البكاء... صحة نفسية

عبد الكريم العامري

 

شبكة النبأ: لقد أحاطت المؤلفات الأدبية البكاء بهالة رومنتيكية خيرة ونبيلة. يؤكد لنا شارل ديكنز بأن (السماء تعرف بأن لا حاجة لنا بأن نخجل من دموعنا لأنها سيل من المطر ينهمر على غبار الأرض الذي يعمي الأبصار ويطري قلوبنا المتحجرة).

أننا نبكي على مزيج من أمور غريبة؛ نبكي عندما نرى عجائز تقف لوحدهن في الطريق بانتظار مرور الباص دون أي مكان يذهبن اليه، نبكي على العصافير المدهوسة في الطرقات، نبكي على الخسائر والأرباح، على نغمات الموسيقى الحزينة المنسابة في سكون ليل من ليالي الفصول، على الأشياء التي تدعو الى التفاؤل والضحك التي تصدر عن شخص مريض يعاني من سكرات الموت، تنهمر دموعنا بغزارة على حزن طفل سقط من يده كأس الآيس كريم أو عندما تساء معاملته.

ماذا يحدث عندما نبكي ؟

تقع تحت الجفون غدد صغيرة تفرز سوائل تنظف عيوننا وتزلقها. عندما تجيش عواطفنا فأن الجهاز العصبي اللاإرادي قد يشير الى هذه الغدد بأن تنتج سائلا فائضا أو دموع. أن دوافع البكاء تنحصر في فئتين رئيسيتين: الاشفاق على الذات والعرفان بالجميل.

بالنسبة للفئة الأولى نعود الى عبارة جون دونز المعروفة (لا تسأل لمن تدق الأجراس)، أننا نحزن على فنائنا.

الثانية البكاء المرح هو بكاء عرفان الجميل: عرفان الجميل لشيء قد يمكن أن يكون جميلا للغاية في هذه الحياة. هذا هو السبب الذي من أجله نبكي لدى مشاهدة الأعمال البطولية والانتصارات، أو الاحتفالات الحماسية وان كانت لا تضاهي تقديرنا لعرفان الجميل تجاه شخص رفعنا عن الحضيض أو شخص آمن بنفسه وقدم أيمانه لنا.

تذرف النساء دموعا أسخى من دموع الرجال سواء لأسباب فيزيولوجية أو نفسانية. تملك النساء مجموعة مختلفة من الهرمونات تجعلهن أكثر عرضة للبكاء. لكن من الناحية النفسانية فأن عددا كبيرا من النساء  يتميزن بعلاقة وثيقة مع الأطفال وعليهن أن يستخدمن قدرا كبيرا من التعابير العاطفية لإيصال رسالتهن الى الأشخاص المعنيين.

بينما يشعر الرجل من جهة أخرى بأن عليه أن يكون متحفظا وكونه كان صيادا ومحاربا فقد كان غير قادر على البكاء، عليه أن يرى ما كانت تفعله يداه. لم يتغير الرجال في عصرنا الحاضر، فهم غير قادرين وفقا للتقاليد التي نشأوا عليها على اظهار ضعفهم أيا كانت العوامل التي تتصارع في نفوسهم. هذا التوتر الداخلي هو أحد الأسباب الذي يساهم في اصابة الرجل بأمراض أرتفاع ضغط الدم والانسداد التاجي.

أن عددا كبيرا من المرضى تعود أن يكبح ليس فقط دموعه بل جميع مشاعره الأخرى. هم يتساءلون ماذا يحدث للنصف الآخر من حياتنا؟ عندما يكتشفون فجأة بأنهم يتقاسمون انسانية مشتركة وتحركهم نفس الإحساسات عندئذ يشعرون بأن الناس الآخرين يهتمون بهم، ذلك الشعور يستطيع بدوره أن ينتج الدموع المكبوتة التي تبدأ بالتدفق من مآقيهم.

هكذا فأن أمورا عديدة تحرك مشاعرنا حتى البكاء. فنبكي عند سماع الأناشيد العسكرية ونبكي عندما نسمع مغامرات دون كيشوت النبيلة العديمة الجدوى، نذرف دمعا للتعبير عن عرفان الجميل الأبدي عندما يبلغ الإنسان في النهاية كوكبنا بعيد المنال.

إذا وجد في الحياة العقلية عنصران متعارضان، فقد يترتب على هذا التعارض كبت أحد هذين العنصرين. فإذا كان لدى ميعاد فلا بد أن أحافظ عليه. لكن إذا كان هذا الميعاد مع شخص أتضايق من مقابلته، كثيرا ما يحدث أن ينسى هذا الميعاد.

عملية فصل هذه الفكرة من الشعور الى اللاشعور تتم عادة بطريقة لا شعورية، بدون قصد. لذلك يكون الشخص في الغالب مخلصا عند اعتذاره بالنسيان لكن الطرف الآخر وإن قبل الاعتذار ظاهريا، إلا أنه لا يقبله بينه وبين نفسه قبولا كاملا على الأقل. لابد لنا أن نفرق بين نوعين من النسيان: أحدهما النسيان بالترك وهذا يحدث بالتدريج، كما يحدث في نسيان كثير من المعلومات.

أما الثاني فهو النسيان بالكبت وهذا يحدث بسرعة كبيرة وبطريقة فجائية، لكن هناك قضية؛ التعبير عنها لا ينفع معه الكبت ولا النسيان، كثيرا ما يعبر عنها بالبكاء فما هي؟. 

الشخصية العاطفية emotional يتعامل صاحبها مع الغير ومع الحياة بشكل عام بعاطفته أكثر مما يتعامل بعقله، في حالة التضارب بينهما فأنه يغلب حكم العاطفة على العقل، لذلك فأن أقواله وأفعاله تتسم بالمزاجية والاندفاع، صاحب الشخصية العاطفية شديد الحساسية، مرهف الشعور لما يجري حوله، يحمل نفسه مجالا أوسع من التحسس بموقعه الحياتي وعلاقاته مع الناس والمحيط، لهذا فأن أنفعالاته العاطفية لا تنحصر في القضايا الشخصية بل تمتد الى القضايا العامة والإنسانية بشكل عام؛ منها قضية الإمام الحسين(عليه السلام).

البكاء نعمة نفسية ذلك عندما يكون متنفسا لكثير من الضغوط التي تذوب في الدموع تنزل بحرقة على فرصنا الضائعة وأحبتنا الذين غادروا الى الآخرة، على مصيرنا المجهول وسط تلاطم الأمواج الحياتية المختلفة. لكن البكاء على الإمام الحسين(ع) هو قضية التواصل مع الإسلام دين ودنيا.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 4/آب/2010 - 23/شعبان/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م