبت
القوات الاميركية المقاتلة كاملة من العراق، وتحولت مهمة المتبقية
منها، والتي تقدر بخمسين الفا، الى مهام المساعدة والتدريب فقط،، وبذلك
يكون العراقيون قد تقدموا خطوة جديدة الى الامام باتجاه اتمام
الاستقلال الناجز والسيادة التامة وبناء النظام الديمقراطي الذي يعتمد
مبدا التداول السلمي للسلطة عبر صندوق الاقتراع، الحكم فيه للناخب
العراقي الذي اثبت اكثر من مرة انه، وبوعيه وحضوره المستمر، قادر على
ان يهلك مسؤولين ويستخلف آخرين كلما حانت ساعة الصفر ليقف امام صندوق
الاقتراع ليدلي بصوته.
انه يوم العراقيين بامتياز، والذين انتزعوه من الظروف القاسية
بصبرهم ومثابرتهم واصرارهم الوطني منقطع النظير، فلو كانوا قد ساروا
خلف الشعارات الفارغة وجروا وراء العنف والاقتتال الطائفي الذي كاد ان
يغرق البلاد بفوضى عارمة، ولو كانوا قد صدقوا الاعلام الطائفي والعنصري
المضلل، بتشديد اللام الاولى وكسرها، لما شهدنا مثل هذا اليوم ابدا،
لان الشعارات الفارغة والاعلام المخادع والعنف والاقتتال، كلها ذرائع
لاستمرار تواجد القوات الاجنبية في البلاد.
لقد استمر الارهابيون، الذين تحالف معهم ايتام النظام الشمولي
البائد، يمارسون القتل والتدمير حتى اللحظة الاخيرة التي سبقت حلول هذا
اليوم الاغر (31 آب 2010) وكل ذلك من اجل عرقلة انسحاب القوات الاجنبية
المقاتلة من العراق، ليبقى مبرر القتل والتدمير قائما ليواصلوا به خداع
السذج والمغفلين بشعارات الجهاد والمقاومة ضد الاحتلال، فلقد حاولوا،
مثلا، خلال الاسابيع الاخيرة المنصرمة، تحقيق بعض الفراغ الامني في
الشارع العراقي من خلال حملاتهم الدنيئة التي استهدفوا بها قوات الامن
العراقية الباسلة، الا ان كل محاولاتهم هذه باءت بالفشل.
واليوم تقف القوات العراقية وجها لوجه امام مسؤولياتها الوطنية
التاريخية لتثبت قدرتها الحقيقية على الامساك بالملف الامني بقوة
واقتدار، لتسقط كل الرهانات التي ظلت تشيع عند الراي العام، العراقي
خاصة، من ان انسحاب القوات الاجنبية المقاتلة من العراق في هذا الظرف
الحساس سيرمي العراق من جديد في اتون حرب اهلية، طائفية وعنصرية، لان
العراقيين غير مستعدين لمثل هذه اللحظة، على حد زعمهم، الا اننا جميعا
على يقين من ان قواتنا المسلحة الباسلة قادرة على تحمل واجباتها
الوطنية، مهما كلف الثمن، اذ لم يبق من المشوار الا القليل باذن الله
تعالى.
يجب ان يحث هذا اليوم التاريخي قادة الكتل السياسية ويحفز زعماء
الاحزاب التي فازت في الانتخابات النيابية الاخيرة، على الاسراع في
تشكيل الحكومة العراقية الجديدة، بعد ان يتنازلوا عن مصالحهم الشخصية
والحزبية الضيقة ويقدموا المصالح العليا للبلاد وللمواطن الذي حملهم
بصوته الى سدة السلطة والمسؤولية، فلقد وفى العراقيون بالتزاماتهم
عندما شاركوا في الانتخابات الاخيرة، وبقي على من منحهم الشعب ثقته ان
يفوا بالتزاماتهم، فليس من المعقول ابدا ان يظل مجلس النواب معطلا بلا
افق او نور في نهاية النفق، كما انه ليس من المعقول ان تستمر مؤسسات
الدولة العراقية (الرئاسات الثلاث تحديدا) مشلولة على الرغم من مرور
قرابة ستة اشهر على تاريخ اجراء الانتخابات العامة الاخيرة، فلقد مل
الشارع العراقي من تصريحات المسؤولين التي تتناقض بشكل فج ومضحك يبعث
في اغلب الاحيان على القرف او الغثيان.
ان الزمن ليس لصالح احد في العراق ابدا، فهو ليس لصالح الزعماء
وقادة الكتل السياسية، كما انه ليس لصالح الشعب العراقي الذي يمر باسوأ
ازمة في الخدمات اليومية الاساسية كالكهرباء والماء الصالح للشرب وسلة
الحصة التموينية والوقود وغير ذلك الكثير.
ان استمرار الوضع السياسي على حاله من الركود والمراوحة في مكانه،
سيفتح الباب على مصراعيه للتدخلات الاجنبية، والتي قد تؤثر في نهاية
المطاف فتبدا ترسم خارطة النظام السياسي الجديد وبطريقة لا تخدم
المصالح العليا للبلاد، ولقد راينا كيف ان الادارة الاميركية حاولت،
ومن خلال الوثيقة التي حملها الى بغداد مطلع الشهر الحالي (آب) مساعد
وزيرة الخارجية الاميركية السيد جيفري فيلتمان، ان تقود انقلابا على
الدستور العراقي من خلال تغيير معالم مؤسسات الدولة بما يضمن لها ضرب
عدة عصافير في حجر واحد، كما يقول المثل المعروف.
ومن اجل ايضاح بعض الحقائق، تعالوا نقرا بنود هذه الوثيقة
الاميركية، والتي نامل ان تصر كل القوى السياسية على رفضها لما فيها من
ثغرات دستورية خطيرة تفضي الى اقامة نظام سياسي مضطرب ومتضارب
الاتجاهات ومتناقض المسؤوليات والمهام، ضعيف البنى التحتية، هش
المؤسسات.
تعالوا، اولا، نمر على نص الوثيقة، التي تتالف من سبعة بنود،
ليتسنى التعليق عليها بشكل سليم.
تدعو الوثيقة الى:
اولا: تشكيل (المجلس التنسيقي للسياسات الوطنية الاستراتيجية) تكون
مهمته تنسيق السياسات العراقية في الشؤون الداخلية والخارجية والعسكرية
المتعلقة بالامن الوطني بما يشمل الامن المالي والاقتصادي وامن الطاقة،
فضلا عن مراجعة ميزانية القوات الامنية والتوصية بموافقة السلطة
التنفيذية عليها.
ثانيا: تاسيس منصب رئاسي رابع يضاف للمناصب الرئاسية الثلاثة (رئيس
الجمهورية ورئيس الوزراء ورئيس مجلس النواب) يدعى (الامين العام للمجلس
السياسي للامن الوطني) ويرشح الامين العام هذا من قبل رئيس الجمهورية
ويصادق مجلس النواب على ترشيحه بالاغلبية المطلقة.
ثالثا: يتكون (المجلس التنسيقي للسياسات الوطنية الاستراتيجية) من؛
الامين العام للمجلس السياسي للامن الوطني، رئيس الجمهورية، رئيس مجلس
النواب، رئيس الوزراء، رئيس مجلس القضاء، رئيس اقليم كردستان، وقد
يشارك في المجلس ايضا وزراء الدفاع والداخلية والخارجية والمالية
والنفط ومدير المخابرات.
رابعا: تتضمن سلطات (المجلس التنسيقي للسياسات الوطنية
الاستراتيجية) مراجعة القرارات المتعلقة بسياسة التوظيف في القوات
الامنية والتوصية بموافقة السلطة التنفيذية عليها، ومراجعة الاتفاقيات
الامنية والتوصية بموافقة السلطة التنفيذية عليها، ومراجعة المشتريات
الدفاعية الرئيسية اضافة الى مراجعة الجهود الرئيسية لنشر الجنود
والعمليات القتالية، ومراجعة قضايا المحتجزين، والمجلس له حق التوصية
بتعيين ضباط برتبة عميد فما فوق، والتوصية بموافقة السلطة التنفيذية
على التعيينات.
خامسا؛ تقترح الوثيقة ان يشرع البرلمان قانونا ل (المجلس التنسيقي
للسياسات الوطنية الاستراتيجية) على ان تعكس صلاحياته المسؤولية
المشتركة لكل من الرئيس ومجلس الوزراء ومجلس النواب في مجال الامن
الوطني والشؤون الخارجية.
سادسا؛ اقترحت الادارة الاميركية ان يراس الدكتور اياد علاوي
الامانة العامة ل (المجلس التنسيقي للسياسات الوطنية الاستراتيجية)
بينما تكون رئاسة الحكومة للسيد نوري المالكي ورئاسة الجمهورية للسيد
جلال الطالباني وتكون رئاسة البرلمان للقائمة العراقية.
سابعا، واخيرا؛ اقترحت الوثيقة الاميركية ان تجري مفاوضات تشكيل
الحكومة بين قائمتي العراقية ودولة القانون على ان تسند بعض الوزارات
لقائمتي الكردستاني والوطني.
ومن الواضح جدا فان الادارة الاميركية تسعى من خلال هذه الوثيقة:
1- : تفتيت مؤسسات الدولة العراقية وافراغها من محتوياتها
الدستورية، وكل ما يمنحها قوة تشريعية وتنفيذية، فاذا كان المجلس
المقترح له كل هذه الصلاحيات (التشريعية) فما هو دور مجلس النواب اذن؟.
2- : اعادة النظر بما انجزته مؤسسات الدولة العراقية خلال الفترة
الدستورية المنصرمة، ما يربك المنجز وقد يعيد البلاد الى المربع الاول.
3- : التدخل المباشر في تسمية المواقع، وكانها تريد ان يظل من
سيتبوأ موقعه الجديد رهن اشارات الادارة الاميركية، والتي ستكون في هذه
الحالة ولي نعمته شاء ام ابى.
4- : كما ان الوثيقة تتناقض بشكل سافر مع ما تعلنه الادارة
الاميركية من كونها تقف على مسافة واحدة من كل الاطراف السياسية، كما
انها تتناقض مع الرؤية التي تعلنها عادة في الاعلام الادارة الاميركية
وكل القوى السياسية العراقية المشاركة اليوم في العملية السياسية، من
انهم يتمسكون بمبدا تشكيل حكومة الشراكة الوطنية، فمن الواضح فان بنود
الوثيقة تفضي الى تهميش اكثر من كتلة نيابية.
5- : ان اية مراجعة لاية سياسات عامة هي من مهام مجلس النواب حصرا،
فيما تذهب الوثيقة الى انتزاع هذا الحق الدستوري من المجلس لتسلمه الى
مجلس جديد يتم تشكيله بقرار اميركي.
6- : ان الوثيقة بهذه الطريقة من التفكير تساهم في تكريس الحالة
الهلامية لنتائج الانتخابات، فباية صفة دستورية تمنح الوثيقة السيد
علاوي مثل هذا المنصب السيادي المهم؟ اذا كان الجواب بصفة كونه زعيم
اكبر كتلة برلمانية، فلماذا لا تقترح الوثيقة تسميته رئيسا للوزراء؟.
7- : كما ان الوثيقة تكرس المحاصصة باسوأ حالاتها، بعد ان تشعب
المؤسسات بشكل متداخل، فكيف يمكن ان يكون رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة
اعضاء في مجلس يراسه شخص ثالث؟ هل يقبل الاميركيون بمثل هذه الطريقة من
النظام السياسي لبلدهم ليقترحوها لغيرهم؟ وهل يمكن للسيد اوباما ان
يعمل في البيت الابيض اذا كان عضوا في مجلس يراسه غيره من اعضاء احد
مجلسي الكونغرس (النواب او الشيوخ)؟.
8- : تبني مبدا تقاسم السلطة، الامر الذي يضعف النظام السياسي
برمته، وبالتالي يعرض التجربة الديمقراطية للخطر.
9- : تحصر الوثيقة المشكلة في توزيع المناصب، ولانها لم تجد العدد
الكافي من المواقع السيادية لتوزيعها بالتساوي على الجميع، لذلك تقترح
تاسيس منصب جديد بمقاسات خاصة يلبي طموح اجندات سياسية خاصة، فيما يعلم
جميع العراقيين بان المشكلة ليست في المناصب وانما في مكان آخر، اساسه
انعدام الثقة بين الفرقاء السياسيين، وعدم الالتزام بنتائج الانتخابات،
ولذلك، فمهما اقترحت الادارة الاميركية من مناصب جديدة، فان ذلك لا يحل
المشكلة ابدا، وانما قد يساهم في حل مشاكل بعض الكتل والقادة والزعماء
والاجندات السياسية الخاصة.
10- : كما ان الوثيقة تؤسس وبطريقة غير دستورية، لتعديل دستوري،
فقط من اجل اعطاء المنصب السيادي الجديد موقعه الشرعي بين مؤسسات
الدولة، وهذا خطا كبير يؤسس لتغييرات دستورية مزاجية، سيلجا اليها
السياسيون كلما ارادوا ان يستحدثوا موقعا جديدا لترضية هذا الطرف او
ذاك؟.
مما تقدم يتضح مدى خطورة استمرار الركود السياسي مدة زمنية اضافية،
والحل في الاتفاق فقط.
[email protected] |