الصحّة الجيّدة ركيزة أساسيّة للإنتاج والتمتّع ببهجة الحياة، دون
أن ننفي ظهور أشخاص في التاريخ عُرِفوا بعطاءاتهم الكبيرة رغم إصابة
كلٍّ منهم بعلّةٍ أو بأخرى. من بينهم، على سبيل المثال، نذكر:
- جبران خليل جبران، وتوفّي في عمرٍ مبكر مصاباً بتليّف الكبد
وعلّةٍ في إحدى رئتيه.
- الموسيقار شوبان،الذي أصيب بداء السل في زمنٍ لم يتوفّر فيه علاج
لهذا المرض.
- وبيتهوفن الذي فقد حاسّة السمع واستمرّ رغم ذلك ينتج أرقى أنغام
الموسيقى.
- والرئيس فرانكلين روزفلت، الذي نجح، متجاوزاً الشلل في ساقيه، في
الإمساك برأس الهرم الإداري في بلاده وإنقاذها من محنتها الاقتصادية
الكبرى في ما قبل الحرب العالمية الثانية.
إنّ مقدرة هؤلاء وأمثالهم على الاستمرار في العطاء جاءت نتيجةً
لقوّة نفسية تغلّبت فيها لذّة العطاء والإنتاج على روح الإحباط المرتبط
بما أصيبوا به من علل في الجسد. فهم في هذا لا يمثلون المسلك الأعم
والقاعدة الأوسع لدى الناس. وإنْ من شيء فهم شهادة ناطقة بما "للتفكير
الإيجابي" ( positive thinking ) من دور في تحقيق السلامة في التصرف
وحسن التوجّه في الحياة.
وعلى استقامة مع هذا الخط من التفكير الإيجابي، يرينا التاريخ كم
كان كبيراً الاهتمام بالطب والأطباء في مجمل الحضارات السالفة، إذ
غالباً ما احتلّ الأطباء مركزاً مرموقاً عند المصريين، كما عند الفرس،
والكلدان، واليونان، والعرب، تعبيراً عن دورهم في مكافحة سلبيات المرض،
للتغلب عليها وتوفير المزيد من الفرص للصحة العامة.
نجاحات علم الصحة والطب في القرن العشرين:
لقد كان للخطوات الطبية الكبيرة في العقود العشرة الماضية أكبر
الأثر في توفير صحة أفضل للبشرية قياساً على ما كانت عليه في العصور
السالفة. نذكر على سبيل المثال ارتفاع معدّل عمر الإنسان في أميركا،
تلك البلاد المولعة بالإحصاء، من 38 سنة في بدء القرن الماضي إلى 78
سنة في نهاية القرن.
كما أنّ أمراضاً شتّى قد اختفت، نخصّ منها بالذكر داء الجدري، أو هي
في تناقص مضطرد، نذكر منها التيفوس Typhus ، والسل، والملاريا،
والزُهَري، والطاعون، والكوليرا.
وبفضل اكتشاف جرثومة ال H-pylori ، لقد انخفضت حوادث القرحة الهضمية،
ومعها النزيف الحاد من المعدة، بشكل واضح، كما يتجلى في العمل العيادي
والأبحاث العلمية المحكمّة. كما أنّ داء السرطان، الذي ما زلنا في
مجتمعاتنا الشرقية نتجنّب ذكر اسمه من الخوف والرّهبة، قد أصبح في
الكثير من أنواعه قابلاً للشفاء. يأتي بعده "نقص المناعة المكتسب"
المعروف بالسيدا أو ألآيدز ( AIDS )، الذي أرعب أمريكا وأوروبا
وأفريقيا قبل عشرين سنة. فإذا به الآن بفضل العقاقير المكتشَفة يصبح
مطواعاً للطب، ممّا يتيح الفرصة لكل من أصيب به، وتجاوب مع أصول العلاج
والعناية، بأن يمارس حياة عادية منتجة في مجتمعه وبين أهله.
هذا ناهيك عن العمليات الجراحية في القلب والدماغ، وزراعة الأعضاء،
وتركيب الأطراف. ففيها ما يُدهِش، ويفتح المجال لآمال كبيرة. ومع ذلك،
فعلى سبيل التوصيات العملية، نبدأ بالقواعد الأولية من العناية الشخصية
التي يعرف أنها باتت تمهد لعمل الطبيب أن يحقق ما يعزى له من نجاح في
العلاج وتؤمن للمريض أن ينال الشفاء بمزيد من السرعة والضمانة. الطب في
النهاية مراس مشترك بين طبيب معالج ومريض متجاوب.
إشارات صحية سريعة:
تجنّب ما يضر:
من المبادئ الأوليّة في الصحّة تجنُّبُ ما ثبُتَ ضرره. قد نتوقّع أن
يكون هذا هو المسلك الطبيعي لكل مَنْ عَلِمَ وعَقِل. ولكن ما أكثر
الذين فشلوا في سلوك هذا المنحى. نذكر على سبيل المثال المدخّنين.
التدخين هو الوباء الأول الذي يفتح باب التلوث أمام رئة الإنسان
ودمه. إذ ثبت أنه يؤدّي إلى انتفاخ الرئتين وتصلّب أنسجتها عند البعض،
كما يؤدّي إلى مرض السرطان عند البعض الآخر، أو إلى الذبحة القلبية.
هنالك عوامل مختلفة تدفع لانتشار التدخين؛ أهمّها الترويج التجاري،
ثمّ تقاعس الحكومات والمؤسسات الصحية عن لعب دور فعال في مكافحة هذا
الوباء. وثمة دور سلبي في هذا المجال، يتأتى عن العادات السيئة
المرتبطة بأعراف الضيافات واللياقات الاجتماعية، في بعض المجتمعات.
الإدمان على الكحول علّة أخرى تحاكي عادة التدخين. فالخمرة، وإن كان
قليلها يفرح قلب الإنسان، فكثيرها ذو أضرار لا تُحصى. فهي علاوة على
تعطيلها للعقل عند المدمنين وما يجلب ذلك عليهم من كوارث، فإنّها عند
معظم هؤلاء من عوامل التدهور في الصحة، بما لها من أضرار على الكبد، أو
البنكرياس، أو المعدة.
الكسل والترهّل: وهما آفتان سيئتان للصحة لدى طبقة من الناس، يتهاون
بعض أفرادها عن العمل الجسدي، إما ترفعاً أو جهلاً، فيدفعون ثمناً
غالياً لهذا النهج، الذي يتمثل في: أوجاع المفاصل، وارتفاع الضغط
الشرياني، والإصابة بالسكّري، وما يتبعها من علل تتطلب عناية طبية
دائمة قد لا تنجح أحياناً.
دور الملح في الصحة: قد يبدو غريباً أن يأتي ذكر الملح في قائمة
الأشياء التي يجب تجنّبها، وهو المادة التي عُرفت بأهميتها عبر العصور،
وبحاجة الإنسان إليها في إصلاح الأطعمة وحفظها. ولكن عند الإكثار منه
يصبح الملح مفسداً في جوانب كثيرة من الصحة، لاسيّما في حالة الضغط
الشرياني أو قصور عضلات القلب والكليتين. هذا مع التذكير بأنّ الإنسان
السليم إنما يستطيع دائما أن يتجنب إضافة الملح إلى طعامه دون أن يسبّب
ذلك أي ضرر له، ويتعود بالمقابل على لذة المذاق بعد فترة قصيرة، ويجدر
التنويه بأنّ حاجة الجسم إلى الملح تُلبّى عن طريق ما يتوفّر منه
طبيعياً في معظم الأغذية المعروفة.
ممارسة ما ينفع:
الرياضة والنشاط الجسدي : هما ضروريان للنمو والارتقاء العضوي، بما
لهما من دور في بناء العضلات والعظام بعامةٍ، وحماية القلب من الذبحة
بما يتفوق على ما تستطيعه الأدوية. وإضافة، فهما يمدان الإنسان بغبطة
ترجع أسرارها إلى هرمونات خاصّة يفرزها الدماغ في حالة النشاط الحركي.
النظافة: إنّ غسل اليدين قبل الأكل وبعد المصافحات الكثيرة في مواسم
الرشوحات والأنفلونزا هو من أهمّ الخطوات لصدّ العدوى، ومنع انتشار
الأمراض الفيروسية والجرثومية. فهلاّ جعلنا هذه العادة السهلة التطبيق
من الأولويات في السلوك اليومي، إضافة إلى الحرص على تجنب الموبئات
والابتعاد عن مصادر العدوى والعناية بنظافة الجسم، وكذلك عدم التهاون
بنظافة الخضار والفواكه قبل أكلها. فهذه من الأمور المسلّم بصحتها، وهي
واضحة الشروط والنتائج.
التلقيح المناعي: تشدّد منظمة الصحة العالمية على وجوب التلقيح ضدّ
ذات الرئة Pneumonia مرّة واحدة في العمر لكل من بلغ الخامسة والستين.
ولعلّ بعضنا ما زال يذكر الخشية من الموت في الماضي لدى المتقدمين في
السن في كل فصل شتاء، لما يعرف فيه من كثرة الإصابات بذات الرئة، وكان
أجدادنا يتنفسّون الصعداء عند إطلالة الربيع، شاكرين ربّهم لحفظهم
أحياء. ويأتي بعده التلقيح ضدّ الأنفلونزا، وضرورة تكراره، بسبب ما
يطرأ من تغيير تلقائي مستمر في تركيب الفيروس المسؤول عن هذا المرض،
وبالتالي ضرورة إعادة التلقيح ضدّ أنواعه الجديدة كلّ سنة، ولا سيما
أننا كنا نعاني منها الأمرين كل عقد أو عقدين تقريباً، عندما كان يجتاح
المجتمعات البشرية بصورة عدائية قاسية. تبرز في هذا المجال الأنفلونزا
المسمّاة بالأنفلونزا الأسبانية، التي تنفرد برقم مذهل من الضحايا، وقد
تجاوز بعد الحرب العالمية الأولى العشرين مليوناً.
ولا مجال هنا لسرد أسماء اللقاحات العديدة المتوفّرة التي تُعطى
للأطفال أو توصف في حالات صحيّة معيّنة. ولكن تجدر الإشارة إلى
اللقاحات التي برز دورها حديثاً في مكافحة السرطان. يتأتّى سرطان الكبد
عن الإصابات بفيروس الكبد "B". وقبل ثلاثين سنة أظهرت دراسات قيّمة أنّ
هذه العدوى تنتشر بصورة كبيرة في جزيرة تيوان Taiwan الصينية، متصاعدة
بخط متوازٍ للإصابات بسرطان الكبد. وبعد أن سمحت السلطات الحكومية هناك
بالقيام بعملية تلقيح عامّة ضدّ فيروس الكبد B- ابتداءً بالأطفال
والأحداث، وذلك قبل 25 سنة، جاءت الدراسات الحديثة لترينا التناقص في
سرطان الكبد في تلك الجزيرة بصورة واضحة.
وجدير بالذكر أيضاً أنه على المنوال نفسه قبل ثلاث سنوات توافر لقاح
يحمي المرأة من سرطان عنق الرحم.
الكشف الدوري: يبرز سرطان القولون كثاني أهم سبب للموت بالسرطان، لا
سيّما في البلدان الموصوفة بالمتقدمة. ولذا تبذل حكومات هذه الدول
الجهود الكبيرة وتصرف المبالغ الطائلة لتوفير الفرصة لكل من بلغ
الخمسين من رعاياها بأن يقوم بتنظير القولون كل خمس إلى عشر سنوات. هذا
بالإضافة إلى فحص "الدم الخفي" في البراز كخطوة أولية قد تكون الإنذار
الأول للإصابة بسرطان القولون. لقد أظهرت الإحصاءات أنّ نسبة الإصابات
بسرطان القولون تنخفض بنسبة 75% عند من يمارسون عملية تنظير القولون
الدورية قياساً على الذين لا يمارسونها.
ويصحّ التشديد بضرورة إجراء هذا الفحص دورياً لمن ثَبُت وجود إصابة
في فرد من أفراد عائلته المقرّبين كأحد الوالدين أو أحد الأشقاء.
وبموازاة الفحص الدوري للقولون هنالك فحص الثديين عند النساء، لا
سيّما بين عمر الخمسين إلى السبعين.
ويجب ألا ننسى فحوص الدوم الدورية للكولسترول والسكّر ووظائف الكبد
والكليتين، ففي الاكتشاف المبكر لخلل في أي منها منافع لا تخفى على أحد.
البيئة والصحّة:
يكثر الحديث في البلدان الصناعية عن سيّئات التلوث البيئي، بعضه
تأتي به عوادم السيارات والطائرات، وبعضه تنفثه مداخن المعامل إلى
الهواء، أو ترميه كنفايات متعدّدة الأشكال في مياه الأنهار والبحيرات.
جاء كلّ هذا نتيجة التقدم الصناعي دون أن ترافقه خطوات مماثلة لحماية
البيئة. واقع الحال أنّ بيانات مؤسسات الصحة العامة تعلمنا بوجود عشرات
الالآف من المواد الكيمائية في مدار المحيط الطبيعي للبؤر السكانية في
أميركا وحدها.
ورغم الاهتمام الحكومي والشعبي بهذا الموضوع، فإنّ المؤسسات المولجة
بحماية البيئة لا تعرف الكثير عن الآثار الصحية لمعظم هذه المواد. فما
للفرد بحيلة كبيرة لتجنّب ذلك كلّه، وجلّ ما يستطيع القيام به هو أن لا
يقع فريسة الإغراء باقتناء كل جديد من المواد التي يُروَّج لها في
الإعلام عامةً، وعليه أن يحدّ من تعرّض طعامه وشرابه وهواء بيته لما
ليس ضرورياً لسكنه وعيشه.
التحفظ إزاء المغريات الصحية
الفيتامين: إنّ الافتقار إلى الفيتامينات يعرّض صحة الإنسان لأضرار
متفرّقة، منها ما يطال الدماغ ومنها ما يطال القلب أو الأعصاب والدم.
غير أن الدراسات المتعدّدة تمدّنا بدرجة كبيرة من الاطمئنان والثقة
بأنّنا لا نتعرّض عادةً إلى هذا الضرر، نظراً لأنّ معظم الفيتامينات
متوفّرة في غذائنا، خبزاً وخضاراً وفواكه ولحوماً وأسماكاً. والغذاء
الجيّد المتوازن يمدّنا بما يكفي من معظم الفيتامينات. لذلك يصحّ القول
بأنّ الإنسان الذي ينعم بصحة عادية ليس بحاجة أن يضيف لغذائه أيّة
فيتامينات.
الإضافات الغذائية والمنشطات: لعلّ هناك فائدة ما لبعض الإضافات
الغذائية، ولكن يجب التنبيه ونشر التوعية ضدّ معظم ما يُروَّج له
تجارياً في السوق الحرة، بناء على الريبة من صحة ادّعاءات أصحاب
المصالح بأنّ بضاعتهم ترفع من درجة المناعة، أو تقوّي الطاقة الجنسية،
أو توفّر حمايةً أو علاجاً ضدّ داءٍ ما. الواقع أنّ معظم البضاعة في
هذا الباب لا تنفع بحد ذاتها، وبعضها قد يؤدّي إلى أضرار بعيدة المدى،
لا تظهر إلا بعد حين من الزمن .
قد يعارض البعض مستغرباً ورافضاً أن يُنسَب لهذه البضاعة الطبيعية
أيّة أضرار .. فما علينا سوى تذكيره بأنّ الطبيعة مليئة بالصالح
والطالح من المنتوجات، نذكر على سبيل المثال الحنظل، والفطر السام،
وغيرها من النباتات المضرة، (دون أن نضيف أنّ سموم الأفاعي والعقارب
كلّها طبيعية).
فالحذار من الركون دون تمعّن إلى المنشّطات والمضافات الغذائية، فهي
عندما تؤخذ لمكافحة علّة مهمّة تسرق الوقت الثمين الذي نحتاجه للعلاج
المدروس. هذا علاوة على ما لبعضها من أضرار، وواقع الحال أنّ كثيراً من
المآسي الصحية قد وقعت بسبب سلوك كهذا، كما وأن سجلات الطب مليئة
بحالات كثيرة من التهابات الكبد المتأتّية من تناول بعض هذه العقاقير
العشوائية.
علم الطب:
إنّ أسس المعرفة تتغيّر من حين لآخر. ولذا تتراجع فاعلية الطبيب
الذي لا يسعى إلى تجديد معارفه دائماً، مهما علا كعبه في المعرفة في
فترةٍ من حياته.. فمن الأمثلة عن تغيّرات جذرية حديثة، نذكر: قصة
الهرمونات النسائية التي راج وصفها للنساء عند بلوغ سنّ الإياس (اليأس).
كان الأطباء يصفونها يميناً ويساراً وبتشجيع من مؤسسات علمية محترمة
على أنّها، علاوة على مساعدتها في بناء العظام، "تحمي شرايين القلب".
ولمّا قامت مؤسسة الصحة الوطنية NIH بإعادة النظر في هذا الأمر،
وذلك بعد إجرائها دراسة محدّدة الشروط، وجدت أنّ العكس هو الصحيح ..
وكان لنشر وقائع الدراسة أثر سيء على تجّار الأدوية.
وبالأمس القريب كنّا لا ندري أنّ دواء Plavix الذي يُعطى لحالات
خاصة من علل القلب تبطل فائدته إذا أعطي مع دواء القرحة، بسبب تفاعل
الدوائين في الكبد بصورة يلغي فيها كل منهما دور الآخر .. والأمثلة في
هذا الموضوع كثيرة.
يجدر أن نعلم أنّ العلوم الطبية رغم تألّقها تبقى علماً ناقصاً،
والدراسات التي تمدّنا بها المجلات الطبية الراقية قد تأتي باستنتاجات
خاطئة تعود لنواقص في مناهج إجرائها... فإذا كان هذا هو الحال في أرقى
نشاطات البشر، كيف نسمح لأنفسنا أن نقبل بسهولة لما يُروِّج له تجّار
المنشّطات والأدوية الشعبية وهم لا رقيب يشرف على بضاعتهم ولا حسيب
يتتبّع النتائج التي يدّعون. وبسبب كل هذا وبسبب كثرة ما يعرض من
معلومات في الكمبيوتر والمجلات من مصادر غير موثوقة، يبدو من الحكمة أن
يكون الطبيب المحلف هو الحكم المؤهّل للفصل في ذلك كلّه.
خلاصة
وأخيراً علينا أن نتذكّر أنّ المقرّرات الأولى لامتلاك صحة جيدة
تعود إلى تاريخ الفرد قبل أن تحمل به أمّه. ولقد جاء في الحديث الشريف:
"إنّ العِرق دساس". وينطوي هذا القول على إشارة إلى ما نعرفه عن
الجينات الآن (Genes) ومنها الجينات الهاجعة التي تبقى خفيّةً في خزانة
الأب أو الأم دون أن تظهر آثارها في مواصفاتهم، مع أنّها قد تُدرك في
مواصفات الجد أو الجدّة، إن كانت عاهةً في البدن، أو لوناً في البشرة،
أو علّةً في الدم.
وهناك عند الإنسان رغبة دفينة في أن يرسم خطوط مستقبله قبل أن يولد.
ولعل هذا ما ألمح إليه الكاتب اللبناني سعيد تقي الدين عندما قال
بتفكهة: "لقد اخترت بعقلين موطئاً لرأسي". أمّا اليوم، فإنّ العلماء قد
توصّلوا إلى حصر كل الجينات البشرية، وصار باستطاعتهم أن يعرفوا
مراميها، قبل أن تتجلى في المواصفات البيولوجية في الجسم كفصيلة الدم
ولون البشرة أو في احتمالات النقص في العقل أو القلب وباقي أعضاء البدن.
وفي ظروف معيّنة بات باستطاعة الطب أن يتدخّل لمنع الاحتمالات المنتظرة
كما تُبيّنها الجينات، فيغيّر مجرى الأمور السيئة قبل أن يولد الجنين،
أو بالأحرى قبل أن يبدأ بالتكوين والنمو، أكان ذلك في الأنبوب أم في
رحم الأم..
وللدوافع نفسها، تحاول مؤسسة الشيخوخة التابعة للمؤسسة الوطنية
للصحة في أميركا عن طريق الفحوص في سن الشباب والحداثة أن تهتدي للكشف
عن أمراض الكهولة مسبقاً، سنينَ طويلة قبل وقوعها، ولعلّهم بذلك
سيفلحون. .
لا بدّ لنا من تقدير أهمّية هذه المعرفة المتصاعدة التي لم يكن
ليحلم بها أحد قبل ثلاثين سنة. ولكن مع كل ما ينطوي عليه ذلك من آمال
في أن يتمكّن الإنسان يوماً من معرفة مستقبله الصحي، وبالتالي تصحيح
السيء من مساره مبكراً، فإنّه سيبقى للقدر المجهول، الذي يجيء عن طريق
الوراثة، أو نتيجة تفاعلات مع عوامل المحيط الضاغطة، الدور الأكبر في
حياة الإنسان وصحته. ولذا فإنّ القبول بالقدر، وهو ما يضمّ تحت جناحيه
كل العوامل التي لا طاقة لنا بتغييرها، هو موقف صحي وسليم على كل
الأصعدة العملية والنفسية والروحية.
ولو كان الأمر غير ذلك، لأصبحت الحياة جحيماً لا يطاق يكتنفها القلق
الدائم .. وللاستدراك نقول إنّ كل هذا يجب أن لا يتعارض مع نهج الإنسان
الفطري السليم بتجنّب الوقوع بالتهلكة أو التقاعس عن الردّ بكلِّ قواه
على ما يؤذيه في نفسه أو في جسده ..
إنّ هذا التوازن بين القبول بالمقدّر، وهو هذا الكمّ الهائل من
العوامل التي لا تأثير لنا بها، واللجوء إلى المفيد من الخيارات
المتاحة، هو ركن النجاح الثابت لصحّة جيّدة ونفس مطمئنّة، خلال فترة
العمر.
* من ندوة مركز الحوار في 23 حزيران/يونيو 2010، حوار مع الأطباء في
واشنطن |