شبكة النبأ: تبدو ثنائية المحدود
والمطلق كمفهومين لهما دالات متعددة، تتشظى معانيهما إلى ما ينمو في لا
وعي المنتج، فهو يخضع لمكون راسب في اللاوعي يشكل الركيزة الأساسية
للنص وهذان المفهومان يستطيع الكاتب استخدامهما على أوجه من الاشتقاقات
المتعددة لكنها بالنتيجة تؤدي وظيفتين أساسيتين تعبران عن حالة الوجود
داخل حيز مكاني أو حسي يقابلهما التطلع إلى المطلق ـ الفضاء ـ فالمطبق
تقابله الحرية، والضيق يقابله المتسع، والقلق يواجه الاستقرار، وإلى ما
هنالك من أوجه التقابل التي تؤدي بالأساس مفهومين مستنبطين من مفهومين
فلسفيين.
وتؤكد كثير من البحوث والدراسات والآراء النقدية على أن فن السرد هو
الجنس الأدبي الأكثر قدرة (من بين الأجناس الأدبية الأخرى) على الخوض
في دخائل الإنسان ككائن متفرد وفي علاقاته المتداخلة مع الخارج بكل ما
ينطوي عليه من غوامض شائكة وعصية على الكشف، ولذلك فأن فضاءات السرد
الواسعة تبدو اكثر استجابة وقدرة من غيرها (كالشعر مثلا) على استغوار
بواطن الحياة الإنسانية بكل تفرعاتها الهائلة.
وفي نصوص القاص ـ أحمد المؤذن/ من البحرين ـ نلاحظ بنية سرد تعمل
على الغوص في مجاهيل الإنسان وحيواته الظاهرة والمضمرة من خلال تشغيل
واستفزاز مخيلة (استرجاعية) دقيقة كما نتبين ذلك في قصة (سر الصندوق)*،
إن هذه القصة تبدأ بتركيب لغوي واضح ومبسط وكذلك تبدأ بلحظة آنية، أي
أن درجة الخيال هنا في أدني حالاتها ثم ما نلبث أن ندخل في عوالم (المخيلة
الاسترجاعية) عندما تبدأ عملية التحاور بين البطل (الراوي) وبين الجدة
وهي على سرير المرض، إن القاص هنا يحاول الولوج إلي أنبل المشاعر
الإنسانية واعمقها عاطفة ورقة عندما يتحدث لجدته غير الموجودة (الميتة
أصلا) وهو بذلك يؤثث بنية السرد بالمنحى الإنساني الذي يعمل على سحب
القارئ إلى منطقة التفاعل مع النص من خلال عرض الجانب الإنساني الصادق
والمؤثر في العلاقة القائمة بين (البطل/ الجدة) وقد نجح القاص
باستخدامه ضمير (المخاطب) في لغة التحاور الأمر الذي جعل من القارئ يحل
محل بطل القصة في كثير من الأحيان وكأنه هو الذي يخاطب جدته عن أحداث
وذكريات غاية في الحزن والألم وقد جاءت لغة القاص احمد المؤذن في قصته
هذه مناسبة لأجواء المنحى الإنساني الذي شكل الجوهر الموضوعي لها.
ونلاحظ المحنى ذاته في قصة (صراخ) حين تبدأ باستهلال مفاجئ للمتلقي
وتنتهي بمفارقة ذكية أعطت تبريرا فنيا وموضوعيا موفقا لما قصده القاص (إنسانيا)
من قصته هذه، على أننا نقر بأن موضوعة هذه القصة (عادية) وممكنة الحدوث
في أي مكان وزمان، أي ان حالة ضرب المرأة من قبل الرجل (الزوج أو غيره)
واردة في كل المجتمعات وقد لا نجد حدثا باهرا في متابعة تفاصيل هذه
القصة لكن المفاجأة تكمن في الضربة الفنية التي أحدثتها نهاية القصة،
إن صراخ المرأة المتواصل وهي محاصرة في بيت مقفل الأبواب والنوافذ
وتباكي نسوة الحي عليها ونعت زوجها بالسكير العاطل عن العمل والدعوات
التي تطالب بتدخل الشرطة لتخليص المرأة التي تتعرض للضرب المبرح من قبل
زوجها، إن كل هذه الأجواء والإيحاءات نجحت في تضخيم المفارقة الفنية
وتعميقها وشحنها بالهدف الإنساني عندما نعرف أخيرا أن المرأة كانت
تعاني نوبات الطلق وانجبت طفلا وفي هذا التصريح الفني والموضوعي إدانة
واضحة للمواقف المتحاملة على الآخرين من غير مسوغ منطقي فتبين ان كل
الادعاءات ليست صحيحة وكان على النسوة (بدلا من إطلاق تهم باطلة)
مساعدة المرأة على إتمام ولادتها بلا مخاطر وهكذا يتضح لنا تركيز القاص
على الهدف الإنساني وتطعيم بنية السرد القصصي بكل ما يمت إليه بصلة.
وفي قصة أخرى تحمل عنوان (أنثى لا تحب المطر) نجد المحنى الإنساني
أيضا يزخرف بنية السرد والجديد في هذه القصة انها تتعلق بالعلاقة
العاطفية بين المرأة والرجل، والواقع يشير إلى معالجة إشكالية تكاد
تكون مستعصية في علاقة الرجل والمرأة من خلال تشغيل المخيلة القريبة من
الراهن حيث تتجسد المرأة المطلوبة في ذهن الرجل أو (أمام عينيه) لكن
ليس له القدرة على البوح بمشاعره الصادقة إزاء من يحب وثمة إشارة ذكية
للحجاب وتأثيره السيكولوجي في الآخر حيث يقول الراوي (أتمني أن لا تكون
كبقية البنات من جنسها في هذه المدينة أنثي تتشح بالسواد وتثير فيَّ
كآبة وحزنا الحمد لله أن لها حجابا تزغرد في ألوانه فرحة الحياة) إن
هذه الجمل تدلل على وعي إنساني وجمالي واخلاقي للقاص احمد المؤذن وهو
يذكرنا بموقف شهير لشاعر عراقي راحل دعا (في شعره) إلى نبذ الحجاب
الشكلي وجعله اكثر صدقا وقربا من المتطلبات الإنسانية التي لا تثقل على
الآخرين وتشي أحداث هذه القصة بالعلاقة المتأزمة بين الطرفين الرجل
والمرأة، فالرجل إنسان حالم وصادق في عواطفه لكنه في ظل قيم واعراف
محددة غير قادر على البوح بمشاعره، أما المرأة فأنها لا تقيم وزنا يذكر
لهذه العواطف لأنها لا تعرف عنها شيئا (في سياق السرد) أي أنها لم
تتسلم شيئا من هذه العواطف فكيف يمكنها التحاور معها في إطار أخلاقي
مسوغ واخيرا تصل هذه القصة إلى نهايتها المتوقعة سلفا (وهي فشل الرجل
بالوصول إلي المرأة التي أحبها بصدق ورسمها بمخيلة رسام نشيطة) وهكذا
لاحظنا الهم الإنساني الذي يتسم بالصدق وبالحس الدقيق في طرح معاناة
الإنسان حيال قضايا اجتماعية وغيرها مما يشكل العمود الأساس في الروابط
الإنسانية والاجتماعية المتقابلة.
أما قصة (عسل الصورة العارية) فإنها تحمل أجواء القصة السابقة ولكن
بطريقة تعامل مختلفة بين الرجل والمرأة أيضا، فإذا كانت قصة (أنثى لا
تحب المطر) تطرح عواطف إنسانية نبيلة ومشروعة بين (شاب يتوق بصدق وشرف
إلى شابة بعينها) فإن قصة (عسل الصورة العارية) تعالج الإشكالية ذاتها
ولكن في إطار آخر يتسم بشراهة الرجل وبحثه غير المقبول عن ملذات لا
تحقق أهدافه المشروعة أو ذاته (فالصورة العارية) تقطر عسلا لكنها في كل
الأحوال (صورة تخلو من روح الحياة) فهي بعيدة عن الجسد الأنثوي الحاضر
بكل حرارته وعاطفته المتوقدة ولذلك فإن الصورة لا يمكن أن تعطي بديلا
عن الملموس الحي وفي هذا التوجه نجد هدفا أخلاقيا واجتماعيا تطرحه
علينا القصة وإذا كان هذا الهدف معروف لنا جميعا فإن فضيلة هذه القصة
تكمن في تقديمها لنا دليلا (حدثيا) عن فشل الإنسان الذي يسعي وراء
لذائذ سريعة وزائلة وغير مشروعة أيضا وهكذا نلاحظ توافر المنحى
الإنساني وهيمنته على بنية السرد في هذه القصص التي قدمت لنا حكايات
مأخوذه من عمق الوسط الاجتماعي سُرِدتْ بطريقة قص ناجحة اتخذت من
الإنسان وعلاقاته المتشعبة حلبة للتوافق حينا والصراع حينا آخر وأشارتْ
طرائق القص إلى ولع القاص احمد المؤذن برصد وقائع اجتماعية وإنسانية
وتجسيدها في نصوص قصصية نُفِّذتْ فنيا بلغة سلسة هادئة ومفهومة وهو هدف
يبدو انه مقصود من قبل القاص لكي يصل إلى قارئه بأيسر الطرق وأغناها
وأقصرها في آن واحد. |