من يقاضي الولايات المتحدة عن فظائع حربها في العراق؟

علي الأسدي

رحب كثير من المواطنين العراقيين بقرار الولايات المتحدة بالاطاحة بالنظام الديكتاتوري السابق، لدرجة فسره البعض بأنه من وحي الله، ولولاه لما حصل ما حصل. كان في المقدمة من أولئك بعض المثقفين ممن علقوا أمالا على الاجتياح الأمريكي معتبرينه الوسيلة الوحيدة لانقاذ العراق من الديكتاتورية، وبأن الوضع الجديد الذي سيظهر بعد اطاحة النظام سيساعد على ازدهار العراق سياسيا واقتصاديا وثقافيا، وهو ما تحتاجه البلاد لتشفى من عاهات الحقبة السابقة.

وكانت هذه القوى مقتنعة بفكرة أن العراق سيتحول الى دولة ديمقراطية مزدهرة على غرار اليابان وألمانيا الغربية اللتان احتلتا من قبل الجيوش الأمريكية إبان الحرب العالمية الثانية، وإن الأمريكيين من جلب للبلدين التقدم الاقتصادي والازدهار الذين تتمتعان به حاليا، ولم يحولهما الاحتلال الى مستعمرات خاضعة لاستغلاله وهيمنته.

لكن لا أولئك المثقفين ولا أكثرية الشعب العراقي، قد لمس شيئا من ذلك الازدهار الذي حصل للألمان واليابانيين، لا في الحلم ولا في اليقظة، خلال الألفين والستمائة يوما الماضية منذ الاجتياح. وما حصل في الواقع أن حياة العراقيين ابان الاحتلال الأمريكي قد ازدادت سوء عن ما كانت عليه في عهد الحصار والديكتاتورية. وعن ذلك تحدثت الصحافة العالمية وخبراء ومنظمات دولية متخصصة في الاقتصاد والتنمية الاجتماعية والبيئة وأخطار اليورانيوم المنضب والأسلحة المحرمة دوليا وحقوق الانسان والهجرة والأزمات الدولية ومنظمات الدفاع عن حقوق المرأة والطفل والصحة العالمية و تلك المهتمة بانتشار الجريمة المنظمة وتبييض الأموال والفساد السياسي والمالي. ونشير هنا إلى بعض الحقائق عن ما جرى، فقد كتب الصحفي الفرنسي جوي غوردون في صحيفة اللوموند الفرنسية، قائلا :

 " كانت خيبة الأمل كبيرة جدا لأن العراقيين اعتقدوا بأن الولايات المتحدة، بثروتها وجبروتها، يمكن أن تصلح أي شيء اذا ما أرادت ذلك. وسيقت في الأثناء مقارنة مع نظام صدام : فبعد أن أدى القصف الضخم خلال حرب الخليج عام 1991 الى تدمير البنية التحتية في العراق ( الجسور والطرقات والمولدات الكهربائية والاتصالات السلكية واللاسلكية والمصانع ومصافي تكرير النفط ) قام نظام صدام بحملة طارئة لاعادة الاعمار. وباستخدام قطع غريبة من مصنع هنا و قطعة غربة من مصنع آخر، تمت استعادة التيار الكهربائي في غضون أسابيع. في ذلك الحين، تم ارسال كل مهندس في العراق، بمن فيهم المتخصصون في الفيزياء النووية لاعادة بناء الجسور، وتم خلال ثلاثة أشهر اعادة انشاء شبكة الهاتف. وفي المقابل، وعندما حدث انقطاع في التيار الكهربائي في نيويورك في عام 2003،سخر الناس في بغداد وقالوا مازحين " دعونا نأمل بأنهم لا ينتظرون الأمريكيين لاصلاحها."

ويورد الصحفي في مكان آخر من مقاله أدلة على زيف ما كانت تروجه وسائل الاعلام الموالية للاحتلال عن انجاز مشاريع خدمية ومدارس ومستشفيات ومحطات مياه للشرب وغيرها قائلا : "خلال الأشهر الأربعة عشر من الاحتلال، كان صندوق التنمية العراقي يحتوي على 21 مليار دولار، ومع نهاية تلك الأشهر كانت الولايات المتحدة قد انفقت 18 مليار دولار منه، والزمت الحكومة العراقية التالية بدفع مليارات أخرى والكثير منها لشركات أمريكية. وقد تم تدقيق حسابات صندوق التنمية العراقي من قبل محاسبين يعملون لحساب " مكتب كي بي أم جي " ثم لاحقا من قبل مكتب " ارنست ويونغ". وقد لاحظ التقرير المحاسبي الذي رفعوه، أنه منذ كانون أول / ديسمبر 2004 وجود – مئات الممارسات المنحرفة – في عملية التعاقد التي أجرتها سلطة الائتلاف المؤقته، بما في ذلك عقود مفقودة، ودفعات لعقود لم تكن خضعت لاشراف أو توثيق. لقد أدعت وزارة الدفاع الأمريكية متفاخرة أنه تم انفاق 10.5 مليار دولار على 3500 مشروعا تمت المباشرة بالعمل فيها، وأن 80 % منها قد استكمل، لكن مدققي الحسابات قد أكدوا أن الوزارة لم تستطع تزويد مكتبهم بقائمة بالمشاريع المستكملة، وهي لذلك أما مبالغ فيها أو انها زائفة." وختم الصحفي جوي غوردون مقاله بالقول: " إن الفشل المذل في توفير الكهرباء والماء وفي اعادة تفعيل الاقتصاد والمماطلة من جانب الشركات الأمريكية قد اسهم في تسعير التمرد الذي يطالب بمغادرة قوات الاحتلال الأجنبية."

ويذكرالسيد ستيوارت بوين، المفتش العام الأمريكي الذي عمل في بغداد على مدار ستة أعوام، إن الرئيس بوش قد خطط بنقل الحكم سريعا بعد الاجتياح الى سلطة عراقية انتقالية، اعتمادا على فرضية أن المؤسسات الحاكمة في البلاد ستستطيع تجاوز مرحلة الاجتياح وستبقى سليمة بما فيه الكفاية لادارة الحكومة الجديدة وتوفير الخدمات الأساسية للشعب العراقي. لكن الرئيس قرر بصورة مفاجئة ايقاف العمل بتلك الخطة، وبتعيين بول بريمر كمبعوث رئاسي، وبمنع بعض كبار أعضاء حزب البعث من تولي وظائف عامة، وهما أمران تناقضا مباشرة مع السياسة السابقة. ويعلل السيد ستيوارت بوين قرار الرئيس بوش المفاجئ الى تطورين، تمثّل أولهما في أعمال النهب والتخريب التي حالت دون تفعيل النظام الحكومي القائم، وإعادة توفير الخدمات العامة على نحو سريع. حيث أدّى الضرر الذي طال نحو ألف برج كهربائيّ إلى جانب نظم التحكّم إلى اقتصار قدرة البلاد على توليد الكهرباء على 711 ميغاواطاً يومياً في شهر نيسان عام 2003 مقابل 4075 ميغاواطاً قبل الاجتياح. أما التطوّر الثاني، فتمثّل في إخفاق الولايات المتحدة في العثور على أسلحة الدمار الشامل في العراق، وهو أمر أرغم الرئيس جورج بوش على تسويق سبب جديد للاجتياح الأميركي، ألا وهو إحلال الديمقراطيّة وبناء اقتصاد السوق في البلاد ".

 التأويل الذي خرج به السيد بوين لقرار الرئيس بوش سلط الأضواء على حقيقة ما يزال يرفضها أولئك الذين أمنوا بالرخاء الأمريكي المحمول على ظهور الدبابات وأجنحة الطائرات التي وزعته عبر القذائف المشبعة باليورانيوم المنضب والفوسفورالأبيض والقنابل العنقودية، وبديمقراطية لم تطرأ على بال السيد بوش إلا بعد فشله في العثور على أسلحة الدمار الشامل. وقد أثبتت لجانا دولية مستقلة فظاعة الآثار الصحية على سكان المناطق والأحياء التي طالتها تلك القذائف وخاصة مدينتي البصرة والفلوجة. حيث قدرت كميات اليورانيوم المنضب التي القتها قوات التحالف على المدن العراقية في عام 2003 وحدها حوالي 1700 طن، هذا عدا الآلاف من القنابل العنقودية التي ألقيت على مختلف المدن العراقية، و يوجد في بغداد وحدها حوالي 8000 موقع لتلك القنابل، ما يزال بعضها لم ينفجر كما ذكرت السيدة نرمين عثمان وزيرة البيئة.

 وفي دراسة علمية عن آثار القذائف التي استخدمتها قوات التحالف في الفلوجة قام بها أخيرا فريقا من الباحثين بقيادة البروفسور كريس باسبي الأمين العلمي للجنة الأوربية للاشعاع من مؤسسة أوديت غرين البريطانية عن أوضاع سكان الفلوجة وأثر الأسلحة التي استخدمت عليهم. وقد تم مقارنة نتائج الدراسة مع ما نتج عن القنبلة الذرية التي ألقتها القوات الأمريكية على مدينة هيروشيما اليابانية نهاية الحرب العالمية الثانية. اكتشفت الدراسة أن آثار الملوثات التي تركتها تلك القذائف والتي ما يزال يتعرض اليها سكان الفلوجة كان صاعقا، فقد تأثرت بها تركيبتهم الجينية، حيث سجل انخفاضا في عدد الذكور المولودين مقارنة بعدد الأناث، كما ارتفعت نسب الاصابة بمرض سرطان الدم بين السكان الى 38.8 ضعفا، ومرض سرطان الغدد اللمفاوية الى عشرة أضعاف، وسرطان الثدي الى أربعة أمثال ما كانت عليه قبل شن الحرب على المدينة في 2004. وقد ارتفعت نسبة وفيات الأطفال الرضع الى 80 /1000 فيما في تبلغ في الكويت 9 / 1000 وفي مصر 19 /1000. هذا اضافة الى تزايد أعداد المواليد المشوهين بين سكان البصرة والفلوجة بشكل خاص، وهي أرقاما تتقارب كثيرا مع ما حصل للناس في مدينة هيروشيما بعد تعرضها للسلاح الذري.

أما الأضرار التي تعرضت لها حوالي الف برج كهربائي كما ذكر السيد بوين فما كان لها أن تحصل لو لم تجيزها أو تتغافل عنها القوات الأمريكية. لقد قيل حينها أن الايرانيين قد قاموا بذلك،و كان علينا أن نصدق ونلعن الايرانين على فعلتهم الغادرة تلك، ولا نتهم دولا مجاورة أخرى أو القوات الاسرائيلية التي كانت فعالة في مرافقتها للقوات الأمريكية في تحركها في أنحاء العراق. لكن هل كان علينا أن نصدق بأن الايرانيين كانوا محظوظين جدا بحيث لم يكتشفهم أحد وهم يقطعون مئات الآلاف من الأمتار من الأسلاك ومن ثم تجميعها، وتحميل مئات الأطنان منها على مئات الناقلات الضخمة والتوجه بها نحو المنافذ الحدودية وعبرها الى بلادهم بكل يسر وسهولة. لا شك انهم قطعوا مئات الكيلومترات حتى وصلوا بها الى الحدود دون أن يمروا بنقطة تفتيش واحدة. ونفس الموقف اتخذته قوات التحالف من أعمال النهب والحرائق التي جرت وأتت على ممتلكات الدولة ونفائس آثارها وتراثها التاريخي. فقد نهبت المتاحف العراقية، ونبشت المواقع الآثارية وجرى تهريب الكثير منها الى أوربا وغيرها. وكل ذلك كان يجري أمام اعين قوات التحالف وبعلمهم وبتشجيعهم في كل المدن العراقية التي احتلتها، وبخاصة في البصرة والناصرية وبغداد وبابل والموصل وسامراء، وقد شاهد العالم ذلك على الهواء مباشرة في حينها.

وينقل الكاتب والصحفي روبرت فيسك من صحيفة الاندبندنت البريطانية عن عالمة الآثار اللبنانية السيدة جوان فرشخ التي ساعدت في التحقيقات الأولية الخاصة بالكنوز المسروقة من متحف بغداد في أعقاب حرب العراق 2003 قولها " إن العراق ربما ينتهي المطاف به قريبا وقد أصبح بلا تاريخ، هناك حوالي 10000 موقع أثري في العراق، وفي منطقة الناصرية لوحدها هناك 840 موقعا سومريا وقد تعرضت جميعها لعمليات نهب نظامية. وعلى نحو منفصل تماما عن ذلك تعمل العمليات العسكرية على تدمير هذه المواقع الى الأبد. وقد كانت هناك قاعدة عسكرية امريكية في مدينة أور لمدة خمس سنوات، بحيث أصبحت الجدران تتصدع بفعل وزن العربات العسكرية وصخبها. ان الأمر يشبه وضع موقع اثري تحت زلزال مستمر لا ينتهي."

كما نقل السيد فيسك عن ضباط أمريكان يعملون في قاعدة عسكرية في بابل الأثرية قولهم : ان بناء قاعدة أمريكية ضخمة في بابل كان هدفه حماية الموقع، لكن عالمة الآثار العراقية زينب البحراني استاذ تاريخ الفن والآثار في جامعة كولومبيا رفضت ذلك الزعم قائلة : ان الضرر الذي لحق ببابل غير قابل للاصلاح، فقد تم جرف منطقة واسعة من المواقع الأثرية بالجرافات، وانشأت عليها اكبر قاعدة لقوات التحالف في المنطقة. إن الاحتلال قد أسفر عن تدمير هائل للتاريخ الى حد تجاوز بكثير مجرد المتاحف والمكتبات التي تعرضت للنهب والتدمير عند سقوط بغداد. فهناك سبعة مواقع اثرية تاريخية قامت قوات التحالف وقوات الولايات المتحدة باستخدامها على هذا النحو منذ نيسان 2004، وكان أحدها هو القلب التاريخي لمدينة سامراء". ويستطرد السيد فيسك في مقاله :

" يعتبر استخدام المواقع الأثرية التاريخية كقواعد عسكرية انتهاكا لميثاق لاهاي، وبروتوكول عام 1954 ( الفصل الأول – المادة 5)، والتي تتعلق بفترات الاحتلال، وعلى الرغم من ان الولايات المتحدة لم تصادق على الميثاق، فان ايطاليا وبولندة وأستراليا وهولندا والتي تشارك قواتها في احتلال العراق، هي من بين الأطراف الموقعة عليه." وينقل السيد فيسك عن عالمة الآثار اللبنانية السيدة فرشخ قولها" " كلما زاد الأمد الذي يجد العراق فيه نفسه في حالة حرب، كلما زاد خطر تعرض مهد الحضارة للتهديد. بل أن ذلك الإرث ربما لن يدوم حتى يتعلم أحفادنا منه". يأتي قولها هذا تعليقا على ما جرى ويجري في المواقع الأثرية العراقية التي يعود تاريخها الى 7000 عام.

إن المسئولية عن كل هذه الفظائع تقع على الولايات المتحدة الأمريكية، لأنها وفق القانون الدولي مسئولة مباشرة عن حماية أمن وحدود وممتلكات العراقيين، كونها دولة احتلال والعراق مدار مباشرة من قبل سلطاتها العسكرية والمدنية، وقد يكون من الضروري العمل من الان على تشكيل لجان عراقية ودولية لحساب الخسائر المادية والبشرية التي تكبدها العراق تمهيدا لمطالبة دول التحالف التي تسببت فيها بدفع تعويضات عادلة عنها.

لقد تناقلت الصحافة أنباء عن التعويضات التي تدفعها الحكومة الأمريكية لمواطنيها ضحايا حربها في العراق وافغانستان، حيث تراوحت حول 800 ألف دولار عن الضحية الواحدة، وبناء عليه يمكن حساب التعويضات التي يطلب من دول التحالف دفعها لضحايا الحرب العراقيين على الوجه التالي: يقدر عدد العراقيين اللذين قتلوا في السنوات السبع من الحرب بحدود المليون ضحية، عندها ستبلغ قيمة التعويضات الذين فقدوا حياتهم بسبب العمليات العسكرية حوالي واحد تريليون دولار. ولو أضيف الى ذلك تعويضات الجرحى والمعاقين وتكاليف علاجهم وخدمتهم، وتكاليف اعادة بناء مما خرب ودمر من الأبنية الحكومية والخاصة، وشبكات الطرق والجسور ومحطات توليد الكهرباء، ومحطات الصرف الصحي ومنشآت المياه الصالحة للشرب، وتكاليف معالجة التلوث الذي أحدثته اسلحة قوات التحالف والمواد المشعة التي طمرتها سرا سلطات الاحتلال في مناطق عدة من اليابسة والمياه الاقليمية العراقية، فالتعويض قد يرتفع الى أكثر من عشرين تريليون دولار.

لكن سيل الضحايا والخسائر المادية والبيئية ما يزال مستمرا دون توقف، ويصعب على أي متفائل أن يقلل من شأن الآثار البعيدة المدى على صحة الناس وأراضيهم الزراعية ومواردهم المائية من آثارالتلوث التي تركتها الأسلحة المستخدمة في الحرب، وما ستحمله الأيام والشهور القادمة من خسائر جديدة، فالاحتلال ما يزال قائما، وقواعده العسكرية وشبكات نشاطاته السرية في أوج نشاطها وفعاليتها. أما الكارثة الأعظم التي قد تنتظر العراق في حالة عدم حصول العراق على التعويض العادل، فهي، بقاء الملايين من العراقيين لعشرات قادمة من السنين يراقبون بقلوب منكسرة رخائهم الذي سرقه منهم رسل الازدهار والديمقراطية المزيفون.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 20/تموز/2010 - 7/شعبان/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م