الجدران العازلة مؤسسة لتشويه الطفولة

تحقيق: ياسين النصير، ابتهال بليبل

 

شبكة النبأ: من يردم هذه الهوة التي صنعتها الجدران بين ذاكرة مشوهة وأخرى أكثر تشويها؟ الآباء الذين انتقلوا من محاصصة المناطق إلى محاصصة المناصب، أم الأجنبي الذي ضخ مليارات الدولارات كي لا يقال عن هذا كان عراقيا.

من يردم هذه الهوة التي صنعها الأجنبي؟ طرائق التربية والتعليم التي امتدت إليها التقسيمات الطائفية فهذا عمر من أولئك وهذا علي من هؤلاء وذاك زيد من أجنبي وهذا سعد كافر؟ من يملأ فجوة الثقافة المشوهة التي أسندتها أعمدة الكونكريت المصنوعة بأيد عراقية والمدفوعة الثمن العراقي كي تقسم البيت العراقي؟ ومن يا تُرى سيردم الهوة المحاصصة المقيتة التي سعت للتوازن بين سكنة المناطق لا سكان المناطق فاستردت ناسا من مناطق أخرى للتوازن وهجرت ناسا لمناطق أخرى للتوازن نفسه، هذا الطفل الذي عاش مرارة هذا الوضع المرتبك والمشين ما هي اللغة التي سيتكلم بها في الغد وما هي الطرق التي سيسلكها كي يلتق بمن كان يشاركه رحلة الدرس وملعب المنطقة و بقالة الحي..

مشاهد القتل والاختطاف

بالرغم من أن الأسوار الكونكريتية، حاولت انتزاع عنف الشعب العراقي، لكن الأمور بعد ذلك عادت الى منهج الجرعات المتزمتة والموصدة تماماً امام رياح الزمن، فالأوقات التي كان يمضيها حيدر الساكن في منطقة حي الجهاد مع صديقه عمر من منطقة العامرية، احتضرت وماتت، هؤلاء الناس انحسروا في بيوتهم فأصبحت نوافذهم أبوابهم، ومستقيم طريقهم ملتفات ومدورات وحواجز، يكلمون بعضهم بعضا من وراء الحجرات، لا يلتقون ليشربوا فنجان قهوة المودة والتحية، ولا يتقبلوا التحية، فلم يعد ينطق بما كان ينطق من تحية ومن سلامه هذا الطفل المنسحب الآن تحت وسادة الليل المظلمة، تعلم أن يرى الأخر خلف الجدران العازلة، وكأنه طفل من كوكب آخر، ومن ديانة أخرى، ويرى أبويه وكأنهم من بشر مغايرين خلقة ودينا، فهو لا يرى غير عباءات سود تفترش فضاء المنطقة ورايات سود تعلوا بنايات ما يعلوها غير نداء الله وآذان الفجر وصياح الديك، والطير الباحث عن النور، قطعت حبال المودة بينهم، وقسم ملعب الكرة إلى قسمين، وحمل بدلا من كرة اللعب الصغير قنبلة وعبوة ناسفة، إذ تحدثنا والدة أم حيدر بقولها، منذ أن أختطف أبو حيدر في منطقة العامرية وقُتل هناك، انقطعت علاقتنا بأصدقاء العائلة (بيت أم عمر) لأنهم يسكنون في تلك المنطقة التي قتل فيها زوجي، فخوفي على نفسي وأبنائي حال دون أن نلتقي، وبالمقابل هم كذلك، يتملكهم هاجس الخوف من دخول منطقتنا، حتى منع كل منا أبنائه، فثمّة هناك أسوار تحاصرنا، شَيّدت بين مناطقنا تتحدث وتحمل إيحاءات أفلحت في نصب عراقيل حالت دون انتزاع ألم ذكرى مقتل أبو حيدر، وتضيف أم حيدر هذه الأسوار تحرضني كلما جنحت أعيني ناحيتها على مشاهد القتل والاختطاف التي لا تكف من المجيء..

فيما لم تكن حكاية أم زاهر تختلف عن ما ذكرته أم حيدر، إذ تؤكد إنها أخذت موقفاً كبيراً ضد سكان أحد المناطق لمقتل زوجها هناك، مشيرة إلى أن كمية الوجع الذي تسببت له هي وأطفالها من أهالي تلك المنطقة ليس بالسهل نسيانه، واجدة من الجدار الذي يحيط بتلك المنطقة ملاذا آمناً لغيرها الكثيرات من النساء اللواتي عانين من هذا الأمر.

ثقوب نحتها رصاص الغدر والطائفية

هؤلاء الناس الذين ما كانت الطرقات أوسائط النقل تفرق بينهم، كما يفرق بينهم اليوم انقطاع الكهرباء، تباعدوا اليوم دون هدف، فأصبحوا أعداء يقاتل بعضهم بعضا، واستبدلوا التحية والسلام بإطلاقات البنادق.. فألفوا لغة ما كان لها مفردات في قواميس ثقافتهم وقبائلهم وأعراقهم، وسعوا لأن يكونوا متفرقين بغير قضية، ومتباعدين من غير هدف فسمحوا للأجنبي بأن يكون شيخهم وعرافهم، حتى استبدل قضاتهم بقضاة آخرين وشيوخهم وأصحاب الرأي بشيوخ وأصحاب رأي أجانب، وأن يحتل المسافات بينهم، ويتدخل في طرقاتهم، ويملأ الفراغات التي انسحبوا منها، ثم سمحوا لأن يتقبلوا ثقافة أخرى ويأكلوا بالطريقة المغايرة لما ألفوه صباحا وعشية ومساء.

فأبان السياق ذاته، أكتشف صاحب محال خاص ببيع الملابس النسائية في سوق البياع الشعبي، بعد أقل من ثلاث سنوات أنه يسير يومياً بالقرب من تلك الأسوار، خارجاً من منطقة السيدية الى البياع، يمشي أسفل هذه الجدران يتمسّح بثقوبها التي نحتها رصاص الغدر والطائفية، ويدشن يومه بذكريات مشطورة انتزعت أحد أبنائه الذكور ويتَذّكر كيف مشى في جنازته يومها، محاولاً زيارة تلك الثقوب التي أحتربت!

 ظنه سجن مكث طويلاً خلفه، يتحدث بألم عن رصاصات جاره في المنطقة التي اختفت خلف هذه الجدران وهي تخترق جسد أبنه الكبير والذي كان بصحبة اطفاله الثلاث، حتى تمدد ولده من أثر إصابته دون أن يلفظ بكلمة، وكيف أصاب أطفاله الرعب ومنذ يومها، عندما يتذكرون أبيهم يقول أحدهم للأخر، أبي قتله ذاك الرجل الساكن خلف الجدار، وأخر يرد عليه بقوله، كم أكره من يعيش خلف هذا الجدار، سأجمع مالاً من راتب أمي الشهري الذي تحصل عليه من دائرة رعاية الأرامل، وأشتري عبوة ناسفة وأفجرهم.

منذورة بالمجهول

ما من شك سيتحدث احد الأطفال يوما لأخيه أو جيرانه بعد أن يكونوا قد كبروا عن مأساة الطفولة التي صنعها الأجنبي لهم، وسيضحكون على غبائهم من أنهم كانوا ضحية مؤامرة كبيرة أرادت أن تجعل من حائط أسمنتي حدودا فاصلة بين بيوت وبيوت، وأسرة وأخرى، سيضحك وسيقول لقد كان زمنا عصيبا ذلك الذي عشناه...، سيتحدثون بصيغة الماضي الناقص عن هذه الجدران العازلة بين أحياء العاصمة العراقية بعد أن كبرت معهم حاسة الجدار العازل بين أناس يرتدون اللباس نفسه، ويتكلمون اللغة نفسها، ويؤمنون بالدين نفسه، ويعيشون في المدينة نفسها، ويشتغلون بالعمل نفسه، وتطلع الشمس وتغيب عليهم في الوقت نفسه، ويأكلون مما احل الله به وما حرم، ويعانون الأمراض نفسها، ويعالجون عند الأطباء والمستشفيات نفسها، ويتزوجون ويتزاوجون من الأسر نفسها... وفي هذه التضاريس التي تعيش في غيبوبة التاريخ والجغرافية، نشأت مفاهيم غريبة عند أطفالنا وتخرجوا وهم يقولون بالحصار والعزلة والموت الآخر لانه مختلفاً عقائدياً ومذهبياً، هذه الهستيريا سرعان ما تحولت الى حرب ضد أنفسهم، فها هو الطفل سرور يقف مشدوهاً، ممسكاً بيد أمه، محاولين اجتياز طابور التفتيش، كان سرور يثبت بصره على الجدار الكونكريتي يسأل أمه بضجر (لماذا لا نستطيع زيارة جدتي إلا من خلال مرورنا من هنا) كان يستأنف كلامه فيما يداه الصغيرتان تشتغلان آليا في ضرب الجدار الكونكريتي، لعله كان يقول في نفسه شيء، فضرباته المتلاحقة للجدار كانت منذورة بالمجهول، فلربّما أفسحت له المجال لكي يسترجع الأحداث والأخبار التي يسمعها دوماً عن القتل والتهجير، منكباً على لمس خطوط وثقوب الجدار بأصابع يده، ليرسم بخياله على تلك الجدران دوائر وكأنه محتبس بداخلها، فلم تكن عيونه تفارق تحركات اصابعه.

الهوة التي صنعتها الجدران

صحيح أن الأسوار كانت ضرورية في الحقبة السابقة، وأن لا أحداً يشكك في فاعلية منظومتها الأمنية بوقتها، فالجميع قد أجمع بأن هذه الأسوار قد نجحت في صد الضربات الموجهة من قبل المتمردين والتكفيريين، والحد من الهجمات الغوغائية من مدينة إلى أخرى، بشكل خاص، حتى تناسى الجميع مزاوجتها مع التربية النفسية والاجتماعية وحتى الاقتصادية والسياسية والصراعات الاجتماعية والعقائدية، فعندما هُجرت عائلة أبو جعفر من منطقتهم التي عاشوا فيها ما يقارب الخمس عشرة عاماً، يستذكر أبو جعفر تلك الأيام قائلاً خرجت أنا وأسرتي بخطى متسارعة بين الأزقة في ليلة هرباً من القتل، كان أطفالي لا يكفّون من سؤالي عن سبب تركهم لمنطقتنا وكيف أنهم مشتاقين لأبناء المحلة، والى كل الأنحاء مستدركاً، أبني محمد البالغ من العمر (11 ربيعاً) يعي أنّنا لم نختر هذا المكان الذي نسكن فيه اليوم، وأننا كاننا مكرهين على الخروج من منزلنا ومنطقتنا، وكان دائماً يتملّكه الخوف كلّما أخذته والدته عبر تلك الأسوار الفاصلة بين منطقتنا الجديدة ومكان عملها، لم يكن يسألها إلى أين يمضيان، فقط كأن يفتأ بخواطر تذكره بحادث تهجيرنا، غير أنّه سرعان ما كان يطرد عنه ما كان يخايله نظراته لتلك الحواجز التي يعتقد أن خلفها يسكن المجرمين، ويلزم نفسه بالمشي الذي تفرضه عليه والدته، كإيقاع يومي نعيشه نحاول أن تجاريه عبر كلمات استقوى عليها الكتمان.

أهداف طويلة الأمد

ويفسر سامي حميد / باحث اجتماعي هذه الظاهرة بالقول، لا يزال تأثير الأسوار (الحواجز الكونكريتة) في تزايد وتجدد، حتى باتت اليوم خريطة العراق ملأى بالأسوار، فيما (الأشباح) تسعى الى التسلل بشتى الوسائل ولإغراض مختلفة لتفويض (الفرد العراقي) وتسويق الفتن بمختلف أشكالها.

ويضيف سامي، قضية الأسوار كانت تشكل ذريعة لمقاولي الدم والعنف، وتناس الجميع أن مكافحة الارهاب هي عملية سياسية وأمنية وتربوية واخلاقية وتنموية في آن واحد، علماً أن ثمة يقيناً لدى الجميع أن هذه الأسوار هي عالم قائم بذاته، وبالإضافة إلى ذلك، تقام هذه الأسوار بطريقة تقسم المراكز السكنية عن بعضها البعض متمثلة في إستراتيجية لعزل هذه التجمعات على نحو فعال، وتقييد الحرية ليس فقط من حيث حركة الأفراد ولكن أيضا من الناحية الاجتماعية والانتمائية، وبالتالي تدهور الحال وأصابته بالشلل، ناهيك على وجود أسوار وجدران مزدوجة كمعازل وجيوب اتخذت أشكالا عدة، أمتار من قطع الخرسانات الصلبة مع وجود أبراج للمراقبة المسلحة، هنا أصبح مفهوم "الأمن" لهذه الأسوار يصب في أهداف طويلة الأمد، وفي جعل الحياة صعبة للغاية بالنسبة للعراقيين.

دولة الفصل العنصري

ومن هذا المنطلق يرى الدكتور صاحب الخالدي أستاذ في علم النفس، أن تحديد هذه التدابير على أنها "مؤقتة" من قبل الجهات الرسمية، هي استراتيجية، كثيرا ما تستخدم لتبرير الأعمال غير المشروعة التي تصبح في المستقبل دائمية، لخلق "مجتمعات مغلقة" هذه المجتمعات ترمز الى الفصل بين المواطنين الذين يعيشون في مكان واحد كمظهر من مظاهر الانفصال والتقسيم، وتنطوي على مفهوم (فرق تسد) هدفها ضمان الهيمنة على المنطقة والتأكد من أن الشعب لا يحاول أي أن يتحد لاستعادة حقوقه، حتى تروض الأحداث بطابع مصيري للفصل بين العائلات والأصدقاء، والأعمال التجارية، كمثال لدولة الفصل العنصري، ليكون التعامل مستقبلاً بين اجياله على أساس الصراعات العرقية.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 15/تموز/2010 - 2/شعبان/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م