لم تظهر على الساحة السياسية العراقية شخصية اتسمت بالغموض والشهرة
في آن كشخصية السياسي العراقي الستيني استاذ الرياضيات البارز الدكتور
أحمد الجلبي. لقد برز اسم الجلبي على المسرح السياسي العراقي في
ثمانينيات القرن الماضي، واقترن اسمه ونشاطه اللاحق بتأسيس - المؤتمر
الوطني العراقي - كشكل من أشكال التحالف السياسي بين شخصيات شابة غير
معروفة.
لقد فوجئت الأوساط السياسية بظهوره المباغت حيث لم يكن له رصيد في
السجل السياسي للقوى والأحزاب العراقية المعروفة بأجنحتها الكثيرة
حينها، الشيوعية والديمقراطية والقومية العربية والكردية والدينية. ولم
تبشر منظمته أو تدعي بتبني عقيدة سياسية أو دينية أو قومية، وكان من
الصعب ايضا تصنيفها كحركة ليبرالية لعدم وضوح برنامجها وعلاقاتها مع
الحركة الليبرالية التي كان لها حينها دعاتها في داخل العراق.
تزامن ظهور المؤتمر الوطني العراقي مع دعوة الزعيم الليبي معمر
القذافي في ثمانينيات القرن الماضي لتأسيس ما سماها المؤتمرات الشعبية
الأساسية، كشكل من أشكال البرلمانات المصغرة، يمثل فيها الناس في
الأحياء والمدن لتكون في نهاية المطاف "مؤتمر الشعب العام " الذي هو
بمثابة المجلس النيابي للبلاد. وقد بدأ القذافي في الترويج لتلك
التنظيمات كبديل عن التعددية السياسية السائدة في الأنظمة البرلمانية
في الدول الأخرى. وكان واضحا أنه كان مستعدا لتمويل أي تشكيلات على هذا
الغرار في كل مكان ممكن لتعزيز قيادته داخليا كمفكر عالمي.
لم يفوت بعض الزعماء العرب وقادة أحزاب ومنظمات عربية هذه الفرصة
النادرة، فاغتنمها زعيم الانقلاب السوداني حينها عمر البشير، فأسس
مؤتمر الشعب العام، تحول فيما بعد وما يزال حزبا للسلطة وأداتها للبقاء
في الحكم. وتلاه وربما سبقه إلى ذلك علي عبد الله صالح زعيم الجمهورية
العربية اليمنية، وما يزال وسيلته الفعالة لبقائه في السلطة.
لقد حضر الجلبي أول جلسات " مؤتمر الشعب العام " في العاصمة الليبية
إلى جانب الكثير من الشخصيات السياسية العربية، وفي مقدمتها الفلسطينية
واليمنية الجنوبية والشمالية وغيرها من المنظمات والأحزاب السياسية.
ولا نعرف فيما اذا كان المؤتمر الوطني العراقي قد تأسس استجابة
للمبادرة الليبية، بهدف الحصول على الدعم السياسي والمالي الذي كانت
ستقدمه السلطات الليبية، لكن ليس هناك ما يشير الى أن منظمة المؤتمر
الوطني العراقي قد روجت للنموذج الليبي في أي وقت إبان نشاطها المعارض
للنظام العراقي.
النجاح الذي يسجل لصالح الجلبي أنه استطاع في تسعينيات القرن الماضي
بكفاءة نادرة احتواء أغلب القوى السياسية المعارضة للنظام الديكتاتوري
العراقي في منظمته برغم الاختلافات العقائدية السياسية والدينية بينها،
لقد شجعها للجلوس معا وتنسيق مواقفها ونشاطاتها السياسية المعارضة لعدة
سنوات، وطور بعض نشاطاتها إلى أعمال مسلحة محدودة الأثر في شمال العراق،
قبل أن تتفاقم خلافاتها معه ومع بعضها البعض. فقد أثيرت حينها أسئلة
كثيرة حول مصادر التمويل الرئيسية لنشاطات المؤتمر الوطني، ووضعت
علامات استفهام كثيرة على علاقات رئيس المؤتمر مع الولايات المتحدة
الأمريكية التي لم ينفيها لكنه لم يبح بها علنا. أضطرت هذه المسألة بعض
القوى المنضوية تحت قيادة المؤتمر إلى الانسلاخ عنه والمباشرة بالعمل
المعارض بشكل مستقل.
لكن الجلبي لم ييأس أو يصب بالاحباط، فقد استمر بنشاطه الاعلامي عبر
صحيفته " المؤتمر" ردحا من الزمن، قبل أن يعود للحلبة السياسية مرة
أخرى ولكن بزخم أقوى، فلعب دورا محوريا في اقناع القوى السياسية
العراقية المعارضة بقبول الدور الأمريكي في دعم معارضة النظام السابق،
ومن ثم تأييد الجهود لاسقاطه بالقوة عبر الحرب التي شنت فيما بعد في
2003. وتمهيدا لذلك، ساهم الجلبي في الجهود التحضيرية والتنسيقية
الدءوبة بين الولايات المتحدة والقوى المعارضة قبل الحرب، عبر
الاجتماعات الكثيرة التي عقدت في شمال العراق وخارجه في مناسبات مختلفة
كان آخرها في لندن.
وقد تمت تلك الاجتماعات باشراف سياسيين أمريكان على رأسهم السفير
الأمريكي السابق زلماي خليل زاد الذي ما يزال على علاقة وثيقة
بالسياسيين العراقيين بعد أن تحول الى رجل أعمال بارز متخذا من اقليم
كردستان مقرا دائما لنشاطاته. لقد كان للجلبي الفضل الأكبر في صياغة
الوثائق الرئيسية التي تمخضت عن تلك الاجتماعات التي وضعت خريطة توزيع
الأدوار التي ستلعبها قوى المعارضة في النظام السياسي الذي سينشأ بعد
سقوط النظام.
ومن غرائب السياسة وعجائب الانتهازية العراقية أن تلك القوى
السياسية التي انسلخت عن الجلبي بحجة علاقاته المشبوهة بالأمريكان،
عادت هي نفسها لترتمي باذلال في الأحضان الأمريكية، وكأنها ليست هي من
كانت تعيب على الجلبي علاقاته الأمريكية. وقد أظهرت الأيام بعد ذلك أن
القوى السياسية تلك لم تعترض على علاقة الجلبي بالولايات المتحدة بسبب
عزة وطنية، بل لأنها كانت ترغب أن تكون هي الأداة الأمريكية في اللعبة
السياسية، والفائز بنصيب الأسد بالمكاسب التي يغدقها الأمريكيون عليهم.
وبرزت هذه الحقيقة بأكثر وضوحا وجلاء في الصراع على السلطة، والثراء
السريع غير المشروع الذي أتاحته سلطة الاحتلال بخبث لتحطيم عزة النفس
العراقية، واذلالها واضعافها لتمسخ شخصيتها واستقلاليتها تماما، وقد
نجحت بذلك أيما نجاح.
لقد أسرفت الادارة الأمريكية بعد الاحتلال بمكافئة الأحزاب
المتعاونة معها، حيث ظهر ذلك في نظام الرواتب والمكافئات الذي صاغته
وشرعته بداية تأسيس السلطة الجديدة، حيث تحولت الأطراف المستفيدة بفضله
إلى مليونيرات في ليلة وضحاها، وبذلك يكون للعراق لأول مرة في تاريخه
فئة سياسية من أصحاب الملايين. ذلك الثراء غير المشروع لم يحرج
السياسيين المبتذلين الجدد من حقيقة أن ثرائهم لم يكن هبة من الخزينة
الأمريكية، بل من المال العراقي المنهوب من كدح ورغيف المواطن العراقي،
ومن أموال العراق المهيمن عليها عنوة من ارصدته في البنوك العالمية،
ومن مبيعات النفط التي أخضعت وما تزال للسلطات الأمريكية. لقد قدمت
سلطات الاحتلال تلك المكافئات ثمنا للسكوت عن قرارات انهاء الجيش
العراقي ومؤسساته المدنية، وتجريد الدولة العراقية من مقومات وجودها
واستقرارها ونهوضها الى أجل غير معلوم. ولقد أصيب الرأي العام الثقافي
العراقي بالصدمة وعدم التصديق، عندما ظهر على المسرح السياسي واحتل
دورا قياديا في السلطة الجديدة شخصيات دينية وقبلية وسياسيون لم يسجلوا
حضورا ولو اسميا في النضال السياسي الوطني لاسقاط الديكتاتورية واقامة
النظام الديمقراطي في العراق.
والأمر الذي ظل عسيرا على الفهم والتصديق أن يوجه الأمريكيون قبل
العراقيين للجلبي طعنة الظهر الغادرة، وهو الذي خدم أهم أهدافهم
الاستراتيجية في العراق والمنطقة، عندما تنكر له الحاكم المدني بول
بريمر فسلم رئاسة أول حكومة عراقية خلال حقبة الاحتلال إلى البعثي
السابق السيد اياد علاوي، وبعده إلى احزاب دينية طائفية النزعة متشددة
تجاه حرية التعبير والحقوق المدنية وحقوق المرأة خصوصا. وبدا واضحا أن
الأمريكان قد استجابوا لتحفظات القوى الدينية والطائفية على شخصية
الجلبي ودوره المستقبلي في سلطة الحكم الجديد. لقد استضعفه حلفاءه
السابقون لمعرفتهم المسبقة أن ليس للجلبي قاعدة حزبية جماهيرية أو
طائفية أو قبلية واسعة، قد تقف معه وتطالب بدور أكبر له في السلطة
الجديدة التي ساهم هو بفعالية للتمهيد لها قبل وبعد سقوط النظام
الصدامي.
قد يكون من الخطأ التسليم بنهاية قريبة للجلبي، فهو ليس أعزلا
تماما، فله سلاحه الذي لا يملكه الآخرون، وهو كفاءته النادرة التي
استخدمها بحذق خارق خلال حياته السياسية القصيرة. فالجلبي وبصرف النظر
عن طبيعة علاقاته الحالية مع الأمريكان، ومقارنة بمن استلم السلطة في
عراق ما بعد صدام يعتبر هو الأكثر خبرة واعتدالا مذهبيا وعرقيا
وسياسيا، والأبرز تأهيلا علميا، فهو الحائز بجدارة مميزة على الأستاذية
وشهادات علمية في علوم الرياضيات والتكنولوجيا، ومارس التدريس الجامعي
الذي حضي باحترام وتقدير الجامعات العلمية التي تخرج وعمل فيها في
الولايات المتحدة وبريطانيا، اضافة لخبرته الطويلة في شئون المال
والأعمال والسياسة. وربما بسبب هذه المميزات الفريدة حاربته القوى
الدينية والقبلية، بعد أن احتلت موقعه وعززت علاقاتها مع الولايات
المتحدة.
واذا ما خسر الجلبي المعركة مع أصدقائه حلفاء الأمس، وفرض عليه
مغادرة الحلبة بعد طعنة الظهر الأخيرة التي وجهها له الجنرال الأمريكي
باتريوس، باتهامه بالعمالة لايران في وقت ما زالت تلاحقه تهمة العمالة
للولايات المتحدة، فلن ينسى العراقيون له انجازه الذي لم يساوم عليه
أبدا، وهو دوره في اجتثاث الفكر الفاشي البعثي من الحياة العراقية. |