التقاطع والاندماج بين الواقع والمخيلة

علي حسين عبيد

 

شبكة النبأ: ما هي الفوارق المحتملة بين الواقع والمخيلة؟ وما الجديد الذي يمكن أن نطرحه في هذا المضمار؟ كلنا نعرف ما هي أعمال المخيلة وربما نجزم بأن الفارق بين الاثنين لا يحتاج الى إشارة أو توضيح كالفرق بين اللونين الأسود والأبيض. فالواقع صورة محسومة ملموسة معيشة بكل ميزاتها وتفاصيلها . أما المخيلة فهي صورة مخلقة غير محسومة ولا مرئية بل مدركة في أفضل الأحوال. ولهذا ليس لنا من سبيل لدمج الأهداف المحتملة في الواقع والمخيلة في آن واحد. هذا ما يطفو لنا على السطح ولكن أيهما أكثر تأثيراً في الرائي للواقع والقارئ للمخيلة؟

هل الواقع بتجسده المباشر لنا أكثر تأثيراً فينا أم المخيلة وأعمالها غير المجسدة هي الأكثر تأثيراً؟

لقد صنع الروائيون أبطالاً يمقتون الواقع ولا يطيقونه ولذلك فهم يتمتعون بنزعة هروب لا تتوقف الى عالم الخيال وفي هذا العالم يجدون ضالتهم التي تكمن في البوح بأسرار وغوامض لا يتقبلها الواقع وربما تكوين حيوات يرفضها الواقع ويرعاها الخيال وفي مجمل الحال فإن أبطالاً كهؤلاء لا يمتلكون العزيمة الكافية للعيش في حدود الواقع ومقارعة أخطائه. ولذلك لا يمكن أن نطلق عليهم صفة البطولة ولكن ثمة من يرى في هذا الجانب نجاحاً فنياً للروائي. فأين يكمن هذا النجاح؟ وما هي دلائله؟

إن المخيلة هي بيت الخيال ومصنعه... هذا الخيال الذي يتقاطع مع الواقع ويحيله الى نقيض مباشر. فهل يعني أن تهشيم الواقع وتركيعه أو تهميشه يعدُّ دليلاً قاطعاً على نجاح الخيال؟ وإذا توغلنا أكثر، فهل يمت الخيال بصلة الى الفن على حساب الواقع (المضمون)؟ وإذا أخذ الصراع بين الواقع والمخيلة طابع الصراع بين (الفن/ الشكل) وبين (الواقع/ المضمون) فهل ينجح الخيال في صراعه مع الواقع؟.

لقد ذكر الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش في أحد اللقاءات بأنه بكى بكاءً مريراً وهو يتابع تفاصيل موت الطفل محمد الدرة في حضن أبيه. فهل يعني هذا أن الواقع له قوة تأثير كبيرة قد لا يتوفر عليها الخيال؟ وإذا صح هذا. ألا يعني ان الواقع مطلوب للإنسان حتى يقدم له/ واقعه الحقيقي/ كي يتمكن من التعايش معه بطريقة أكثر عدلاً وذكاء؟

من جانب آخر ذكر الناقد المسرحي الأمريكي (لي شوبرت) في أحد اللقاءات أيضاً (بأن شباك التذاكر لا يكذب أبداً) ثم أضاف ناقد آخر (بأن الناس يفضلون أن يروا حياتهم على خشبة المسرح).

فماذا يعني بمفردة حياتهم؟ ألا يعني بذلك واقعهم؟ إننا قد نجد إنساناً يعيش الواقع لكنه لا ينتمي اليه كما نقرأ ذلك في رواية (الغريب) لألبير كامو وربما عشرات الروايات تنطوي على أبطال مماثلين.

فهل ينتمي هذا الهروب من الواقع الى الفن حصرا ً؟ وإذا تدخلت المخيلة، هل سترسم لنا عالماً أجمل ؟ ثم ألا نستطيع أن نزيح حالة التقاطع بين الواقع والخيال وندمج بينهما ليصبحا كلاّ واحداً بدلاً من نقيضين لا يمكن التقريب بينهما ؟ لقد زاوج كثير من الكتّاب بين النقيضين، الواقع والخيال. وثمة منهم من تغلب بالنتيجة على حالة الإخفاق المتوقعة. حيث رسم بعضهم الواقع فبانت كل عيوبه.

لكن حين لجأ الى الخيال كي يصحح هذه العيوب نجح في مسعاه هذا. لقد قدم هؤلاء الكتّاب صورتين متناقضتين: الأولي قدموا فيها الواقع كما هو بكل نواقصه وحقائقه الشائنة.

والثانية: قدموا الواقع ملوناً بالخيال. حيث فرشاة الفن تدخلت فرسمت لوحة الحياة المأمولة أو المرتقبة.

هنا حدث الاندماج وحل محل التقاطع وظهر دور الفن الذي لا يتهرب من مسؤولياته تجاه الحياة والإنسان والوجود برمته إذ تدخلت المخيلة وأنجبت خيالاً فنياً مرهفاً ملائماً مفعماً بالجمال والأصالة تعاضد مع مأساة الواقع وروضها وأنتج واقعاً أدبياً ينطوي على روح إنسانية تجد في أسلوب المواجهة طريقاً جوهرياً للتعاطي مع الحياة.

لقد قدمت لنا رائعة همنغواي (الشيخ والبحر) شيئاً من هذا القبيل فرسمت واقعاً شرسا قاسياً لكنه لم يتغلب على الإنسان حينما تدخلت المخيلة الخلاقة فحولت ذلك الواقع البحري الشرس الى انتصار مذهل لإرادة الإنسان.

لقد تم هذا حينما حدث ذلك الاندماج الرائع المتأصل في الذات المبدعة. ذلك الاندماج الخطير والمبدع بين الواقع والمخيلة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 7/أيلول/2010 - 27/رمضان/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م