الإخلاص في المهنة عرف أدركه الناس ودعوا اليه منذ أن وعى الإنسان
على نفسه وتعايش مع بعضه، وذلك من أجل مصلحة عامة وفائدة أكيدة تعود
على المجتمع. الإخلاص في الواجب وحسن أداء الخدمة لا يقتصرا على مهنة
دون أخرى أو عمل دون غيره، إلاّ أن التركيز على التفاني والإخلاص قد
يكون مطلوبا بإلحاح في مهنة قبل غيرها. فالطبابة مثلا تعتبر من المهن
الإنسانية الحساسة لأنها تتعامل مع حال الإنسان وتهتم بسلامة أعضائه،
وهذا ما دعى المشرّع الى وضع قيم وأصول يجب أن يتحلى بها الطبيب
ويتبعها. فعلى الطبيب، مثلا، أن يتعامل مع مرضاه برفق وشفقة ويعالج
عدوه كما يعالج صديقه ويسعى بكل معرفته وقدرته على إنقاذ مريضه ولا يمس
زملاءه وأقرانه بإنتقاد أو تجريح أمام الملأ وغير ذلك من سنن عامة على
الطبيب أن ينصاع لها ويلتزم فيها، وعلى عكس ذلك فالعقوبات المترتبة
عليه تتراوح بين التوبيخ والإقصاء عن مزاولة المهنة.
ومهما كانت ممارسة مهنة الطب مهمة في المجتمع فأن حجم أهمية العمل
السياسي وتأثيراته على الناس أكبر وأعم وأشمل. فخطأ الطبيب لا يتجاوز
مريضه وإن حصل هذا الخطأ فهو في أغلب الأحيان ناتج عن السهو أو
الإشتباه، أما أخطاء السياسيين فانها تنال المجتمع برمته ولا تنحصر في
شخص أو شخصين أو عدة أشخاص. ورغم هذه الحقيقة وحساسية وخطورة العمل
السياسي وتأثيراته على المجتمع فنحن لم نسمع بوجود ضوابط ومستلزمات
للعمل السياسي أو شروط ومميزات تحدد صلاحية شخصيّة السياسي لممارسة
عمله. الضابط في الجيش، على سبيل المثال لا الحصر، قبل أن يلتحق
بالكلية العسكرية عليه أن يجتاز إختبار صلاحية ممارسة الخدمة، وكذلك
الحال بالنسبة للطبيب أو الحاكم أو غير ذلك من المهن الحساسة في
المجتمع كلّها تتطلب فحص صلاحية ممارسة المهنة.
السياسيون فقط يمارسون مهنتهم في الهواء الطلق بلا رقابة وبلا
ضوابط ! وهكذا نرى من هبّ ودبّ قد إمتطى جواد السياسة وطارد في ثناياها!
رغم خطورة المهنة ومضاعفات أخطائها.
فحص شخصية السياسي ودراسة حالته النفسية والتربوية والإجتماعية
والعلمية، أمور ضرورية وهامة لأن من خلالها تتحدد صلاحية السياسي في
ممارسة العمل والإستمرار فيه. فتصرفات السياسي ومفاهيمه وأفعاله تنعكس
في تأثيراتها على المصلحة الوطنية العامة بشكل مباشر أو غير مباشر،
وعلى أفراد المجتمع ومصالحهم بشكل عام. من العناصر الهامة في مركب
الشخصية عند الإنسان هو ثالوثها المتمثل بالإدراك والإحساس والإستجابة،
وفحص هذه الجوانب الهامة عند السياسيين أمر لابد منه لما له من فائدة
تشخيصية هامة لطبيعة شخصية السياسي ومعرفة حقيقة تصرفاته. الإنسان
السوي هو من يتسم بصحة الإدراك وسلامة الإحساس وحسن الإستجابة،
والإنسان المعتل هو من يشكو من ضبابية الإدراك وإضطراب الإحساس وتلكؤ
الإستجابة. فالذي لا يستطيع إدراك نسب الحقيقة وتحليل أبعادها سوف لن
يستطع تحسّس نوع الحاجة أو الإستجابة اليها.
أسباب إضطرابات مركب الشخصية عند الإنسان كثيرة ومتعددة، فقد تعود
هذه الأسباب لدواعي تربوية أو إجتماعية أو إقتصادية أو عقائدية أو
نفسية أو جينية أو عقلية أو غيرها. الحرمان من متطلبات الحياة ولوازمها،
المعاناة المستمرة والحياة الصعبة، العوز والفاقة، إنخفاض مستوى الوعي،
غياب الثقافة التربوية الصحيحة، الوسط الإجتماعي المعتل، الإضطهاد
السياسي والنفسي، الأمراض الجسدية والنفسية المستشرية، التخلف العلمي
والحضاري وغيرها من الأمور تجعل الإصابة بفايروسات خلل الشخصية سهلة
ومتفشية في بلدان العالم الثالث بشكل عام. رغم أن للخلل الفسلجي
والجيني دورا في صنع علل الشخصيّة، إلاّ ان الأمراض الإجتماعية
والنفسيّة وتدني الحالة التربوية والوعي الحضاري لها القدح المعلّى في
مجتمعاتنا في صناعة خلل الشخصيّة وعقدها.
أمراض الشخصيّة وإضطراباتها قد تصيب السياسيين كما قد تصيب غيرهم،
وتشخيص ميكانيكية هذه الأمراض عند السياسيين من خلال علاماتها وأعراضها
تعتبر عملية مهمة وضرورية.
الخلل الحاصل في مركب الشخصية قد يكون في مستوى الإدراك أو على
مستوى الإحساس أو قد ينحصر بمستوى الإستجابة فقط. عندما يكون الخلل في
مستوى الإدراك فهذا يعني بأن المرء لايدرك كنه الحقيقة أو أنه غير قادر
على حلّ ألغازها وخباياها وهكذا ستكون تحليلاته ومفاهيمه على هامش
الحقيقة وليس في صلبها، فهو لا يميّز بين القشر والجوهر وبين الصالح
والطالح ولا يشعر بمتطلبات الحاجة الحقيقية ولا يستجيب اليها. قد
يتفاوت الخلل الحاصل في الإدراك في الدرجة والشدة بين شخص وآخر، فمن
الناس من يعاني من ضبابية في الإدراك والمفهوم ومنهم من يشكو من عتمة
شديدة فيه قد تصل الى درجة الوهم والضلالة، أي قد لا يدرك المرء ما قد
يدركه الناس أو قد يعتقد بأمور ليس لها وجود أو حقيقة على الإطلاق.
أما الخلل الحاصل في منطقة الإحساس في مركب الشخصيّة فقد يكون نتيجة
حتميّة لخلل الإدراك أو حالة مستقلة بذاتها. وأعنى بخلل الإحساس هو
فقدان روح التفاعل أو هبوطها، حيث لا تتناسب مشاعر الإنسان مع طبيعة
الحدث، ويكون هذا نتيجة لشلل في الإحساس أو ضعف فيه، ودرجة هذا الخلل
قد تتفاوت من شخص الى آخر وذلك حسب طبيعة الحالة ومسبباتها. فقد تتراوح
في شدتها بين ضعف في مراكز الإحساس عند الإنسان أو إرتباك فيه وبين أن
تصل الحالة الى درجة الوهم الحسي والضلالة كما هو الحال في وهم الإدراك،
فيحس المرء ويتحسس بأمور لا حقيقة لها أو قد لا يحس ولا يشعر بواقع
الحال وطبيعة الحدث الحقيقيّة. أما ما يخص خلل الإستجابة، فهذا يعني
بأن المرء لا يستجيب لمتطلبات الحاجة على ضوء الموجودات أو قد يستجيب
لها بشكل جزئي أو غير مناسب فلا ترتقي إستجابته أو عمله لمستوى الحاجة
ومتطلبات الطموح أو قد تكون الإستجابة بعكس المطلوب تماما.
العلاقة بين عناصر مركب الشخصيّة هي علاقة ترابط وإعتماد، أي أن خلل
الإدراك يصيب منطقة الإحساس وخلل الإحساس يسبب إرباك في الإستجابة،
بمعنى آخر هو إن أختل الإدراك عند الإنسان فسيختل معه إحساسه وتختل
أيضا إستجابته. ورغم هذا الترابط بين هذه العناصر فقد يكون مكان العلّة
مقتصرا على منطقة دون غيرها، حيث قد يكون الإدراك صحيحا لكنه لا يتصاحب
مع الإحساس المناسب أو قد يكون الإدراك صحيحا والإحساس سليما لكن
الإستجابة متعثرة أو مرتبكة، أي قد لا تحفز بواعث الإدراك والإحساس عند
الإنسان محرّك الإستجابة فيه.
وهكذا فسوف نرى بين الناس من لا يدرك الحقيقة ولا يدرك العلّة
وبواعثها وحيثياتها أو قد يدركها ويفهمها جيّدا لكنه لا يتحسس لها أو
يتفاعل معها أو قد يدركها ويتحسس اليها إلاّ أنه غير قادر على
الإستجابة الصحيحة لها. إذن مرحلة الإستجابة هي آخر وأهم عتبات سلّم
التصرّف، فالإستجابة الحسنة تتطلب صحة الإدراك وسلامة الإحساس وسواء
الشخصيّة، من أجل أن تنطلق وتتبلور. وعلى أي حال من الأحوال فأن الخلل
الحاصل في مختلف مستويات مركب الشخصية ينعكس سلبا على المجتمع من خلال
التصرفات غير المناسبة وغير الطبيعية التي قد تحصل عند الشخص المعتل.
مهما كان مستوى الخلل ومكانه فأنه سيؤول الى تلكؤ وإرباك في طبيعة
الإستجابة، والإستجابة المعتلة قد تكون مخالفة لإرادات الناس أو قد لا
ترتقي الى مستوى تحقيق الحاجة. فالسياسي الذي يعاني من إرباك في مركب
الشخصية سوف لن يستجيب بشكل صحيح لمطاليب شعبه وللمتطلبات الحقيقية
التي ينتظرها المجتمع ويسعى لتحقيقها. درجة الإرباك والشلل الذي قد
يحدثه السياسي في مجتمعه تتناسب طرديا مع المركز الذي يشغله هذا
السياسي ومع درجة ومكان الخلل الذي يعاني منه. إنطلاقا من هذه الحقيقة
نستطيع أن نحكم على أهمية فحص شخصيّة السياسي والإطلاع على طبيعة حياته
وتفاصيل حالته، من قبل لجنة علمية متخصصة في الأمراض النفسية والعقلية
والإجتماعية، قبل أن ينطلق في الساحة السياسية التي إن دخل فيها سوف لن
يخرج منها.
فعلى ضوء هذه الحقيقة وهذا الواقع فأن مجتمعاتنا بحاجة ماسة الى
سياسيين وقادة يتمتعون بصحة الإدراك وسلامة الإحساس وحسن الإستجابة، كي
تكون تصرفاتهم متناسبة مع حاجة بلدهم ومتناسقة مع تطورات المرحلة
وضرورياتها. |