المتابع للوضع السياسي وللحراك الدائر في تشكيل الحكومة بعد
إنتخابات ديمقراطيّة جرت في كل من العراق وبلجيكا، يجد تشابها في
مسارات هذا الحراك. فرغم أن بلجيكا هي من دول أوربا الغربية المتطورة
بتقنيتها وحضارتها وعمق جذورها الديمقراطيّة، إلاّ أنها داخلة في دوامة
ومأزق وخلاف بين السياسيين يجعل تشكيل حكومة بلجيكيّة أمرا صعبا
ومعقدا.
ورغم أنها عضو مؤسس في دول الإتحاد الأوربي وتقود أوربا اليوم، حيث
أصبحت منذ مطلع شهر تموز"يوليو" الماضي رئيسا لدول الإتحاد الأوربي ضمن
القيادة الدورية لدول الإتحاد، إلاّ أنها غير قادرة على قيادة نفسها بل
تقودها حكومة مؤقتة أي حكومة تصريف أعمال، وهذه مفارقة لا يغفل عنها
المتابعون.
نفس الحالة يشكو منها المجتمع العراقي اليوم حيث تتنازع قواه
السياسيّة على كراسي الحكم مما يعطي صورة متشابهة بين البلدين تدعو الى
التأمل والبحث والتحليل في ميكانيكيّة هذا التشابه رغم التباين الكبير
في خصوصيّات هذين البلدين.
بلجيكا دولة حديثة نسبيّا تأسست عام 1831م وهي دولة هجينة تتألف من
ثلاث شرائح قوميّة مختلفة هي: القوميّة الفلمنكيّة وتتكلم اللغة
الفلمنكيّة المشابهة تماما للغة الهولندية وتشكل ما يقارب الـ 59 في
المائة من السكان، والقومية الوالونيّة التي تتكلّم اللغة الفرنسية
وتشكل 40 في المائة من السكان، ثم القومية الألمانية التي تتكلم اللغة
الألمانية وتشكل نسبة قليلة توازي الـ 1 في المائة من نسبة السكان.
أما في العراق فالصورة متشابهة من حيث التركيبة الإجتماعية حيث
يتقاسم أرض العراق قوميات وأديان وطوائف متباينة أهمها العرب الشيعة
الذين يشكلون وحسب إحصائيات قديمة،إذ لا تتوفر إحصائيات حديثة دقيقة،
ما يقرب من 54 في المائة من نسبة السكان والعرب السنة حوالي 22 في
المائة والأكراد والتركمان الذين يشكلون ما يقارب الـ 18 في المائة،
بينما تشكل الأديان والأقليات الأخرى ما يصل الى 6 في المائة من نسب
السكان بشكل عام.
الصراعات السياسيّة في ظل التأريخ الديمقراطي في بلجيكا يمتد عميقا
أي منذ بداية تأسيس هذه الدولة، حيث تعرضت بلجيكا الى مطبات سياسيّة
كثيرة أوشكت أن تؤدي الى تقسيم هذا البلد. دعوات التقسيم هذه لا تزال
قائمة حتى هذه الساعة، فهناك من يدعو الى فصل البلاد الى ثلاث مقاطعات
رئيسية وهي المنطقة الفلمنكيّة في الشمال والمنطقة الوالونيّة في
الجنوب ومنطقة بروكسل في الوسط. الدعوة لهذا التقسيم تشابه الدعوة
لفيدرالية المناطق في العراق والتي قد تتحول الى نواة للتقسيم
والإنفصال الكامل لأنها ستكون على أسس قوميّة وطائفية، وهي تعني أن
يقسم العراق الى ثلاث مناطق رئيسيّة أيضا: المنطقة الشمالية للأكراد
والمنطقة الوسطى يتقاسمها العرب السنة والشيعة والمنطقة الجنوبيّة
للعرب الشيعة.
إزدياد نبرة الدعوة الى التقسيم وتعالي الأصوات للإنفصال في بلجيكا
تعتمد إعتمادا مركزيّا على الحالة المادية والإقتصادية التي تمرّ بها
البلاد. التفاوت الحاصل في البنية الإقتصادية والمادية بين الشرائح
المتباينة في بلجيكا تعتبر نقطة الإنطلاق في السجالات السياسية
والنزاعات المستمرة. الفلمنيكيون هم الشريحة الأغنى في المجتمع
البلجيكي ويعتبرون أنفسهم كبش فداء للوالونيين الذين يعتاشون ويستفيدون
من الرفاه الإقتصادي والمادي الفلمنكي. بدأ صبر الفلمنكيون ينفذ جراء
المساعدات السخيّة المستمرة الى قرائنهم الوالونيين الذين ينغمسون
بهوّة الديون والمطاليب الماديّة غير المنتهيّة، كما أن اللغة الفرنسية
بدأت تطغي على اللغة الفلمنكيّة مما يهدد التراث الفلمنكي الذي يعتزون
به ويودون الحفاظ عليه.
التشابه مع الحالة العراقية واضح في هذا المضمار، ففي العراق ثروات
طبيعية كثيرة يتركز قسم منها في مناطق دون أخرى ربما ستكون السبب
الرئيس في أي نزاعات سياسية تحصل أو تكون مدعاة لدفع بعض القوميات أو
الطوائف الى الإنفصال والتشرذم من أجل الإستحواذ على مردودات هذه
الثروات وحصرها بهم. وهكذا فأن أسباب النزاعات السياسية في بلجيكا
موجودة بنفس الصورة في العراق أيضا فكلاهما مركب إجتماعي متباين في
قومياته ولغاته وتوجهاته وكلاهما له موارد تتباين في التوزيع والموقع
والنسبة. هذا التباين الصريح في الحالة المادية الإقتصادية والحالة
الإجتماعية في مجتمع واحد وتحت نظام الديمقراطيّة قد يسبب مشاكل
سياسيّة معقدة قد تؤول الى تطلّع البعض للإنفصال والإنسلاخ من النسيج
الإجتماعي الواحد الذي يضم هذه الشرا ئح المتباينة.
رغم هذا التشابه في أسس التباينات السياسية بين السياسيين في هذين
البلدين إلاّ أن الوضع السياسي العراقي يتعرض الى مخاطر إضافية وعوامل
خارجيّة وداخلية تزيد من حدّة الأزمة وتفاقمها وهذا ما يجعله مختلفا في
بعض الأمور عن الوضع السياسي البلجيكي. بلجيكا وعاصمتها بروكسل تعتبر
العاصمة الفعلية لأوربا، فأوربا الموحدة لن تسمح بأي خلل سياسي أو
تشرذم يحصل في عاصمتها، أي أن المحيط الخارجي المتمثل بدول الجوار ودول
الإتحاد الأوربي والدول الغربية الأخرى بشكل عام لا يشجع الإرباك
السياسي في هذا البلد بل يردع أي تطورات سلبية قد تفضي الى التشرذم
والتقسيم. عكس الحالة العراقية تماما، إذ أن دول محيط العراق والدول
الخارجية بشكل عام بين جار ومجرور في الشأن العراقي وهذا ما يزيد حدّة
الملابسات والإختلافات السياسيّة في هذا البلد.
هذا من جهة ومن جهة أخرى فأن من المفارقات التي تتميّز بها الحالة
العراقية في الوقت الراهن هو عدم نضوج مفهوم الديمقراطية في عقول ونفوس
بعض السياسيين العراقيين. فظاهرة "شبق السلطة" وحب الأنا وعدم التسليم
بالرأي الآخر، وبناء هيكل الديمقراطية على أسس دكتاتورية أي نشوء حالة
الـ " الدكتوقراطيّة"، إن صحّ التعبير، وقلة الوعي الديمقراطي بشكل خاص
والوعي الإجتماعي بشكل عام، كلّ ذلك يجعل تأزم الحالة في تفاقم مستمر.
فالذي يراقب الحالة العراقية عن كثب قد يصعب عليه أن يرى سيناريوهات
مثالية تصنع من الوضع الحالي دولة مستقرة موحدة آمنة في ظل التشرذم
السياسي الداخلي وصراع الأقطاب الخارجي.
من هنا نستطيع أن نستخلص ونستنبط ومن خلال الوضع السياسي في العراق
وبلجيكا الدروس والعبر التالية:
أولا: أن تطبيق الديمقراطية في بلدان فيها تباين إجتماعي هام هي
عملية حساسة وخطيرة للغاية، إذ قد يولج البلد غير المحضر لها تحضيرا
علميا صميميا وحقيقيا في متاهات ومصائب لا تحمد عقباها. لأن وجود
تباينات عرقية أو لغوية أو دينية أو طائفية في المجتمع الواحد كفيل
بدفع هذه البلدان في ظل ديمقراطية هشّة وغير منظمة الى نزاعات سياسية
محتدمة قد تقود الى تقسيم البلاد وتفتيتها أو الى الولوج في أتون حرب
أهلية. حتى الدول المتقدمة نسبيّا في العالم قد فتتت الديمقراطية
الأواصر الموجودة بين شعوبها وقسمتها، ففي ظل الديمقراطية غدت
تشيكوسلفاكيا السابقة دولتين ويوغسلافيا السابقة دويلات والإتحاد
السوفيتي السابق دول. كما أن اقليم الباسك في أسبانيا يسعى للإستقلال
على أسس عرقية عن أسبانيا وايرلندا الشمالية تتوق للإنفصال عن بريطانيا
لأسباب طائفية، والتقسيم على أساس اللغة في كل من بلجيكا وكندا أضحى
قاب قوسين أو أدنى ما لم تنتبه الشعوب على نفسها.
ثانيا: رغم أن الأسباب الظاهرية للأزمات السياسية بين السياسيين
تتبرقع ببرقع العرق أو اللغة أو الطائفة أو الدين، إلاّ أن الأسباب
الكامنة والحقيقية من وراء الحركات الإنفصالية هي غالبا ما تكون مادية
إقتصادية بحتة. فان كانت على سبيل المثال كتلة من مجتمع ما تتمتع برخاء
إقتصادي أكبر من الكتلة الأخرى الموجودة في نفس المجتمع فسوف نرى طلبات
الإنفصال والتقسيم صادرة عادة من الفئة الغنية وليس الفقيرة. كما أن
الفئة الفقيرة في ذلك المجتمع تكون عادة الأكثر تمسكا والأشد إلتصاقا
بعرى التماسك والإلتحام. فالفلمنكيون هم الأغنى إقتصاديا في المجتمع
البلجيكي والوالونيون هم الأفقر. والفلمنكيون هم من يشتكي من عبء
الوالونيين المادي عليهم الى درجة أن بعضهم يرنو الى التقسيم والإنفصال!
ثالثا: من أجل إرساء أسس الديمقراطية الحقة في بلداننا التي لم تر
نور الديمقراطية بعد! على رواد الديمقراطية ومناصريها أن ينتبهوا الى
ضرورة توعية شعوبهم بأسس الديمقراطية الصحيحة وأن ينشروا مبادىء ثقافة
الديمقراطية كي لا تنخدع تلك الشعوب وتقع فريسة سهلة بين براثن
المتطرفين والمتشددين أو الفئويين وعشاق الذات. ولكي لا تصبح
الدكتاتورية المرّة العنيدة أبهى وأنسب من الديمقراطية الهشة الجديدة
فيضيع الخيط والعصفور وتخرج الشعوب المتعبة من صحراء الدكتاتورية
الجافة لتدخل في نار الديمقراطية الحارقة ويصح عندها المثل القائل:
كالمستجير من الرمضاء بالنار....! |