في إشكالية انتقاء العناوين وصوغ المتون

قصص (كائن الفردوس) لعلي حسين عبيد أنموذجا

 

 

 

 

 

الكتاب: كائن الفردوس

الكاتب: علي حسين عبيد

الناشر: دار الشؤون الثقافية

عرض: د. نادية هناوي

 

 

 

 

 

شبكة النبأ: إن قراءة النص الإبداعي – شعريا كان أم نثريا – من عنوانه يبدو فعلا أمرا صعبا فالعنوان مفتاح النص لا ريب، لكنه قد يصادر رؤية المتلقي وقد يوجهه أو يختاله فلا يكشف له عن شيء من رؤى النص.

فالعنوان كائن لغوي مراوغ شديد المراوغة لحظة القراءة الأولى لكنه أكثر مطاوعة أمام القارئ في لحظات القراءة الأخرى ومثالنا الذي نقف عنده هو مجموعة (كائن الفردوس/ دار الشؤون / بغداد) للقاص علي حسين عبيد وهذا العنوان ليس من زمرة تلك العناوين التي يمر عليها القارئ فلا تحرك فيه ساكنا فكل قصة تحمل عنوانا يحرك في القارئ إحساسا باغتراب حاد بين نقيضين يشدهما حال واحد فقصة (تفاحة البحر) تتلاقى في عنوانها مع قصة (تفاحة الخيال) و (فضاءات الوهم) مع (خديعة الماء) و (كائن الفردوس) مع (نتوء الشيطان) و (تناسل الأسوار) مع (سيول الكلام) حيث تجمع بين كلمات ذات مفردات لفظية ومقاربات دلالية.

وهذه المعادلة الموضوعية التي يضعها هذا النص أمام القارئ هي لا محالة كاشفة عن ملكة تخيلية يطوعها صاحبها في عمله الإبداعي عبر هذا الانتقاء المحسوب لعناوين قصصه القصيرة مانحا إياها انزياحات وعدولات تعيد استدعاء قارئها الى صلب العملية الإبداعية بعد ان كان واقعا أمام استغلاق النص فلا يتعدى دورة الاستمتاع بما يرشح به النص من بعض الصور او الحكم والمواعظ ويكتفي في مرحلة متقدمة بإعادة تقبلها على ما هي عليه في إطار المصالحة المعقودة بينه وبين الكاتب.

من هنا أضحى على القارئ في إطار فعل القراءة مدعوا للمشاركة والتفاعلية مع الكاتب وملزما بالاشتباك في النص المقروء في محاولة لإكمال نواقصه وسد فجواته التي تعمد الكاتب إحداثها في جسد النص ومن دون تلك التفاعلية سيجد القارئ نفسه إزاء حيرة أمام النص المقروء سواء على مستوى المضامين (المعاني) أم على مستوى الأشكال (المباني).

ان العنوان الشامل لهذه المجموعة القصصية (كائن الفردوس) وهو عنوان مبني على علاقة لغوية هي الإضافة وهذه العلاقة تنظم سائر العناويين الفرعية في إطار واحد (تفاحة البحر وسيرة ذاتية وكتاب الكيذبان وسيول الكلام ونتوء الشيطان ورائحة الأب وتفاحة الخيال وخديعة الماء وتناسل الأسوار وباقة ورد و فضاءات الوهم) وهي بمجموعها تضعنا أمام عالم من الأحلام والرؤى التي تعكس شعور بالاغتراب لما يعيشه إنسان العصر الراهن من تشتت وتبعّض وقطيعة مع ذاته او مع الآخرين.

وتتحدى هذه الثيمة القارئ عبر مفردات تستقل كل قصة في طرحها وتكرارها مع لزوم علاقة الإضافة لتحدد مسار فعل القراءة والتأويل في خط بعينه ومستوى مماثل من التراكيب والعناصر تحكمها علاقات تتحول الى علامات رؤيوية تجسد رؤية القاص وبراعته في توظيف ما يمتلكه من ثقافة وتقنيات في سبيل التعبير عن تلك الرؤية؟

فمثلا ان الفضاء الذي تتجلى فيه أقصوصة (تفاحة الخيال) فضاء لا زمني تتواتر فيه ألفاظ (الأزرق والطفل والمرأة والبحر والتفاحة) لتفسير ما يتحرك في دواخلها من توحد وتكتل عميقين سواء على مستوى البنائي أم التوليدي بين مرجعيات لا مجال فيها للتلفيق او الرتق كما تعكس ما تستحثه تقنية السرد فيها من تشويق لانتباه القارئ وتحريك لقدراته وتتعدد في قصة (سيرة ذاتية لعربة الاسكيمو) المرجعيات الثقافية التي استعملها الكاتب من مثل تحديد أماكن بعينها (بغداد) او كلمات شعبية (خطار ودشداشة) او بعض العبارات المميزة في المتن والمصنوعة بين اقواس مثل (اريد قطعة من الاسكيمو) والهامش الذي ذُيِّلتْ به القصة.

ويلقى عنوان القصة الثالثة سيلا من المترادفات على مستوى المتن فكائن الفردوس هو الكائن الملاك والطفل والطائر والفردوس والفضاء والاضواء وسحر السماء ومملكة المباهج ولحظة النقاء والفضاءات الصافية والسعادات ووجه السماء.

بينما كانت مفردات الفرح الطفولي والذئاب الشرهة وفضاءات مجهولة والغلاف البهي والاضلاع النقية والوجه الكوثري وروح الطفلة تتشظى في صياغة متن قصة (كتاب الكيذبان).

ويشع فضاء قصة سيول الكلام سيلا من الفاظ الذوبان والخطف والذواء والفراغ والصمت والانزواء والاقصاء والخوار.

وتتناوب الفاظ الزقاق والأنين والهوَّة والجوف والفرحة والكوة والتعويذة في فضاء قصة نتوء الشيطان لتنسج وحدة متماسكة الخيوط لدلالة العنوان فضلا على حسن استخدام فراغ الورقة وجودة التعامل مع مساحة الصفحة في توزيع الحوارات والاهازيج الشعبية بما يوحي للمتلقي بالصمت تارة وبالحركة والقول تارة اخرى لان البياض قد يضع المتلقي في علاقة تساؤل مع الفراغ حتى لا تبدو الحروف السود خلاصه الاوحد او ملاذه الاخير.

وتتيح تقابلات محددة من مثل التساؤلات الصاخبة والفردوس الغائبة والجموح الجنوني وأكاذيب الخيال مدى رحبا للتفسير والتأويل لما تتركه من علامات دالة يجمعها عنوان تفاحة الخيال وبين النص المقتبس من عراف عربي في مفتتح قصة (تناسل الأسوار) والاستدراك الذي ذُيِّلتْ به نهايتها، أنظمة علاماتية مهيأة لا مكانية التحليل السيميائي بما ينتج دلالات متعددة انطلاقا من مبدأ أولي وأساس هو مبدأ الاختلاف، فلا يمكن ان نعرف أي شيء ما لم تكن له علامات تميزه عن غيره ومعنى ذلك ان الاختلاف بين انتقاء العنوان في هذه القصة وبين صياغة متنها انما هو علامة في ذاتها ولاسيما اذا علمنا ان السرد انما هو جملة من التحولات التي تتابع على وفق برنامج سردي ولا سبيل الى معرفة وضعية قصصية إلاّ برصد السمات التقابلية والعلاقات الخلافية التي تندرج فيها.

واذا كانت اقصوصتا خديعة الماء وباقة ورد لا تحملان ذلك البعد السيميائي او بالاحرى لا تحفلان بعلامات بعينها فإن القصة الأخيرة في هذه المجموعة تحمل عنوان فضاءات الوهم وهو عنوان طافح بفراغات شتى تتجسد في المتن على هيأة فراغات سواء فراغ العلامات أم فراغ الذات حيث المدلول منفلت من الدال وكل مقطع او فضاء ذاكرة لمقطع آخر سابق او لاحق يستوحيها او يستحضرها في صياغات متجددة.

ومن خلال ما تقدم نجد ان مجموعة كائن الفردوس بعناوينها ومتونها تنويع قصصي يجترح تقنيات السرد وآلياته عبر مغامرة الكتابة وما هذه القراءة التي أقدمها هنا إلاّ محاولة اولى تفترض قراءات أخرى متعددة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 26/آب/2010 - 15/رمضان/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م