|
تكلمنا في مقال سابق عن تجربة حكم الإسلاميين في العراق خلال المدة
من 2003 ولغاية 2010 وبينا أن خلاصة هذه التجربة انعكست سلبا على
مصداقية نظام الحكم الإسلامي والقوى الإسلامية العاملة في الساحة
السياسية العراقية، حتى وصل الأمر إلى مستوى يتطلب من هذه القوى إعادة
النظر في برامجها وشعاراتها السياسية وسلوك العاملين فيها من اجل تصحيح
مسارها.
وعملية تصحيح المسار تتطلب كثيرا من الأمور التي سنسلط الضوء عليها
في هذا المقال والمقالات القادمة يأتي في مقدمتها الشروط الواجب توفرها
في الإسلاميين لتولي القيادة السياسية في العراق، وتتمثل هذه الشروط
بما يلي:
أولا –خوف الله سبحانه وتعالى
إن من يحمل راية الإسلام ويتكلم باسم الدين ينبغي له أن يتميز
بسمات خاصة لا يمكن أن نجدها غالبا أو نجدها بحدود عند الآخرين أبرزها
خوف الله سبحانه وتعالى، فالخوف منه تعالى سيكون محفزا ومشجعا للعمل
الصالح الذي يعود نفعه على الجميع، والجميع هنا هو الشعب العراقي، كما
سيمنع السياسي من تقديم مصلحته الخاصة على مصلحة المجتمع العامة طالما
أن همه وفقا لشعاره الإسلامي هو خدمة الرسالة الإلهية وتحقيق مقاصدها
العامة ومصداق هذا هو قوله تعالى: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي
أنما إلهكم اله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك
بعبادة ربه أحدا) – الكهف 110 – ورجاء لقاء الله هو أساس الخوف منه
تعالى، وبالتالي هو المحفز للعمل بما يرضيه ويخدم مصلحة عباده ومنع
الشرك به انطلاقا من الجري الأعمى وراء كراسي الحكم أو الاكتناز المحرم
على حساب الشعب.
إن أهمية هذا الشرط تتضح أكثر في حثه السياسي الذي يتكلم باسم
الإسلام على أن يكون نموذجا وقدوة يحتذى من الآخرين في قوله وفعله ولو
كان خوف الله راسخا في بعض القوى الإسلامية العراقية لما وجدنا تنامي
حالات الفساد المالي والإداري في مؤسسات ومنظمات تقودها وتشرف عليها
هذه القوى، فانعدام أو تجاهل خوف الله من قبل بعض المحسوبين عليها جعل
الشعب العراقي لا يميز بين من يسرقه باسم الإسلام أو من يسرقه بمسميات
أخرى، ولا بأس هنا أن نذكر قولا مهما للإمام علي عليه السلام جاء فيه:
(من عرف انه يسكن التراب ويواجه الحساب ويستغني عما ترك ويفتقر إلى ما
قدم فحري به قصر الأمل وطول العمل)، ورأيي أن قصر أمل القوى السياسية
الإسلامية يجب أن يتمحور في تركها الصراعات والمطامع والشهوات الآنية
الضيقة التي لم تسلمها من إفراط أو تفريط، أما طول عملها فيجب أن يتمثل
في حرصها على خدمة الشعب وتحقيق المنجزات التي يحلم بها وإنهاء معاناته
التي طال أمدها، وكل ذلك لا يكون ألا بخوفها من الله ومراقبته في
سكناتها وحركاتها والحرص على تأكيد ذلك كشرط لابد منه للمنتمين إليها
وإلا كيف تضمن هذه القوى أن لا يتحول جلاد الأمس باسم القومية والوطنية
إلى جلاد اليوم باسم الإسلام.
ثانيا - فهم الدور السياسي للعمل الإسلامي
ليعلم من يرفع شعار الإسلام في الساحة السياسية انه يتكلم باسم
رسالة سماوية تنطوي على أحكام ومثل وقيم غاية في الرقي والإنسانية
تتطلب تجسيدها واقعا في سيرته وسلوكه من اجل خلق قبول واقتناع بها من
الناس (الشعب) ليكون ذلك عامل جذب لهم وتأثير فيهم فترنو عقولهم
وقلوبهم إلى قيام نظام حكم إسلامي قادر على المنافسة والتقدم في فضاء
سياسي ملئ بالنظريات والإيديولوجيات التي تطرح نفسها على إنها أفضل من
غيرها في حماية حقوق الإنسان وحرياته وحفظ إنسانيته وكرامته. وعليه
فليس الهدف من العمل السياسي باسم الإسلام هو الوصول للسلطة والاستحواذ
على كرسي الحكم، نعم إن تنظيم عمل الإسلاميين في إطار أحزاب سياسية
يعني في جانب منه التنافس من اجل الوصول إلى السلطة لكن الهدف ليس
السلطة بحد ذاتها وإلا تحول العمل الإسلامي إلى وضع لا يختلف فيه
الإسلاميون عن غيرهم وهذا للأسف ما لم تفهمه وتدركه بعض القوى
الإسلامية العراقية التي انساقت وراء الوسيلة (السلطة) ونست الهدف (نشر
الدين وخلق مقبولية بحكمه بين الناس).
ثالثا- إدراك طبيعة الشعب العراقي
من أولويات العمل السياسي هو أن يدرك القائد السياسي قضية مهمة هي
إلى من يوجه خطابه، هل يوجهه إلى شعب أمي أم شعب متعلم؟ شعب هادئ أم
شعب متمرد؟ شعب مبتدئ أم شعب عريق؟، لأنه بدون ذلك سيفشل حتما في خطابه
ويخسر القيادة لصالح من كان على دراية وفهم بطبيعة الشعب الذي يخاطبه،
والإسلاميون العراقيون يتوجه خطابهم السياسي إلى شعب العراق، لذا عليهم
أن يدركوا أن هذا الشعب فضلا عن كونه شعب صعب المراس ومتنوع المكونات
فأنه – أيضا- ينطبق عليه قول الإمام علي عليه السلام الذي ورد بشأن أهل
مصر في عهده لمالك الاشتر عندما ولاه عليها إذ قال له:.. أني قد وجهتك
إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك، من عدل وجور، وأن الناس ينظرون من
أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت
تقول فيهم، وإنما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده..
والقصد من ذكر كلام الإمام عليه السلام هنا هو أن على الإسلاميين
العراقيين أن يدركوا أنهم يتعاملون مع شعب عريق مرت عليه دول كثيرة
أكثرها كانت مستبدة وجائرة وقد خبر جيدا السياسيين فلا يمكن خداعه
بشعارات براقة لا يلتزم بها أصحابها ومن يرغب ببناء تجربة ناجحة للحكم
في هذا البلد يجب أن يأتي بسيرة تخالف سيرة الطغاة والظلمة الذين حكموه
من اجل مد جسور الثقة مع شعبه كي لا تكون قطيعة بين الحاكم والمحكوم،
وهذه الثقة من المقدمات الأساس للعمل السياسي الإسلامي الناجح، وقديما
قال الحكيم الصيني كونفشيوس: إذا فقد الحاكم ثقة شعبه به فلا دوام
لحكمه، لذا لا استمرارية ودوام للقوى الإسلامية التي تفشل قيادتها
السياسية في كسب ثقة الشعب العراقي بها.
رابعا: التأسي بالرسول وأهل بيته عليهم
السلام
فبمثل هذا التأسي سيصيب السياسي الإسلامي السنة فيقترب في عمله من
سلوك الصالحين ويبتعد عن سلوك الطغاة والمتجبرين، وهذا ما أشار إليه
الإمام علي عليه السلام عندما قال:.. فتأسى متأس بنبيه وأقتص أثره،
وولج مولجه، وإلا فلا يأمن الهلكة، فأن الله جعل محمدا صلى الله عليه
وآله للساعة، ومبشرا بالجنة، ومنذرا بالعقوبة، خرج من الدنيا خميصا (أي
خالي البطن)، وورد الآخرة سليما، لم يضع حجرا على حجر حتى مضى لسبيله،
وأجاب داعي ربه، فما أعظم منة الله عندنا حين أنعم علينا به سلفا نتبعه،
وقائدا نطأ عقبه. إن التأسي بالرسول وأهل بيته من قبل من يدعون العمل
الإسلامي سيجعلهم قريبين من السلوك الحسن قريبين من الخير قريبين من
الناس، ولا شك في ذلك فهم يقتدون بمن جعله الله عز وجل أسوة للناس في
كتابه الكريم ومن بعثه ليتمم مكارم الأخلاق، فالسيرة النبوية والأخلاق
النبوية هي ما يحتاج إليه الناس اليوم كل الناس وليس العراقيين وحدهم
في زمن عم فيه الفساد البر والبحر، وهي بالتالي مفتاح النجاح للقادة
الإسلاميين، لأنها ستعلمهم التواضع والجد والرفق والرحمة والاعتدال
والعدل والإيثار والحكمة والعفو والتسامح.. كي لا يكونوا سباعا ضارية
تفترس بعضها بعضا كما تفترس الناس من اجل الحكم ومغانمه التي يطلبونها
باسم الدين ورموزه الطاهرة، فيكونوا كذاك الذي حمله الله آياته فانسلخ
منها بجهله وسوء تقديره.
خامسا: النزعة الإصلاحية
يعد هذا الشرط من الشروط المهمة التي ينبغي أن تحض بتركيز القيادات
الإسلامية العراقية، إذ لا بد أن تسأل هذه القيادات نفسها لماذا اختارت
العمل باسم الإسلام؟ وهل اختيارها كان من اجل مطامع ضيقة وغايات آنية
أم من اجل مصالح عامة وغايات سامية؟، فإذا جاءت إجابتها أنها اختارت
الإسلام كشعار سياسي من اجل مطامع وغايات خاصة، فالأجدر بها أن تختار
شعارا آخر لها لأنها بفعلها هذا تلحق الإساءة بالإسلام وأهله داخليا (العراق
والعالم الإسلامي) وخارجيا (على الصعيد الدولي)، أما إذا جاءت الإجابة
أنها اختارت الإسلام دون غيره من اجل خدمة مصالح عامة وتحقيق غايات
سامية، فان النجاح في هذا العمل يتطلب العمل بنزعة إصلاحية تندفع إلى
تحديد المفاسد التي خلقتها الشعارات السياسية الأخرى وما انطوت عليه من
صراعات وإخفاقات وطرح البديل لها من القيادات الإسلامية، فانه لا يوجد
من ينكر حقيقة أن ساحة العمل السياسي العراقي منذ نشوء الدولة العراقية
عام 1921 والى الوقت الحاضر كانت حبلى بالشعارات السياسية التي لم يحصد
العراقيون من ورائها إلا الألم والمعاناة والخراب والتراجع، فما هو
المشروع الإصلاحي الذي تبشر به القوى الإسلامية العراقية؟ ومن هم
المصلحون الذين يتبنونه؟ وكيف يمكن تحقيقه؟، هذه الأسئلة وغيرها هي
أسئلة حقيقية ومصيرية يجب الإجابة عليها من القوى الإسلامية العراقية
لإنتاج قيادات سياسية تتحمل المسؤولية مدفوعة بنزعة إصلاحية واضحة
المعالم.
سادسا – العصرية
والمقصود بذلك هو أن يكون الخطاب الإسلامي إلى الناس منسجما مع
العصر وأدواته من ناحية نظام الحكم، وبناء دولة المؤسسات، والعلم
والتعلم، واستعمال وسائل الإعلام وكسب الرأي العام، وعرض الأفكار
ومناقشة القضايا التي تهم الناس، ومعالجة مشاكلهم وترقية وعيهم بمختلف
الإبعاد، والحوار مع الآخر.. فبقدر ما يكون الخطاب الإسلامي عراقيا
وطنيا لا بد من الحرص على جعله نموذجا مؤثرا على الصعيدين الإقليمي
والعالمي حتى لا تكون تجربة الإسلاميين في العراق مجرد صراعات حزبية لا
تختلف عن تجارب حزبية كثيرة طوتها أيدي الزمان وصفحات النسيان ولم يبق
لها عين ولا أثر، ولا يمكن لهذه التجربة أن تكون نموذجا جاذبا ما لم
تكن عصرية في أطروحتها النظرية والعملية، بل إن البعد عن لغة العصر قد
تجعل منها نموذجا طاردا وغير مقنعا للجميع.
سابعا – القدرة على التأثير في الواقع
وتغييره
لا يكفي أن يكون السياسي نبيلا ومبدئيا ليصبح قائدا، بل لا بد من
امتلاكه للمهارات والمؤهلات اللازمة للتأثير في الواقع وتغييره بما
ينسجم مع الأهداف المرفوعة، بمعنى أن يكون محترفا في عمله السياسي
خبيرا بما يجب عليه، وقد كانت غفلت أو عدم اهتمام بعض القوى الإسلامية
العراقية بهذا الأمر سببا في ملئ ساحة العمل السياسي الإسلامي بكثير من
الأسماء التي كانت عامل تنفير للناس عنها وعدم احترام لها، بل أحيانا
كانت سببا في توجه الرأي العام إلى تأييد قوى سياسية أخرى لمجرد أنها
تأخذ الخندق المضاد لها. وتصحيح هذا الخلل لا يكون إلا من خلال اختيار
قادة كفوئين قادرين على إحداث التغيير المطلوب لمصلحة العمل الإسلامي
تنعكس في سيرتهم وعلاقتهم بالناس صورة مشرقة لنظام الحكم الذي يخدمون
من خلاله شعبهم على أن يكون نظاما في متناول اليد لا مجرد شعارات تحلق
في السماء ووعود لا يمكن الوفاء بها.
إن الشروط أعلاه نراها ضرورية جدا في تصحيح مسار العمل الإسلامي في
العراق فيما يتعلق بالقيادة السياسية، نتمنى أن تكون محل ترحيب من
القوى الإسلامية العراقية وان تتخذ خطوات عملية وفقا لها من اجل أن لا
يأتي يوم نجدها مجرد قوى سياسية ظهرت وزالت في سماء هذا البلد.
أخيرا فان خير ما اختم به هذا المقال هو تذكير الإسلاميين
العراقيين بكلام أمير المؤمنين عليه السلام الذي يقول فيه:.. إياك
والإعجاب بنفسك، والثقة بما يعجبك منها، وحب الإطراء، فأن ذلك من أوثق
فرص الشيطان في نفسه ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين، وإياك والمن على
رعيتك بإحسانك، أو التزيد فيما كان من فعلك أو أن تعدهم فتتبع موعدك
بخلفك فان المن يبطل الإحسان، والتزيد يذهب بنور الحق، والخلف يوجب
المقت عند الله والناس.. وإياك والاستئثار بما الناس فيه أسوة،
والتغابي عما يعنى به مما قد وضح للعيون، فانه مأخوذ منك لغيرك، وعما
قليل تنكشف عنك أغطية الأمور، وينتصف منك للمظلوم...
* نائب رئيس مركز الفرات للتنمية والدراسات
الإستراتيجية
http://fcdrs.com |
