زيارة وتسيارة... بالياباني

عباس عبود سالم

لدى تلبيتي لدعوة مركز الدراسات الاسيوية في جامعة القاهرة لحظور نشاط فني ياباني تعرفت باحد الاساتذة الجامعيين العرب المقيمين في اليابان، وتذاكرنا كثيرا في التجربة اليابانية التي درستها في وقت سابق، ولكن استوقفتني قصة من الحياة اليومية لبلاد الشمس المشرقة رواها الاستاذ الجامعي.

 ففي احد الرحلات التي تنظمها جامعة طوكيو لضيوفها حيث تقوم الجامعة بتخصيص مترجم ومرافق من منتسبي الجامعة لمرافقة الضيوف طوال اقامتهم في اليابان..صادف ان دخل كامل الوفد مع مترجمهم لزيارة معبد بوذي يبعد مئات الاميال عن طوكيو باستثناء الموظفة اليابانية المرافقة التي فضلت البقاء في السيارة.. وبعد ان قضى الضيوف ساعات من التأمل والمتعة بين ارجاء المعبد الكبير.. اكتشفوا انها رفضت الدخول الى المعبد..

 وعندما حاولوا اقناعها من خلال المترجم بالانضمام اليهم.. اخبرتهم ان مهمتها تتحدد في مرافقتهم، وهي تنتظر خارج المعبد؟؟ كونها لم تأتي للنزهة!! ولم يؤذن لها بأداء طقوسها الدينية في المعبد من قبل ادارة الجامعة!! واصرت على جلوسها داخل السيارة.. دون ان تستجب الى الحاح الضيوف!! بل اخبرتهم انها ستاتي الى المعبد لاداء الطقوس في اجازة نهاية الاسبوع!!

وهنا بدا الاستاذ المتخصص في الشؤون اليابانية يؤكد ان تصرف هذه المراة البوذية امر طبيعي في اليابان، وهو السائد.. واخذ يحكي عن دور التنمية البشرية في نجاح التجربة اليابانية.. وان الاساس جاء من طبيعة الفرد الياباني، لامن خلال نوع وشكل السياسة، او طبيعة نظام الحكم، فقلت له اننا في العراق منذ مئات السنين وجدنا حل لمثل هكذا حالات وفق مبدا (زيارة وتسيارة)...

وأخبرني بدوره عن مئات السياسيين من ارجاء الدول الاسلامية الذين يوفدون الى المملكة العربية السعودية في زيارات رسمية، يستغلون اطول فترة من الايفاد لاداء مناسك العمرة في الديار المقدسة، بل انه من المعيب اذا وصلوا المملكة السعودية ولم يؤدوا المناسك، واتفقنا انه اختلاف كبير في الثقافات دون ان نحدد من هو الافضل.. ربما مبدا (زيارة وتسيارة) يختصر المسافات اكثر من الطريقة اليابانية.

ويبدو ان اليابانيين غيروا نمط حياتهم منذ اكثر من قرن من الزمن بعد ان كانوا يؤمنوا بنظرية (الباب اللي يجيك منه ريح سده واستريح) فكان العالم الخارجي كله بالنسبة لهم ريح فاسدة يهدفون للنأي بجزرهم الجبلية عنها.. واستمروا مئتي عام في حالة من العزلة التامة، وتلك الحقبة يسمونها بالياباني مرحلة توكوجوا، ثم قرر حكام المقاطعات المتنازعة في ستينات القرن التاسع عشر توحيد البلاد تحت ظل الامبراطور الصغير ميجي، وسمي هذا التحول (عصر الميجي) الذي غير اليابان تماما، رغم ان الامبراطور ميجي لم يكن مهندس هذا التغيير الذي وضعه جنود مجهولون.

 لكن الغريب انهم حددوا ثلاث اهداف لعصر الميجي.. ولم تكن الوحدة، والحرية، والاشتراكية، او الديموقراطية، او الحديث عن مواطنة لايؤمنون بها انفسهم، او عن دستور هم اول من يسعون الى انتهاكه.. او اي مفهوم عائم آخر.

 ولم تكن اهداف عصر الميجي تتعلق باحياء فكرة ان اليابانييين احفاد الالهة، او ان الساموراي هم رجال القائد الضرورة الامبراطور ميجي حفظه الله ورعاه، او بأن اليابان بلاد الشمس المشرقة وامة ذات رسالة خالدة، بل كانت اهدافهم ربنا تكون في نظر فطاحل منظرينا المعتقين، ساذجة.. ومضحكة، فكان هدف اليابانيون الاول في عصر الميجي هو التصنيع، وهدفهم الثاني التسليح، وهدفهم الثالث التحول الى دولة ذات نفوذ.

 اي اهداف واضحة، وصريحة، ومحددة، ويمكن تطبيقها بالاستناد الى برامج عملية، وهذا ماتم بالفعل من خلال ارسال آلاف الدارسين اليابانيين الى اوربا، والولايات المتحدة، والعمل على نقل التكنولوجيا، والبدء بمرحلة التصنيع رغم ان الارض اليابانية ليست الا مناطق صخرية.. خالية من الخامات.. و الثروات الطبيعية.. والمواد الاولية.. بل غير صالحة للسكن! ومعرضة لخطر الزلازل بشكل مستمر!!

اي ان اليابانيون ادركوا ان لاشيء لديهم يمكن تنميته سوى الانسان، فاستثمروا بالانسان.. ونجح استثمارهم.. من خلال التربية والتعليم، وساعدهم في ذلك كون الشخصية اليابانية مطيعة، منضبطة، ملتزمة، محبة للعمل الجماعي، لذلك تحققت اهداف عصر الميجي في اقل من عقدين من الزمن وتحولت اليابان الى دولة كبرى ذات نفوذ عالمي منذ بدايات القرن العشرين.

 اما في التجربة العراقية حيث دمج (الزيارة بالتسيارة) فيبدو ان الثنائيات لاتقتصر على المجتمع بل تشمل السياسة ايضا، حيث تارجح قيام الدولة بين (القومية والوطنية)، والثقافة بين (الاصالة والحداثة)، ثم التيارات الدينية بين (الانفتاح والتشدد)، وبدات الاهداف الحزبية والسياسية تضع مباديء لاعلاقة لها بالمستقبل.. بقدر ما تعالج قضايا مرحلية او سابقة، الى درجة ان تكون الوحدة العربية هدف سياسي تتناثر من اجله دماء عراقية، وتنشا مذابح نتيجة الصراع الشيوعي البعثي اواسط القرن الماضي من اجل الوحدة، فالشيوعي يفهمها وحدة عراقية، والقومي يفهمها وحدة عربية.

ثم لم تنشا لدينا معالجات سياسية مستقبلية تخلصنا من عقدة التأريخ، وبأننا كنا يوما ما اصحاب حضارة عظيمة بالشكل الذي لم تمر مناسبة الا وذكرنا العالم بمنجزاتنا التأريخية، في الوقت الذي يعج مجتمعنا بالكذابين، والفاسدين، والسراق، والمحتالين، والمزورين الذين لايعرفون غير الشعار الخالد (الشاطر اللي يعبي بالسكلة ركي).

فبعد ان تعرض اليابانيون الى اكبر نكسة في تاريخ بلادهم بعد ان قصف الامريكيون هيرشيما، ونكازاكي بالقنبلة النووية لم يلجاوا الى المقاومة الشريفة، او غير الشريفة، و على طريقة.. (ها خوتي عليهم... هاعليهم..) بل تعاموا مع الامر بحكمة كبيرة رغم انهم اول من نفذ العمليات الانتحارية في تاريخ الحروب، فلم يطلقوا رصاصة واحدة بعد انتهاء الحرب، انهم عرفوا من اين تؤكل الكتف.. وتنازلوا، واستوعبوا الهزيمة، وحولوا الازمة الى فرصة، وحققوا معجزة سيقف امامها التاريخ طويلا.

واليابانيون اليوم تساموا على جروحهم وتحولوا الى اوثق الناس علاقة بالولايات المتحدة بل تفوقوا عليها اقتصاديا الى درجة ان اهم شركة امريكية للسيارات جنرال موتورز تكاد تكون قد ذابت داخل شركة تويوتا اليابانية العملاقة.

 وهذه المعجزة تكررت في كوريا الجنوبية وماليزيا وسنغافورة وبلدان اسيوية اخرى فالجميع عرف ان السر لايكمن في تغيير الحكومات والحديث عن اصلاحات في قمة الهرم بقدر مايكمن السر في اصلاح قاعدة الهرم والاستثمار في الانسان على طريقة الميجي لاعلى طريقة زيارة وتسيارة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 8/تموز/2010 - 25/رجب/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م