سياسة وأخلاق... عاهرات وساسة

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: للحصول على اكبر عدد من المشاهدين تلجأ فضائيات المنوعات الى برامج (التوك شو) والتي يتم بثها مباشرة على الفضاء، وهذه البرامج تستضيف عددا من الشخصيات المعروفة في مجالها ويتم محاورتها أمام عدد من الحضور، إضافة الى المشاهدين الآخرين أمام شاشات التلفزيون.

هذه البرامج تتناول عادة قضايا عديدة تهم قطاعات واسعة من المجتمع المستهدف بهذه النوعية من البرامج، وهي عادة تحاول المزاوجة بين تقديم المعلومة والترفيه.

فالتوك شو أو برامج الحوارات هي مصدر لمعلومات ولها طبيعة ترفيهية ومسلية، وهذه البرامج لها شعبيتها ومتابعيها في القنوات الأمريكية وهي عادة ما تكون جادة ورصينة من خلال الضيوف الذين تستضيفهم او الموضوعات التي تطرحها.

القنوات الإخبارية عادة لا تتحاشى هذه النوعية من البرامج لأنها تعتبرها غير رصينة ولا تتناسب مع سياساتها الإعلامية، وشذّت الجزيرة ببرنامج الاتجاه المعاكس عن هذه القاعدة وتحول الى وصلة أسبوعية من الردح والبذخ أسبوعيا وكلما زادت كمية السباب والشتائم والتهريج بين الضيفين زادت نسبة نجاح البرنامج كما يعتقد معدوه ومقدموه.

ليس في قناة العربية برنامج مشابه لبرنامج قناة الجزيرة إلا ان نشرة أخبار العاشرة مساءا من كل ليلة وهي المسماة بانوراما يمكن ان تتحول بواسطة الضيوف الى وصلة من الردح (من الرقصة الشعبية المعروفة) والبذخ فيما بينهم.

في نشرتها الإخبارية  ليوم 4 أيلول 2010 والتي كرست البانوراما كاملة لترشيح عادل عبد المهدي من قبل الائتلاف الوطني استضافت مذيعة العربية منتهى الرمحي ثلاثة ضيوف كل يمثل كتلة سياسية عراقية تتنافس على منصب رئاسة الوزراء، كان الضيوف (عزت الشابندر عن ائتلاف دولة القانون) و (محمد تميم عن القائمة العراقية) و (باسم العوادي عن المجلس الإسلامي الأعلى وهو مستشار السيد عمار الحكيم رئيس المجلس ورئيس الائتلاف).

أوحت ترتيبات المصور إن المتحدث باسم العراقية يتوسط في جلسته الضيفين الآخرين وكأنه يمثل الحكم بينها مع الادعاء بأحقية هذا التمثيل، وكانت جلسة الشابندر وهو يتقدم بصدره الى الإمام توحي بأنه يريد المبادأة والهجوم، إما باسم العوادي فكانت جلسته يشكلها المتشنج ويداه المتشابكتان توحي بالدفاع إزاء الحضور وهي إحدى الميكانيزمات الدفاعية التي يلجأ إليها الأشخاص للدفاع عن أنفسهم لما يتوقعون او يتوهمون انه هجوم عليهم.

لم تخلو البداية من إعادة المعزوفة إياها (تشكيل الحكومة حق دستوري للعراقية باعتبارها القائمة الفائزة – محمد تميم) و (تشكيل الحكومة من حق دولة القانون على اعتبار عدد الأصوات والكتلة الأكبر داخل البرلمان – عزت الشابندر) و (مرشح الائتلاف الوطني هو الأوفر حظا لوجود المقبولية الوطنية والإقليمية عليه – باسم العوادي).

كسر عزت الشابندر رتابة الحديث بوصفه كلام العوادي بأنه تغريد خارج السرب، رد عليه العوادي، المماحكة أخذت بالتصاعد حين وصف الشابندر العوادي بالمراهق السياسي، رد عليه الآخر بان الشابندر بلغ من الكبر عتيا، اي انه يخرّف وانه يلاحق العاهرات في منتجع شرم الشيخ، وانه مناضل قديم ضد صدام، ليرد عليه الشابندر بان عذره ماضيه، ولم تتسن للمشاهدين معرفة هذا الماضي، وهو لا يشرف حسب معرفة الشابندر.

سبق هذا البرنامج تسريبات إعلامية عن مشادة كلامية بين احد أعضاء تيار الإصلاح الوطني لإبراهيم الجعفري واحد أعضاء تيار الأحرار الصدري ووصل الى التشابك بالأيدي عند مناقشة ترشيح عادل عبد المهدي، وكالعادة تم تكذيب هذه التسريبات، التي لا تستطيع تكذيبها ما حدث أمام المشاهدين وعلى الهواء مباشرة في تلك الليلة من بانوراما.

وهناك حادثة سابقة لأحد أعضاء التيار الصدري في البرلمان حين تهجم على المنصة الرئاسية في إحدى الجلسات والتي كانت منقولة على الهواء مباشرة.

إذا كان مستوى الحوار بهذا الانحدار الأخلاقي على الهواء مباشرة فكيف يكون مستواه في الغرف المغلقة وبدون حضور الكاميرات التلفزيونية أمام المتحاورين – المتصارعين؟

تطرح هذه الحلقة بشتائم ضيوفها المتبادلة والضرب تحت الحزام الذي استخدمه احد الحضور أخلاقيات العمل السياسي العراقي، وجودا أو عدما، وهل هناك مراهقة سياسية في هذا العمل وهناك مراهقون سياسيون يديرون دفة الحوارات بين الكتل، والأدهى والأمر إدارتهم لأمور  العراق السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، وهل تكون مستويات الفساد المالي والإداري نتاجا لهذه النوعية من انحدار الأخلاق السياسية، أم سببا لها؟

كثيرا ما يدور الجدل بين الأخلاق والسياسة في الأوساط السياسية والفكرية بسب طبيعة العمل السياسي والحراك الدائر فيه بين السياسيين، وصراع الطموحات والمصالح وتضاربها بين الجماعات السياسية في أي بلد من البلدان.

هناك مقولة شهيرة للرئيس المصري الراحل أنور السادات وهي (السياسة بلا أخلاق) أطلقها من واقع تجربته وخبرته الطويلة وصراعه مع الأجنحة المتعددة على المسرح السياسي المصري.

وقبله بقرون طويلة دار نفس الجدل حين سادت الخطابة في الأنظمة السياسية القديمة التي شجعت مواطنيها على إبداء أرائهم والمشاركة في اتخاذ القرارات حيث كان من المسلم به إن المواطن الصالح هو القادر على الإفصاح عن مراده.

لكن أفلاطون الفيلسوف انتقد هذا الاهتمام بالخطابة قائلاً إن من الخطر تعليم من هب ودب فنون الإقناع والاستمالة، لأن هناك من السياسيين من لا يملك الوسائل لمعرفة حقائق الموضوعات التي يناقشونها، ما يقود في النهاية إلى الضلال والإضلال. كان أفلاطون يرى أن من الخطابة ما يجعل السيئ يبدو حسناً، والقبيح يبدو جميلاً، وأن الحكمة والمعرفة أمران ضروريان لخطابة صالحة مفيدة (لصحة الروح: روح الفرد والروح الجماعية للمدينة).

أكد أفلاطون أن للخطيب دوراً رسالياً كالطبيب للجمهور، حيث الدواء هو الحقائق والقيم والرسائل الإقناعية الكافية لجعل الجمهور دائماً صحيحاً معافى.

أما تلميذه أرسطو في كتابه (الخطابة) فقد تحدث عن وسائل الإقناع الثلاثة: المصداقية، والوجدان، والمنطق.

وأكد أن التأثير الإقناعي يجب ألا يقوم فقط على مصداقية الخطيب أو قدرته على الاستمالة وتجييش العاطفة، أو على مظهره الجميل، أو أسلوبه الديناميكي في الإلقاء؛ بل يجب أن يصاحب ذلك استخدام الدليل المنطقي والبرهان العقلي، حتى لا يتعرض الجمهور للتلاعب والاستغلال.

يقول الباحث الأمريكي دينتن (ساورنا الشك تاريخياً حول السياسة والسياسيين بصفة دائمة، وقبلنا حقيقة أنهم نادراً ما يؤمنون بأقوالهم. وأنهم يجب أن يقطعوا الوعود ليكسبوا التأييد وأصوات الناخبين).

السياسيون –كجماعة- يأتون في الصف التالي لبائعي السيارات كأكثر المهن كذباً. وقد عبّر عن هذا المفهوم في السبعينيات أحسن تعبير ملصق ضم صورة ريتشارد نيكسون وسؤالاً ساخراً يقول: (هل يمكن أن تشتري سيارة مستعملة من هذا الرجل).

وفي الفكر السياسي العربي وفي البدايات التأسيسية الأولى له يشير الماوردي في كتابه ( درر السلوك في سياسة الملوك) إلى ضرورة أن يهتم السياسي بالصدق في مقاله، وألا يرخص لنفسه في الكذب إلا على وجه التورية في خداع الحروب (فإن أرخص لنفسه فيه على غير هذا الوجه، صار به موسوماً، لأن الإنسان بقدر ما يسبق إليه يعرف. وبما يظهر من أخلاقه يوصف، وبذلك جرت عادة الخلق: أنهم يُعدلون العادل بالغالب من أفعاله، وربما أساء، ويفسقون الفاسق بالغالب من أفعاله، وربما أحسن).

من المرجح ان ما حدث تلك الليلة بصورته العلنية يحدث كل ساعة حين يلتقي الفرقاء السياسيون خلف أبواب موصدة وكل واحد منهم يدافع عن وجهة نظره وعن زعيمه الأوحد وقائده الضرورة، وقد يطلق الشتائم بوجه معارضيه وهو الأرجح وقد يميل الى استخدام يديه او ما هو أكثر من أسلحة بيضاء غير قاتلة كالحذاء مثلا (وهي السنّة التي سنّها منتظر الزيدي في المؤتمرات الإعلامية وباركها الكثير من مراهقي السياسة عندنا وعدّت فعلته بمثابة ام معارك جديدة وأصبح بطلا قوميا للكثيرين وخلّد حذاؤه عبر أكثر من عمل فني).

لا غرابة فيما حدث تلك الليلة في البرنامج وما قد يحدث مستقبلا إذا كانت الديمقراطية العراقية الانتقالية تمارس العهر السياسي جهارا نهارا تحت شعارات الوطنية و المقبولية والأحقية بتمثيل الشعب العراقي وغيرها من المصطلحات المستحدثة في قاموس الردح والبذخ العراقي.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 6/أيلول/2010 - 26/رمضان/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م