الليلة الكبيرة

قصة قصيرة

د. علي عفيفي علي غازي

جلس (الشحات) كعادته كل ليلة في رمضان أمام وجبة الإفطار؛ في انتظار انطلاق المدفع، أنها الليلة الأخيرة؛ لكنه ليس ككل الشباب اللذين يفطرون الليلة وسط عائلاتهم مع آبائهم وأمهاتهم وإخوانهم، انحدرت دموعه مالحة أحاجه، انطلق مدفع الإفطار، أشعل سيجارته وراح ينفث دخانها محاولا أن ينفض به ما يلج في صدره من هم وضيق؛ بطريقة لا إرادية امتدت يده لتشعل السيجارة الثانية فالثالثة؛ انقضت الباكت كاملا بين أطراف أصابعه، يبحث بين جنباتها عن سيجاره أخرى، أحس باحتراق أطراف أصابعه من السيجارة الأخيرة، أطاح بالباكت في أحد أركان الحجرة، ألقى بالسيجارة في المنفضة،هب واقفا عازمًا على مغادرة هذه الغرفة القذرة التي تنبعث منها روائح الدخان؛ تلك الغرفة غير المرتبة التي لا تحوي من الأثاث سوى سرير قديم لينام عليه؛ وحصير من البردي في أرضيتها؛ وتليفزيون انتهى عمره الافتراضي منذ زمان بعيد؛ وضعه على منضدة صنعها هو بنفسه من بقايا الأخشاب القديمة التي عثر عليها في أركان المنزل.

فتح باب الغرفة المطل على الشارع؛ هب النسيم على وجهه؛ استنشق شهيقا عميقا ملأ به صدره؛ ثم زفره في الهواء لعله يجلى به ما يملأه من الهموم والأحزان ومعها أدخنة السجائر والدخان، وقف لحظات يتأمل الشارع الخالي من المارة تماما، الجميع يتناولون طعام الإفطار مع أسرهم؛ إلا هو لم يجد من يشجعه، يدير عينيه في جوانب الشارع؛ كأنه يبحث عن شئ ما فقده؛ لكنه نفسه لا يدري ما هو؟، بدأ يسير متثاقل الخطى يترنح يمينا ويسارا، توقف فجأة عندما جذب انتباهه أم تحايل طفلها لينهض يتناول معهم الإفطار، ما أن لمح المشهد ببصره إلا وابتسم متعجبا !؛ لقد شعر بالغبطة لهذا الطفل الصغير.

انحدر (الشحات) إلى الشارع الرئيسي في القرية، لا أحد من المارة الشارع خالي تماما، إلى أين يسير لا يدري، وجد قدماه تحملاه إلى مدخل القرية، لوح بيديه لسيارة؛ توقفت !!!؛ سأله السائق إلى أين ؟؛ انتبه إليه من غفلته؛ وأيقظه سؤال السائق من ثباته العميق؛ ولكنه لم يجد جوابا فلاذ بالصمت الثقيل، لم يكرر السائق سؤاله والتفت إلى طريقه، واصل السير دون انتظار للجواب، لكن الشحات جلس يحاور نفسه ويسألها عله يجد جواب،فشل في الحصول على جواب حتى توقفت السيارة وغادرها الجميع؛ ودعاه السائق للنزول.

دلف من السيارة متباطئا يسير على قدميه؛ لأول مرة يشعر بالزحام هناك الكثير من المارة حيث المدينة بزحامها، علت الابتسامة ثغره؛ووقف يتنقل ببصره بين المارة؛ وهو لا يدرى إلى أين يذهب؛ قدمه تسير وحدها حفظت طريقها اليومي، وجد نفسه جالسا على المقهى الذي اعتاده يوميا، منحه (الجرسون) بعض الحبات حمراء اللون؛ التهمها كالطفل الجائع، تراكمت الهموم على ذهنه؛ ذكريات أليمة تمر بخاطره؛ مآقيه تنهمر بالدموع؛ لا يشعر بأحد ممن حوله، والجميع ينظرون إليه متأملين متفحصين، ارتفع أذان الفجر، اليوم عيد الفطر المبارك، انه لم يشعر بطعم الأعياد في حياته، دعاه (الجرسون) للانصراف لصلاة العيد، ذكريات أليمة تمر بخاطره من أيام الصبا، ذكريات لا تحمل سوى الهموم والأحزان؛ حتى تلك النسمة التي أضاءت حياته حرمه منه خاله، فبعد انفصال والديه تزوج أبيه وتزوجت أمه،واستقر به المقام في منزل خاله، ارتبط بعلاقة عاطفية بابنة خاله "نسمة"، رفض خاله زواجهما، عاد إلى منزل والديه القديم المتهدم المهجور منذ انفصالهما، ذكريات مؤلمة تؤلم عقله، يبكى تارة ويبتسم تارة.

عاد إلى قريته وجموع المصلين قد خرجت بعد الصلاة؛ اليوم عيد أنه لا يدري لماذا؛ ولماذا هذه الجموع، لمح منزله من بعيد، ابتسم لنفسه؛ فتح باب حجرته، يتجول بين أركانها ببصره، لفحت أنفه رائحة دخان السجائر، انه يشعر بالجوع الشديد؛ لقد نسي أنه ما يزال بدون إفطار، لمحت عينه الطعام المعد، استغاثت به معدته من شدة الجوع، لم يعيرها اهتمام، ما إن وقع بصره على السرير إلا وأسرع يلقى بجسده الثقيل عليه، وغاب عن الوعي وذهب من الدنيا في ثبات عميق.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 5/آب/2010 - 24/شعبان/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م