زخرت ارض الرافدين منذ فجر السلالات بالكثير من الأساطير، وكان
لإبداعات العقل العراقي حضور متميز في تحريك عجلة الحضارة الإنسانية.
ولم يكن المسرح السياسي وعالمه الواسع (الفج) ببعيد عن هذه الإبداعات
التي لم تتقيد بالتوصيفات النظرية والجدليات السفسطائية كما فعل فلاسفة
اليونان بل إنها طالست الواقع وامتزجت به لتعبر بصدق عما يعتمله من
إرهاصات وتستنبط المعالجات لمشاكله.
ومن اخترع العجلة والكتابة بالأمس، نجده اليوم يبهر العالم المعاصر
بأحدث ابتكاراته وافردها على وجه البسيطة عبر ما يمكن تسميته بـ(تسييس
الطاقة الكهربائية).
إن هذه النقلة النوعية في التفاعل الحي بين العلوم التقنية
والفيزيائية والعلوم الإنسانية قد أنجبت ظاهرة محورة جينيا مؤداها دمج
الطاقة الكهربائية في متاهات السياسة وألعابها القذرة صحيح أن السياسة
قد طرقت –عبر تاريخها الطويل– كل الأبواب وسلكت كل المسالك وبخاصة
القذرة منها، بما فيها تسخير الطاقة في لعبة الأمم، لكنها اليوم تعود
إلى ارض العراق بإيهاب جديد ومزايا تظهر على عدة مستويات:
- لقد انفرد المسرح السياسي العراقي بتسخير الطاقة الكهربائية خلافا
لكل من سبقه من الأمم في التوظيف السياسي لكل مجالات الطاقة.
- كان التوظيف السياسي لهذا الملف الساخن يسير ضمن منحنى سلبي وليس
ايجابي كما فعلت سائر الأمم.
- جسد هذا الملف، السمة المشتركة الرئيسة والامتداد الحي بين العراق
القديم والعراق الجديد.
وإذا كانت أدبيات الأسطورة تفترض بعض الخصال من الخيال والحبكة
والحكمة فان هذه الخصال قد توافرت في بلورة ملامح الأسطورة الجديدة،
فلن يخطر على بال مخلوق ولن تترامى حدود خياله لتصل حد التوقع: (إن
إصلاح المنظومة الكهربائية في العراق – القديم والجديد- قد تمتد أكثر
من عشرين سنة دون أن تصل إلى الضوء في نهاية النفق) ما لم تخف مقاصد
سياسية.
وأما عن الحبكة فمداها التواصل والتكامل في الصورة الدرامية
التراجيدية بين النظامين الجديد والقديم لان قصة هذا الابتكار العراقي
قد بدأت أولى فصولها مع نهاية حرب الخليج الثانية (عاصفة الصحراء)
عندما حققت الإدارة الأمريكية وعودها بإرجاع العراق إلى القرون الوسطى
وكان للطاقة الكهربائية حصة الأسد منها، وبذلك أجادت الإدارة الأمريكية
توظيف ملف أزمة الطاقة في جلد العراق وحكومته، مثلما أجادت الأخيرة
باستخدام أزمة الطاقة لعزف لحن المعاناة التي طالت العراقيين خلف قضبان
الحصار أي بتسويق محنتهم عالميا لرفع العقوبات الدولية عنها.
وثمة من يمعن في تتبع خيوط المؤامرة عبر الادعاء بان شرط تجميد ملف
الطاقة تمهيدا لخصخصته وإحالته للاستثمارات الأجنبية بعد القضاء على
الجهد الحكومي فيه، أدرج ضمن الإطار السري لاتفاقية الخيمة بين الحكومة
العراقية والأمريكية عام 1991.
وبكل الأحوال فقد عانى قطاع الكهرباء –شأنه شان القطاعات الأخرى–
من جفوة الحصار وانقطاع سبل الحياة عنه وكان ذلك -بصورة أو أخرى- من
عائدات السياسة الحمقاء للنظام السابق أيضا.
ومع سقوط النظام السابق وإطلالة عهدٍ جديد من الديمقراطية (المستوردة)
مصحوبٍ بانفتاح على العالم الخارجي، استبشر العراقيون خيرا بالتغيير
والانعتاق من ضائقة التدهور في ملف الخدمات وبخاصة ملف الطاقة
الكهربائية، غير أن رياح التغيير السياسي الشامل لم تأت ِ بما يشتهي
المواطن العراقي. فما أزمعت على تحقيقه الإدارة الأمريكية في عام 1991
ولم يتحقق كليا بسبب تملص النظام السابق من التزاماته، استكملت حلقاته
بعد احتلالها المباشر للعراق عام 2003 ليبقى ملف الكهرباء معقودا
بحبائل المرامي السياسية ودهاليزها – وبهذه المرامي تحققت آخر مفاصل
الأسطورة الجديدة أي (الحكمة) والتي يمكن إيجازها بالاتي:
- تامين الأجواء الإستراتيجية لانفراد إسرائيل بكعكة الشرق الأوسط
عبر تصفية بؤر التوتر واحتواء معاقل المقاومة أو إضعافها والتي كان
العراق من أهمها، وبالتالي فان خنق قطاع الكهرباء بوصفه عصب الصناعة
يصب في هذه القناة.
- السعي لإعادة هيكلة الاقتصاد العراقي عبر نقله من اقتصاد الدولة
إلى اقتصاد السوق مع فتح قنوات لتدفق الاستثمار الأجنبي والأمريكي
تحديدا لإدارة مفاصله الحيوية سبيلا لإخضاعه مستقبلا لتقلبات واملاءات
السوق العالمية.
- لن يخرج ما تقدم عن دالة توظيف مخرجات هذه الصورة السلبية في
إحداث القطيعة بين النخبة الحاكمة وعامة الشعب لضمان اعتمادية تلك
النخب وارتهان مصيرها بمصير القدرة الأمريكية على توفير الأمن وإدامة
بقاءها على قمة السلطة في العراق وتاليا استجابتها غير المشروطة
لمتطلبات ومسارات الإستراتيجية الأمريكية في المنطقة.
- وقد يكون التلكؤ في تسوية ملف الطاقة الكهربائية يندرج ضمن إطار
مناورة إستراتجية غايتها مشاغلة الشعب وصرف انتباهه عما قد يدبر بليل
ضد إرادته ومصلحته وهو ما أجاد نظام صدام في استغلاله طوال سنوات
الحصار ضد شعبه كي يصرفه عن الاهتمام بشؤون السياسة ويحشد الجهد
الجماهيري خلف مطلبه في رفع الحصار.
وحتى مع انتقال ملف السيادة إلى الحكومات الوطنية العراقية
المتعاقبة، لم يشهد ملف الخدمات والطاقة الكهربائية تحديدا تطورا
ملحوظا أو حتى حراكا فما أمسى به الشعب العراقي بعد تحريره من الطاغية
أصبح به إن لم يزد أمر الكهرباء إلا انحطاطا وتراجعا.
إن تفسيراً قد لا يخرج كثيرا عما تقدم من أغراض طالما بقيت الكرة
في ملعب صاحب المنعة والأمر في العراق ويضاف إليها متغيران جديدان ضمن
المدى السلبي أولهما الفساد المالي والسياسي الذي تفاقم خطره واستجمع
قوته من الانفلات الأمني والانخراط غير المتوازن في مسيرة إعادة بناء
العراق الجديد. وقد زاد في الطين بلة تحصن المفسدين بنفوذ السلطة
استمالةً واشتراكاً.
أما ثانيهما فمجاله سعي قوى الإرهاب والمعارضة السياسية للضغط على
الحكومة واستغلال إخفاقها في معالجة هذا الملف سبيلا لتحصيل بعض
المكاسب السياسية، ولعل هذا ما يفسر ضمنا التصاعد المفاجئ في العمليات
الإرهابية ضد خطوط الطاقة، والمظاهرات الشعبية المطالبة بتحسين حال
الطاقة كلما دخلت العملية السياسية بضائقة أو منعطفٍ مهم.
وهكذا كان قدر المواطن العراقي البسيط أن يجني ما يزرعه القادة
السياسيون على مر الحقب والدهور؛ فان لم يكفه مرارة حصاد السياسة
الخالص، فان مكانتها قد أنتجت نوعا جديدا وغير سياسي من المحن المحورة
جينيا ليزداد بها لوعة واختناقا. ولتضاف إلى مكتبة الأساطير العراقية،
أسطورة جديدة نسجتها أنامل السياسيين في مستهل القرن الحادي
والعشرين... والله المستعان على ما يصفون.
* مركز الفرات للتنمية والدراسات
الاستراتيجية
http://fcdrs.com |