أشجار الدر

توفيق أبو شومر

ما أزال أذكر قصة المرأة الحديدية صاحبة الحُنكة والرأي السديد [شجرة الدر] ويعود السبب إلى أنني قرأتُ قصتها عندما كنتُ طالبا في المرحلة الإعدادية، وبعد أن أصبحتُ في الثانوية شاهدتُ فيلما باسم شجرة الدر(أم خليل) ولم تكن القصة والفيلم سوى نصف الحقيقة التي عرفتها عن تلك المرأة، أما النصف الثاني فسوف تقرأونه في الأسطر التالية.

هي امرأة ليست ككل النساء، بل إنها كالمرأة الأسطورة سمير أميس والزباء وكليوباترا وصولا إلى مارغريت تاتشر في عصرنا الراهن، فهي تثبت صحة المثل الياباني الذي يقول:

" للرجال المكانة الاجتماعية، أما السيادة الفعلية فللنساء"!

أخفتْ شجرة الدر موت زوجها الصالح نجم الدين أيوب، عندما كانت البلاد تتعرض لهجوم جيش الصليبيين في القرن الثالث عشر أكثر من ثمانين يوما، وكانت تحفظ جثته في قلعة الروضة بالقاهرة، وتدخل الأطباء على الجثة، حتى يظن الناس أنه حيٌّ يُرزق وأنه مريض فقط، وكانت تُدخل له وجبات الطعام الثلاثة كل يوم في مواعيدها، حتى لا تُضعف الروحَ المعنوية للناس وقت الشدة، فاستحقّتْ البطولة لسياستها الصائبة، وأصبحت هي أول امرأة في عصرها تتولى السلطة!

وكنتُ أظنُّ بعد سنوات طويلة من عمري، بأنها ماتت مريضة، كما يموت كثيرون، مثلها مثل أبو ذر الغفاري وطارق بن زياد وموسى بن نصير ومحمد بن القاسم فاتح السند والهند، ولم أكن أعلم بأنها ماتت ضربا بالقباقيب على يد منافستها(أم علي) ضرتها، زوجة عز الدين أيبك!

 ولم أعرف بأن الأبطال السابقين ماتوا أيضا مشردين مهانين متسولين، إلا بعد سنوات طويلة عندما قرأت نهايتهم المفجعة في كتبٍ غير مدرسية !

إذن فنحن لا نعرف الحقائق من الكتب المدرسية إلا إذا نقبنا في سيرتنا التاريخية الشائكة.

لكنني أوردتُ قصة شجرة الدر توطئة لقصص مرض الرؤساء العرب، أو أشجار الدر العرب، الذين ما يزالون يسيرون على هدي شجرة الدر، وقد بلغ بهم الظن أنهم مخلدون سيحيون حتى موت آخر فرد في شعوبهم العربية!

لا أعرف السبب الذي يدفع كثيرا من الرؤساء العرب أن يخفوا حقيقة مرضهم، مع العلم بأن عصر الحروب والغزوات قد انتهى، وأصبحت القصور والوزارات وحتى العلاقات الأسرية مكشوفة في عصر العولمة، وما أزال أذكر قصة مقال لي لم يُنشر في عصر الشهيد ياسر عرفات، فقد خاف محرر الصحيفة من نشره، وقال لي بالحرف:

طلب منا أمن الرئاسة أن نحذف كل مقال يتحدث عن الحالة الصحية للرئيس!

ولما قلت : اقرؤوا مقالي أولا فليس فيه تعريضا بصحة الرئيس، وإنما أناقش التقارير الإسرائيلية عن صحة الرئيس، والتي تنذر بالشر! المهم أن المقال لم يُنشر!

سأحاول أن أضع تفسيراتٍ محتملة للسر وراء إخفاء أمراض الزعماء العرب ومن يشبههم، ونظرا لخوفي من بطانتهم، فإنني أقول كما قال مظلومٌ مَثُلَ أمام الطاغية الحجاج بن يوسف، فقال للحجاج :

عندما قلتُ إن الوالي ظلومٌ غشوم (كنتُ أحلم)!

 أما التفسير الأول، فهو أن الرئيس نفسه لا يعرف مرضه، فكل من حوله يتنافسون لإبهاجه، ويخفون سرّه الدفين بينما ينشغلون هم في تفصيل كفنه، وفي الغالب يكون ذلك بالتواطؤ مع خليفته من عائلته وأسرته! وهذا التفسير قد يصدق في بعض الحالات، وقد لا يصدق أبدا !

أما التفسير الثاني، فهو أن الحكام والمسؤولين العرب ليسوا مثل حكام الدول الأخرى، التي تحفظ سجل رئيسها الصحي في ملفات مكشوفة أمام الشعب، فنحن شعب بدائي، نعيش في آخر قاطرات العالم، نحيا قشور الحضارة، والروح جاهلية، وحيث أننا كذلك فرؤساؤنا يشبهون ملكة النحل، إذا ماتتْ الملكةُ، تفرقت الخلية شذر مذر، لذا فلا يجب أن يعرف الشعبُ(الرعاع) أن ملكة نحلهم توشك على الموت، فإذا عرفوا فإنهم سيشرعون في (المشاغبة) وسيظهر طامحون كثيرون، وربما تظهر خلايا إرهابية تبدأ في جمع السلاح استعداد للعودة إلى عصر خمسينيات وستينيات القرن الماضي، عندما كان يفصل بين الانقلاب الأول، والانقلاب الثاني، انقلابٌ ثالثٌ جديد !

وهذا التفسير يتولاه في الغالب بعض الاستشاريين في بلاط الحكام والرؤساء العرب، ممن يتقاضون أجرا كبيرا ثمنا لنصائحهم الغالية!

وهناك تفسيرٌ ثالثٌ يُبرر سرَّ إخفاء مرض الزعماء العرب وإنكار المرض إنكارا تاما، حتى لو أجبر مستشارو الزعيم وخلصاؤه وبطانته الزعيمَ أن يخطب في العلن لتكذيب الشائعات(المغرضة) عن مرضه، حتى لو كانت حالته الصحية لا تسمح له بذلك، وهو أن نتيح الفرصة للإعلام الأجنبي لكي يُثبت( صدقه) وأنه هو الوحيد الذي يحفظ ملفات مرض الزعماء العرب كلهم، وهو الذي يقرر مصيرهم في حياتهم، وبعد موتهم، والدليل على ذلك أنهم لا يقضون نحبهم إلا في مستشفيات أجنبية، أو على يد أطباء أجانب، حتى أن بولة أحد الزعماء العرب نُقلت قبل وفاته بوقت قصير بطائرة خاصة إلى تل أبيب ليعرفوا من خلال تحليلها عمر الزعيم الافتراضي، ويتخذوا الإجراءات المناسبة خلال الفترة المتاحة لهم!

وهناك تفسيرٌ آخر للسر وراء إخفاء مرض الزعماء العرب، وهو أن المحيطين بالزعماء، من فئة الناصحين والعوالق والسماسرة المدسوسين أوهموهم خلال حكمهم بواسطة إكسير التملُّق والدجل والكذب، بأنهم من سلالة الآلهة، وأنهم لا يموتون، كما يموت البشر، بل هم مخلدون، وأنهم من سلالة جلجامش وأنكيدو في ملحمة جلجامش وأوروك البابلية القديمة، حيث حصل جلجامش على نبتة الخلود الأبدي !

وأن هناك طائفة مدسوسة وسط الشعب من المغرضين، هدفها التشكيك في صحة الرئيس، لذلك قامت أجهزة المخابرات وأمن الزعيم بمطاردة خلايا التشكيك في صحة الرئيس، ووجدتْ أنهم عملاء لجهات داخلية وخارجية!

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 27/تموز/2010 - 15/شعبان/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م