قد يعتقد البعض حين يرى كثرة كتاباتي أنني من النوع " الثرثار "..
والحقيقة أن قلمي هو الثرثار.. أما لساني فقد ركنته خلف سدين منيعين من
أسنان وشفتين، ولا يخرج إلا وقت الحاجة القصوى، حتى أنني أستطيع أن
أحصي عدد الكلمات التي نطقت بها في يومي !.
وهذا ما يجعل أم العيال تضيق بي ذرعا، فهي تريدني أن أكون في مقام
(الأصمعي) أحدثها بعجائب وأخبار الدنيا، وهي حين تشم رائحة خبر مستعرض،
تسألني (هاه.. شنهي العلوم ؟) فيأتيها مني الجواب الكافي (ستر الله
يدوم !).. وأسأل الله تعالى أن يديم عليَ وعليكم ستره..
ولأني لا أحب كثرة الكلام فقد اعتزلت مجلس أم العيال، وجعلت من
مجلسي مكانا آمنا بعيدا عن فرقعة لسانها.. ومع كل هذا الإعتزال فإني لا
أسلم من زياراتها التفقدية المفاجأة لتحرك سواكن صمتي بأحاديث تفقع
مرارتي (يا عزيزتي أنا مالي ومال السوالف هاي.. هوَه أنا ناقص.. بيه
اللي مكفيني !).. إقتباس من المسلسلات.. قطعا هذا الكلام أقوله في
سريرتي.. ولو صرَحت لها به لامطرت مجلسي بعباراتها الذرية فوق رأسي (ليش
أنا مو مالية عينك !.. تاخذني على قد عقلي !. !).. وفي كثير من الأحيان
تدك معقلي بصواريخ عابرة من قواعدها في الصالة والمطبخ لتخترق أجواء
صمتي وتضرب بقوة في عمق نفسي " لا حول ولا قوة إلا بالله، حسبنا الله
ونعم الوكيل ".. وهذا غاية حيلتي خصوصا حين تقدم لي المنغصات اليومية
مع موعد الوجبات الشهية.. رحم الله أبا العلاء المعري حيث أخذها من
قاصرها (هذا ما جناه أبي عليَ وما جنيته على أحد) لا عيال ولا أم عيال.
والحق أنك إن لم ترفرف في أجواء هوى العيال وأم العيال فلن تجد من
يقول لك يا بابا أو يا حبة عيني !.. ولو قلت للهوى (لوا) لتدلت من حولك
البراطم كأنها براطم (بعارين) خلصت للتو من وجبة شوك. هي حقيقة مرة ولا
أحد يعذرك حتى ولو كنت من الذين لا يسألون الناس إلحاحا.. وحين تحشرني
أم العيال في الزوايا الضيقة ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فإني أستخدم
معها لغة الإشارة بالرأس.. فالرفع يعني (لا).. والخفض يعني الإمتثال
للأوامر.. وتحريكه ذات اليمين وذات الشمال يعني (مستحيل).. وإذا كان
رأسي مشغولا بهموم الدنيا فلا مانع من أن أستخدم (تك عين اي عين واحدة
وحاجبها).
لا زلت معكم على الخط، والحديث هنا عن ترشيد استهلاك الكلام.. وأذكر
أنني كتبت عن هذا الموضوع مقالا نشرته إحدى الصحف المحلية قبل سنوات
قلت فيه :
يتحدث الناس عن ترشيد استهلاك الكهرباء والماء.. وقد وضعت الضوابط
التي تحد من عمليات الإسراف، كان من أبرزها وأكثرها فاعلية استحداث
نظام العشر امبيرات. لكن أحدا لا يتحدث عن ترشيد استهلاك الكلام.. مع
أن الناس يدفعون ثمنا للكلام الفاضي أضعاف ما يدفعونه ثمنا للماء
والكهرباء. وبما أني لست مشغول البال بهوى " النشمية " ولا بمصير "النشامى
"، أجد نفسي لعدم الأهمية في عافية من أن أكون محطة إرسال وأستقبال،
وفي غنى عن الخطوط الساخنة. فلا يا ناشدا عني تراني " بتهوفن " ولن
تسبق هواتفي المقادير.. ولولا خفقان قلبي وأني من النوع الذي يجفل من
صفيرالصافر (صفير أم العيال)، لدققت رأس التليفون الثابت بين حجرين
لأسلم من نغمات رن رن يا جرس، ومن العزف المنفرد على رأسي وقلبي، حين
أصحو وحين أنام، وحين أكون في غيبوبة من صوت تلك المرأة وهي تقول :"
آلو آلو.. يا جارة، أنا اليوم محتارة !.. شو طبختي ؟.. شو نفختي ؟.. شو
الاخبار غير السارة ؟..
وكم أتمنى في مثل هذه الساعة أن يختلط الحابل بالنابل أقصد حابل
الهاتف بكابل الكهرباء بخطوط المجاري النفاثة، كي تعرف الناطقة
المحتارة كيف يكون الطبخ والنفخ على درجات الحرارة العالية، وكيف هي
رائحة أخبار تشكيل الحكومه. وبما أني أعرف قيمة نفسي فإني أجد متعة حين
أخرج من غير أن يسأل عني. لكن حين يهزني الشوق للمقاهي العامرة أصاب
بالضغط وضيق في التنفس من تلك الغوغائية التي تجري هناك.. حيث أصبحت
المقاهي بفضل أجهزة الاتصال عبارة عن غرف سنترال، فتعطلت لغة الأنس بين
الأحباب وطغت لغة الرنين على كل حوار، لينفض حاملي الموبايل عن مكالمات
لا تنتهي بدءا بالسؤال عن الحفاظات.. والعشاء وانتهاءا بنتائج
البكالوريا، وأشياء أخرى لا قيمة لها ولا أهمية.
فنحن في عصر استطالت فيه الألسن وتوسعت الحناجر والأشداق، وذهبت
حكمة الحكيم مع الجوالات. فالثرثرة التي كانت تعد نقيصة في زمن " إذا
كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب " أصبحت صفة بارزة في حياة الناس
اليوم.. والأدهى أن هناك محطات إذاعة وتلفزة أخذت تبث الثرثرة على مدار
الساعة دون مراعاة لقيمة الوقت وقيمة الكلام، مما يقودنا إلى خسائر
فادحة بسبب " الهذر الفارغ " والجري المحموم خلف سراب برامج الوهم التي
تعد المغفلين بالملايين.
والعجيب أن حكم ترشيد استهلاك الكلام قد قيلت في زمن كان الكلام فيه
بالمجان، ومع ذلك كان الناس يلتزمون مبدأ " خير الكلام ما قل ودل "..
لكننا في هذا العصر لا نلقي بالا لبلاغة القول.. وقد عشنا حينا من
الدهر لم نكن نحمل معنا ألسنة الآخرين. وكم هو مؤسف أن تجد من لا يعبأ
بالتحذيرات.. ومن يدري فربما يأتي زمن نجد تحذيرا آخر " وعلى الأخوة
الكرام قفل محطاتهم الفضائية ! ".
كانت تلكم رحلتي معكم.. دمتم على خير.. والسلام |