قراءة في كتاب: مشاكسة المدرسة

فخ التنقيب في مفازات الذات

 

 

 

 

 

 

الكتاب: مشاكسة المدرسة

الكاتب: رنا عبد الحليم

الناشر: اتحاد الأدباء والكتاب في النجف

عرض: علي حسين عبيد

 

 

 

 

شبكة النبأ: لا ضير في أن تقرأ ذاتك ومحطاتها المتميزة وخلافها، ثم تبدأ تكتب هذه القراءة على الورق وتقدمها لمن يقرأك مسبوكة في جنس أدبي معين، لكن المشكلة التي يعاني منها سردنا، قصة ورواية، – كما أكد ذلك عدد من النقاد- أنها تكاد لا تخرج بعيدا عن دائرة الذات، وهذا ما يحدد انطلاقها ويحد من اتساع جيناتها كمن يحصر النسل في سلالة واحدة ترفض التزاوج مع الغرباء فتكون أسيرة لخواص وراثية مكرورة وضعيفة معا.

أعني بهذا الكلام أن ثمة كتابا عربا (كما يصفهم النقد) ظلوا الى أمد بعيد من تجربتهم غائصين في ملاعب الذات وأغوارها، وهذا ما حدد ابداعهم، على خلاف التجارب الانسانية الاخرى لاسيما الغربية وامريكا اللاتينية التي تعامل معها كتاب السرد من خلال المزاوجة الحرة بين تجربة الذات والآخر من دون تعصب او خوف او تردد، او ميل للذات على حساب الآخر، او الخارج بكل ما يتمتع به من تنوع.

فإذا كان بعض الساردين الراسخين غائبين في ذواتهم كليا كما يبدو الامر، هل يجوز للقادمين الجدد أن يقعوا في الفخ نفسه، لقد قرأت مؤخرا على سبيل المثال عملا سرديا يعتمد – في بعض مناحيه- السيرة الذاتية، رواية للكاتبة لطفية الدليمي تحمل عنوان (سيدات زحل)، لكنها تمكنت أن تقفز على ذاتها بوضوح، بل تمكنت من دفع الذات لكي تتلاقح مع الخارج – ومنه التأريخ- وتتعامل معه بنديّة فنجحت من حيث أخفق غيرها.

هذا يعني أن الذات إذا ما تم التعامل معها بحنكة ودراية فإنها لاتقود السرد الى الفشل بعد الانضواء تحت اسوار الذات، أسوق هذا الكلام وأنا أنتهي من قراءة مجموعة قصص (أقاصيص) بكر للكاتبة الشابة رنا عبد الحليم حملت عنوان (مشاكسة المدرسة/ صدرت مؤخرا عن اتحاد الادباء والكتاب في النجف/ سلسلة اصدارات بانقيا 17) وطالما أنها المجموعة البكر، فإن حضور الذات في أجواء السرد وارد جدا، ولا يشكل هذا الامر نقصا او خللا فنيا،  فكما نتفق، غالبا ما بدأ الكتاب رحلتهم مع الادب في خواطر ذاتية حاولت أن تفهم العوالم الخاصة وتتحاور معها قبل غيرها وتقدمها للآخرين عبر التدوين الأولي، ولكن ما أبلغ أن يتنبّة الكاتب او الكاتبة الشابة الى هذا الفخ فتحاول عبوره بأقل الخسائر، وأقول خسائر، لأننا في عالم اليوم ما عدنا - كقراء- نستسيغ الذات الواحدة، في عالم سردي او شعري لا محدود بسبب اتساع الرؤى القرائية وتنوعها وشغفها بالنافر من الكتابات الغائصة في رحاب الآخر قبل ذاتها، نظرا لاتساع العالم الواقعي لدرجة انه صار ينتمي في بعض أحداثه وسماته الى حلبة الخيال وغرائبه.

رنا عبد الحليم لم تعبر الفخ كما هو متوقع في بعض مضامينها، ولكنها تحررت من عقدة الذات في بعض آخر ورد ضمن مضامين مجموعتها الاولى هذه، وهي إشارات يمكن أن توظفها رنا لصالحها وتطور خروجها بعيدا عن أسوار الذات المغلقة.

تدوينات هذه المجموعة غلب عليها طابع الاقصوصة او القصة القصيرة جدا، معظمها أخذت مادتها من ذات الكاتبة، وكأنها تنقّب بتروٍ وهدوء في مفازاتها ومجاهيلها عبر اسلوب يتخذ من المشاكسة والسخرية اللاذعة مسارا فنيا قلما تحيد عنه الكاتبة.

إن براءة السرد تبدو هنا جلية، مع التلقائية الواضحة التي تنم عن صدق الكاتبة في لحظات التدوين، الامر الذي يجعل من تدويناتها خفيفة الظل في معظم الاحيان، لاسيما تلك التي تعرض على شاشة الورقة مشاهد مشاكسة فعلا كما في إقصوصة (ذكريات) او مشاهد مضمخة بالسخرية كما في أقاصيص (خجل الثولان/ انتقام دنفوش/ روماجين) وغيرهما، ويمكن أن نستخدم هنا مفردة شاشة لأن التركيب اللغوي غالبا ما يتجسد على شكل صور متحركة.

وقد نحت هذه الاقاصيص الى التعامل مع الواقع العراقي الراهن بتضافر واضح بين ملامح الألم واللوعة والهزء المبطن حيث تلقي الكاتبة مجساتها في لجة الواقع المرئي والمعاش في آن لترسم مشاهد تضج بخليط من الأسى والقهر والتهكم كما نقرأ ذلك في ( صيف بلادي/ كرة قدم/ إتصال/ هوايات ) وغيرها.

وتبقى هيمنة الذات والتجوال المتكرر في حدودها لازمة قلما تتمكن الكاتبة من مفارقتها، حتى أن القارئ يمكنه أن يرسم شخصية مقاربة للمؤلفة بعد الاطلاع بتمعن على مضامين كتابها هذا، فهي مثلا تتمتع بعلاقة وطيدة مع القطط وقد تكررت هذه الحيوانات الأليفة وأسماؤها في عدد من الأقاصيص حتى انك يمكن ان تحفظ اسماءها وبعض اشكالها وسلوكياتها وطبيعة العلاقة بين الكاتبة وبينها، كما نلاحظ ذلك في أقاصيص ( امومة/ رقة لعينة/ انتقام دنفوش).

على ان هذا لا يعني عدم قدرة الكاتبة على التخلص من زنزانة الذات ومفازاتها أيضا، فما يُكتب لصالحها أنها تمكنت في أكثر من قصة وردت في المجموعة أن تنظر خارجها وتتطلع الى حيوات أخرى وتستبطن خفاياها وتقرأ وتحلل إيقوناتها بمهارة ستتطور كثيرا فيما لو عزمت الكاتبة على مواصلة طريقها في السرد بعيدا عن الكسل الذي ورد في بعض أقاصيصها مؤكدا سطوته على الكاتبة في اوقات وحالات عديدة، مع أنها أعطت لنا اشارات تؤكد انها يمكن ان تتفاعل مع غيرها وهذا يدل على قدرتها على التحاور مع الخارج والآخر بكل ما ينطوي عليه من تنوعات وتشعبات تتطلب موهبة تعتاد الصبر وتقبل الاستفزاز بصورة تلقائية، وتدعم هذا الرأي قصص من غير المناسب ان نطلق عليها مفردة أقاصيص مثل (مجلس جهنم/ لوحة من جهنم/ عابس 1430) وغيرها.    

إذاً لم تكن رنا أسيرة التدوين الذاتي بصورة كلية كما أشرت سابقا، إنما تجاوزت التنقيب في ذاتها الى غيرها، فكتبت عن نساء الجنوب، وعن الرجل المهمَّش الحالم بالسلطة، وانتقدت انعكاس الاحتلال على الواقع، وتذكرت ضحايا الحروب، وكتبت عن الشعر والشعراء كما في قصة (الشاعر: كون في ومضة) ولم تنس أن تستذكر - في أجمل أقاصيصها- شاعرنا الراحل احمد آدم حيث حملت هذه الاقصوصة عنوان (يسعى) وهو عنوان الديوان الاول لآدم في ومضة وفاء رائعة.

هذه كلها اشارات ومحاولات لمغادرة سجن الذات الى خارجه، واذا كانت المجموعة الاولى تسمح بهامش معيّن في هذا المجال، فإن مغادرة مفازات الذات والتنقيب خارجها لابد أن يتصدر اهتمامات الكاتبة فيما لو قررت مواصلة الطريق وإن كان بعيدا وشاقا في آن.

وقبل أن أنهي كلماتي لابد أن أشير الى أهمية أن تتجاوز الكاتبة شغفها الواضح ببعض المفردات (العامية) لأنها تمتلك موهبة سرد ساخرة ومشاكسة وقادرة على التعامل مع لغة نقية تمنحها قدرة كبيرة على مخاطبة الحس الانساني الأوسع.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 10/آب/2010 - 29/شعبان/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م