ألقى لها الزهور في مربع المحادثة ونثرها دون توقف، وقلب أحمر يتدفق
بسخونة عارمة، لم يقع في شاشتها الصغيرة، بل أرتطم مباشرة بقلبها دون
سابق إنذار !
وضعت يدها على صدرها الذي بدأ في عزفٍ أفريقي مجنون، وسيلان من
الحمى الملعونة اقتحم جسدها المرتعش من كل أطرافه وزواياه، توهج قلبها
الذي كاد أن يقع من فرط الاصطدام، تذكرت على الفور باقة الورد التي
قدمتها لها "سناء" صديقتها المقربة، لا تزال كلمات البطاقة المرفقة
محفورة في عقلها الشارد : " مبروك عليك التخرج، وعقبال باقة الزفاف"،
قلب مطعون بسهم يتدلى في زاويتها اليسرى وتوقيعها المتحمس بإزائه، تورد
خدها، وتردد جموح أنهال عليها بين أن تقفل المحادثة أو تكمل المشوار
معه، كانت في حالة من الارتباك لا توصف، ريشة أشتد بها الريح في يوم
عاصف، قال لها همس في داخلها يجري في الدماء : إنه العريس المرتقب، لقد
استجاب الله لسناء، وقبل أن تمس أي مفتاح توقد مفتاح عقلها بدهاء: وقد
يكون خاطف أحلام !!
بحركة خاطفة استعرضت أحلام المواصفات التي سجلتها عن نفسها، وحمدت
ربها أنها لم تضع لها أي صورة، " الحمد لله " قالتها مرّة أخرى وهي
ترمق عبارته (أريد منك صورة) خلف ابتسامته التي أوجست منها خيفة..
وبدأت جولتها لتكشف عن لثامه، صورته متأنقة ومزينة كالطواويس ومزركشة
بألوان الطبيعة الساحرة، أما ابتسامته تلك كانت كابتسامة وليد صغير
تتدحرج على شفتيه بكل صفاء وسهولة، وقبل أن ترد على طلبه، خرج سطر
مشفوع بالتوسل وشيء من الرجاء المطلي بالعاطفة : ليس من الإنصاف أن تري
صورتي، ولا أراكِ؟ صورة واحدة منك لن تضر.
لم تتوقف مكينة عقلها وهي تفتش عن صورة بين المجلدات، ألقت عليه بعض
الحروف على صحراءه الملتهبة والعطشى: ستراني إن شاء الله..
لم تصدق عينيه ذلك السطر، فحاول أن يضبط أعصابه بكل ما يمتلك من
قوة، إلا أن عبارة : (هيا أنا أحترق) خرجت من قبضته المحكمة. أرادت أن
تحبس أنفاسه :
هل يهمك الشكل أم المضمون؟!
سحب لعابه الذي أوشك أن يقع حينما ظن أن القادم صورة، وتذكر أنه
اختار " جذابة جداً " في مواصفات البحث، لكن اللباقة جعلته يخفي مأربه،
إذ أنه من غير اللائق أن يستثني المضمون، فقال في بضع ثانية : بل
الأخيرة.. ولسانه يحملق في الأولى عن كثب !!
قلبه أوشك أن يقع لما شاهد شيء يتحرك نحوه من قبلها، كانت مجرد حروف
: وهذا ما يعجبني فيك، فلماذا الصورة؟! هنا كان فك الكماشة، وقبل أن
يفتح المكر غطاءه، شاهد الصورة أمامه بعد أن تأكدت من إجابته ثلاث
مرات.. خاصمه الانتظار في تلك اللحظة، لم يحتمل كل هذا الصبر، هرولت
أنامله كذئب مفترس يسابق البرق لرؤيتها، فقد رسم في قلبه أن يشاهد
مفاتنها وبعض الأجزاء التي لا يمكن أن ترى إلا للخواص، وعند تصادم
العيون كانت المفاجأة أن يراها بكامل الحجاب، لم يطلب منها المزيد من
الصور، لكونها سمراء داكنة!
انتظرت منه أن يهمس بحرف، أو يكتب كلمة، أو يطبع رمزاً صغيراً،
لكنها لم تجد منه إلا الفراغ القاسي، لقد ذهب بزهوره الزائفة كسراب
ضائع، تلاشى ذلك الحنان الكاذب دون رجعة، أغلقت المحادثة التي ندمت على
ممارستها، وفي تنهد عميق حكمت عليها بالأخيرة، وأمام المرآة وقفت تتأمل
صفاء خديها وبياض وجهها، وتناسق اللؤلؤ النضيد في ثغرها الضحوك،
وألمعية شعرها الحريري الأسيل، وفي ابتسامة لعوب أسقطتها على المرآة،
قالت : إنه لا يستحق هذا الجمال الفاتن، وهذا الرواء الكبير، أمسكت
بباقة سناء ونثرت الزهور على نفسها، وقالت : أني أنتظرك يا من تستحق
هذا الحُسن والبهاء، فمتى سيحل الزفاف؟! قُرع الباب حينها وكان صداه في
قلبها مدوياً.. |