تناقلت وكالات انباء عالمية عن مسئول عسكري امريكي يعمل في العراق
بأن مئات الشاحنات الناقلة للنفط قد رصدت على الجانب الحدودي العراقي،
وهي تأخذ طريقها لتهريب النفط ومشتقاته إلى ايران. لقد أبدى المسئول
الرفيع المستوى قلقه البالغ من التهريب لكونه يعد التفافا على العقوبات
الجديدة التي فرضتها الولايات المتحدة وبعض دول أوربا على ايران، بهدف
اجبارها على وقف برنامجها النووي، ولولا ذلك لما تفوه بكلمة واحدة حتى
لو هرب نفط العراق كله إلى إيران أو لغيرها من الدول.
وما يثير السخرية والسخط في نفس الوقت أن المسئول الأمريكي لم يعلن
عن كشفه المثير هذا قبل هذه الحادثة، وكأن ما كان يحدث قبل ذلك من
تهريب خلال المنافذ العراقية مع دول الجوار جميعها ليس أكثر من تجارة
مشروعة وفق مبادئ نظام التجارة الحرة واقتصاد السوق الرأسمالي. والأغرب
من ذلك كله أن الحكومة المركزية ما كانت ستهتم للخبر الصاعق ما دام لا
يشكل جديدا أو تهديدا لمصالحها، وانما لأن الولايات المتحدة من أثار
موضوعه.
إن التهم الأخيرة بتهريب النفط أو مشتقاته قد وجهت صوب سلطات اقليم
كردستان بالذات، لكن ما يوجه له الانتباه مجرد قطرة في بحر مما يجري في
كردستان و العراق كله. تهريب المشتقات النفطية تجارة واسعة منذ احتلال
العراق، ولم تتوقف منذ ذلك التاريخ لحد الآن. لقد ضبطت مئات الشاحنات
وهي في طريقها الى الحدود السورية والتركية والايرانية في الشمال
العراقي، وعلى الحدود الأردنية في الغرب، وعلى الحدود الجنوبية مع
الكويت وايران، واستمر تدفقها رغم افتضاح أمرها، وقد أشيع في اكثر من
مناسبة أن أطرافا متنفذة في الأحزاب الدينية المتنفذة في الحكومة
العراقية متورطون فيها.
أما النفط الخام فكان يهرب بكل حرية من الجنوب والشمال بعلم وتواطئ
قوات التحالف، وما يزال نشطا عبرالناقلات على الطرق البرية، وبواسطة
السفن الصغيرة عبر مياه الخليج إلى الدول المطلة وله موانئه العراقية
المعلومة هناك.
الناحية الأخطر التي كشف عنها تصريح الناطق باسم القوات العسكرية
الأمريكية دون أن يدري، هي أن ظاهرة التهريب من اقليم كردستان قد تحولت
من نشاط مافوي خارجا عن الشرعية إلى نشاط مشروع يدار من قبل سلطة
الأقليم ذاتها، وهو ما أكدته تصريحات مسئولين في سلطة الاقليم ذاته.
وباعتراف ناطق باسم وزير النفط في الأقليم فان ما يسمى تهريبا انما هو
عملية تصدير أصولية للمشتقات النفطية تتم بشكل روتيني وأصولي. وأكد
الناطق أيضا أن النفط المصدر هو فائض عن حاجة الاقليم، وتقوم به شركات
متخصصة مسجلة لدى سلطات الاقليم، مقابل مستندات رسمية بكميات المشتقات
المصدرة، وبالضرائب الجمركية المستلمة عنها. وقد رد ناطق باسم سلطات
الاقليم على ما أبداه وزير النفط الاتحادي من ملاحظات، بأنها محاولة من
الوزير الشهرستاني لاثارة المشاكل التي اعتاد عليها لصرف الانتباه عن
التهريب الذي يجري عبر الحدود الجنوبية بعلمه. أما من يملك تلك الشركات
المتخصصة بتصدير المشتقات ومن يدير نشاطها ولمن تعود أرباحها، ومن أين
جيء بأسطولها الضخم، المكون من مئات الناقلات العملاقة، فلم يشر اليه
الناطق باسم وزارة نفط الاقليم.
والأمر الذي يظل لغزا، هو، حجم الطاقة الانتاجية للمصافي النفطية في
اقليم كردستان، بحيث أن لها كل تلك القدرة على اشباع حاجة سكان كردستان
كلها مع فائض كبير خصص للتصدير، وبأن هذا الفائض من الوفرة بحيث تتكفل
بتصديره مئات الناقلات العملاقة التي تزيد حمولة الواحدة منها عن
الخمسين ألف لتر من المشتقات، علما بأنها تعمل على مدار اليوم وكل يوم
ودون توقف. وليس غريبا أن يقوم التجار الايرانيون المستوردون لتلك
المشتقات من كردستان باعادة تصديرها إلى العراق عن طريق وزارة النفط
الاتحادية عبر منافذ حدودية أخرى في الجنوب، لأن العراق ما يزال يستورد
المشتقات من إيران والكويت، ولا يستبعد أن تكون الشركات الخاصة التي
تحدث عنها الناطق الكردستاني هي شركات ايرانية /كردستانية مشتركة تقوم
بهذه التجارة على حساب الشعب الكردستاني والعراقي بشكل عام.
بطبيعة الحال، ان الأخوة في الاقليم يستفيدون من أي فرصة سانحة لدعم
سلطاتهم وعلاقاتهم مع دول الجوار، لايجاد الاسواق الدائمة للنفط الخام
والمشتقات النفطية، سواء كانت منتجة في الاقليم أو مهربة اليه من مناطق
الوسط والجنوب العراقي. ويأتي ذلك أيضا بسبب عدم التوصل مع بغداد إلى
حلول للعقود النفطية التي عقدها الاقليم مع الشركات النفطية الأجنبية،
والتي ما تزال تعتبر غير شرعية من جانب وزارة النفط الاتحادية. وتهريب
النفط من الاقليم إلى كل من ايران وتركيا من جانب آخر، يعتبر وسيلة
ذكية من جانب الاقليم، بهدف تحييد الدولتين العدوانيتين تجاه كردستان
العراق، وللجم تحرشاتهما الحدودية على السكان الآمنين من سكنة الحدود.
وربما كانت موجة القصف التي قامت بها ايران وتركيا على الشمال
العراقي في الأشهر الماضية وسيلة ابتزاز لاجبار سلطة اقليم كردستان على
اشراكهما في الثروة النفطية العراقية التي تحاول سلطة الاقليم
الاستئثار بها بحسب اعتقادهما.
إن القادة الكرد يعبرون عن آرائهم ويتاجرون ويتحالفون بالطريقة
التي يرونها نافعة ومناسبة لتنفيذ استراتيجيتهم السياسية والقومية
لترسيخ سلطتهم، والظروف المضطربة الحالية، السياسية والأمنية والمعاشية
التي تشغل العراق منذ الاحتلال تشكل الظرف الأنسب لتحقيق تلك الأهداف.
وقد نجحت هذه الاستراتيجة في ترسيخ علاقات صداقة وربما تحالفات عسكرية
طويلة الأمد مع الولايات المتحدة الدولة الأقوى في العالم. بينما لم
تبد القوى السياسية غير الكردية الممثلة في الحكومة المركزية مثل هذا
النشاط وهذا الاستعداد، لتمتين الروابط الاستراتيجية مع الولايات
المتحدة أو اطلاق يدها في العراق، برغم توقيعهم معها اعلانا للمبادئ
حول العلاقات المستقبلية، مما أظهرهم وفق وجهة النظر الكردية كناكرين
جميل، لتناسيهم أو تجاهلهم دور الولايات المتحدة الذي أدته باطاحة
النظام السابق، والمجيء بهم الى قمة السلطة السياسية التي تحكم العراق
حاليا.
وهذا ما تردد على لسان مسئولين في القيادة الكردية في مناسبات
عديدة، تعليقا على الممانعة التي أبدتها الحكومة الحالية، واعضاء في
البرلمان السابق، قبل التوقيع على الاتفاقية الأمنية بصياغتها الأولى
التي عرضتها الحكومة الأمريكية قبل أن تجرى عليها تعديلات مهمة فيما
بعد، استجابة للمعارضة والملاحظات التي أثيرت في حينها.
وبعكس ما نلاحظه من موقف موحد من جانب اطراف الحركة السياسية
الكردية تجاه مصالح الاقليم والذي يلقى احتراما متزايدا واعترافا دوليا
متميزا، لا نرى شيئا من هذا من جانب قادة الحكومة الاتحادية، المشغولين
بالصراع على السلطة وبالمساومة على المناصب والمصالح المالية.ونرى
اضافة إلى ذلك، تشرذما وتخبطا سياسيا مثيرا للقرف والسأم واحيانا
السخرية، مما يظهر حقيقة مرة عن واقع السياسيين في الحكومة الاتحادية.
ففي ظل المخاطر التي تحيط بحياة الجماهير الشعبية الناتجة عن سوء
الحالة الأمنية، والتردي الفظيع في الأداء الحكومي في مجال الخدمات
الأساسية، وتفاقم مصاعب حياة الكادحين المعاشية بسبب انعدام فرص العمل
وغلاء المعيشة، لم تبد تلك القوى اهتماما وحرصا أو تبذل جهودا لتخفيف
تلك المعاناة.
ولم تظهر مع كل الأسى والأسف من بين السياسيين المتنافسين على
السلطة شخصية واحدة تعلق عليها الآمال وينظر اليها بفخر كزعامة وطنية
جديرة بالثقة. ولم تطرح أي من الشخصيات والقوى السياسية المتصارعة على
السلطة الحد الأدنى من استراتيجية اقتصادية وسياسية و اجتماعية واضحة،
يمكن أن تكون خريطة الطريق للحقبة القادمة، يتأكد فيها العزم على
الاسراع في عملية التنمية الاقتصادية لأجل رخاء الشعب وازدهاره.
ولم تظهر مثل هذه الشخصية حتى داخل جبهة المعارضة التي خاضت نشاطا
محدودا في البرلمان السابق وفي وسائل الاعلام، أو حاليا ضمن قائمة
السيد أياد علاوي. واقعا محزنا ومأساويا، ستظل تداعياته وتبعاته تؤثر
سلبا على تطور العراق سياسيا واقتصاديا في الداخل، وتحط خارجيا من
مكانته الدولية، ولا تساعد على اعادة الاعتبار لموقعه بين الأمم
المتحضرة والمتقدمة في المستقبل المنظور. |