النموذج الأمثل لبناء النفس

قبسات من أفكار المرجع الشيرازي

 

شبكة النبأ: ثمة أشهر مزكّاة جعلها الله تعالى أفضل من غيرها للناس لكي يعودوا الى الجادة الصواب بعد أن تأخذهم أدران الدنيا ومعاصي المادة لاهثين وراء المال والجاه والنفوذ وما شابه متناسين أن هذه الرحلة القصيرة المسمّاة بالحياة ما هي إلا قنطرة قصيرة المدى والأمد ستقود الإنسان الى الدار الأخرى، دار البقاء والكمال الأبدي حيث يلاقي الناس ربهم بما حملوا معهم من أعمال الدنيا، صالحها وطالحها، وفي ضوء ذلك يتحدد مصيرهم بين الرفعة والوضاعة، أي بين الجنة والجحيم.

هنا لابد أن يتنبّه الإنسان لنفسه ويضع حدا لضعفها وبحثها عن الرغائب التي لا تليق بقيمة الإنسان وكرامته، فالنفس اذا لم تُبنَ بالطريقة التي يريدها الله تعالى وأنبيائه والأئمة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين، فإنها لابد أن تذهب بحاملها بالاتجاه الخاطئ وتقوده الى طريق الهلاك.

وتأتي هذه الأشهر المباركة ومن بينها (شعبان ورمضان) لكي تمنح الإنسان فرصة العودة الى ربه، ولكن ثمة أمر ينبغي توافره دائما وهو يتمثل بالنموذج الذي يساعد الإنسان ويدفعه الى الهداية بقوة، فالنموذج يمثل للإنسان الدافع العملي المجسَّد على الأرض لكي يقتفي أثره ويتعلم منه ما يحتاجه من سبل الصلاح والتقوى والإيمان الحقيقي لكي يعود الى رشده ويركل مزايا الدنيا القصيرة المتمثلة بالركض وراء المال (حتى لو كان سحتا حراما) والركض وراء الجاه حتى لو كان يؤدي به الى الهلاك، وكلما كان النموذج الصالح واضحا امام الناس كلما كان قربهم الى التقوى واضحا للعيان، وفي هذا المجال يقول سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) بكتابه الثمين الموسوم بـ (نحو بناء النفس والمجتمع):

(لنتعلّم من أهل البيت سلام الله عليهم، ولنسعَ لتقديم النماذج العملية للناس وهو ما أراده وطلبه منا الأئمة الأطهار سلام الله عليهم أجمعين، ولا يقتصر دورنا في هذا المجال على أنفسنا بل علينا أن نحول دون ابتعاد الناس عن الإسلام وعلماء الدين. فإذا ما صدر من أحد أهل العلم تصرف مشين نسعى لتداركه ولا نقل إنه تصرف شخصي ولا علاقة لنا به، بل علينا أن نحاول تداركه لئلا يبتعد الناس بسببه عن الدين والمذهب).

هنا يخاطب سماحة المرجع الشيرازي أهل العلم باعتبارهم النماذج الفعلية للناس لكي يسارعوا بهم الى الصواب، ويطلب منهم أن يحذروا سوء القول او السلوك لأنه غالبا ما يدفع بالناس الى المهالك كون النموذج هو الصورة التي يحاول الناس ان يتمثلوا بها، فإذا انتهك احدهم حدود الله تعالى بأي حال من الأحوال فإن العامة ستنتهج هذا النهج تمثلا بهم والعكس يصح، وهنا تكمن الخطورة القصوى التي ترشح عن تفكير وسلوك النموذج باعتباره مثلا للآخرين.

ويؤكد سماحة المرجع الشيرازي على أهمية النموذج وتخليه عن رغائب النفس بل ينبغي التخلي حتى عن بعض حقوقه لو كان في ذلك مصلحة عامة تفوق مصلحة الفرد وهذا ما يتمثل بمواقف أهل البيت عليهم السلام كما حدث مع الإمام علي بن ابي طالب عليه السلام، فقد جاء في كتاب المرجع الشيرازي نفسه في هذا الصدد:

(ولنا في أئمتنا سلام الله عليهم أسوة. فهذا أمير المؤمنين سلام الله عليه قد ترك حقّه مخافة أن يرتدّ الناس، فإن كنا مأمومين بالإمام سلام الله عليه - ولكل مأموم إمام يقتدي به - فلنقتد بإمامنا سلام الله عليه في هذا المجال أيضاً).

وهذا يعني بأن الإمام علي عليه السلام تنازل عن حقه كونه النموذج الأمثل للعامة، وقد نجح في ذلك وبقي المثال الأعظم للإيثار والقيادة الحكيمة في المساواة والعدل وتفضيل الرعية على الراعي، وكذا الحال مع الإمام الحسين عليه السلام حيث يرد في كتاب سماحة المرجع الشيرازي نفسه ما يلي:

(ولنا في موقف الإمام الحسين سلام الله عليه مع الحر وأصحابه في كربلاء قدوة أيضاً، فإن الإمام سلام الله عليه سقاهم الماء مع أنه كان يعلم أنهم – إلا الحرّ – قاتلوه بعد ساعة! وكانت مهمّتهم تسليم الإمام سلام الله عليه لابن زياد).

ويضيف سماحة المرجع الشيرازي قائلا:

(ولكن تصرف الإمام سلام الله عليه هو مما أبقى التشيع حياً. فلم يكن مهماً عند الإمام أن يسقي القوم وإن اقتضى أن يترجل ويرشف خيولهم بنفسه، كما تقول الروايات، إنما كان المهم عند الإمام هو الإسلام ودعوة الناس إليه).

ويؤكد سماحة المرجع الشيرازي في كتابه أيضا:

(وهكذا كان تصرف النبي صلّى الله عليه وآله مع مشركي بدر، وكذلك سقى الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه أصحاب معاوية في صفين).

وإذا كان سلوك النبي (ص) والأئمة الاطهار (ع) مع أعدائهم على هذا النحو، فكيف يكون مع أتباعهم ورعيتهم ؟.

هكذا يتصرف النموذج وهذه هي مسؤوليته العظيمة أمام الجميع، فهل تذهب مثل هذه المواقف سدى، كلا إن الناس تراقب النموذج وتعمل كما يعمل وتقول كما يقول، لذا لابد أن يترفع النموذج عن الصغائر لأنه محط أنظار الجميع.

وأخيرا يورد لنا سماحة المرجع الشيرازي بكتابه هذا رواية صحيحة – عن الإمام الصادق عن الإمام الباقر سلام الله عليهما – (أن الإمام السجاد سلام الله عليه كان مديناً لشخص بأربعمائة دينار ثم وفاه بعد ذلك. إلا أن الشخص أنكر على الإمام ذلك وطالب بالمبلغ مجدداً أو أن يحلف الإمام بالله تعالى أنه وفاه، ولكن الإمام أمر ابنه الباقر سلام الله عليهما أن يعطيه المال ولم يكن مستعدّاً لأن يحلف. وكان الدينار الواحد يمكن أن يشترى به خروف يوم ذاك، ما يدلّ أن المبلغ لم يكن قليلاً، ومع ذلك لم يحلف الإمام وهو صادق!).

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 31/تموز/2010 - 19/شعبان/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م