تكمن خطورة هذا الخلق في أنه يتعارض تماما مع أهم المباديء
الإسلامية، وهو (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وقد ورد في الحديث
أن (لادين لمن لايدين الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، ولذا
فإن الدعوات السماوية والوضعية قد جعلت جوهر أهدافها (الإصلاح)
والإصلاح هو لب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فالقرآن الكريم قد ركز في أغلب سوره على الإصلاح، وقد ظهر واضحا من
خلال تدب ر القرآن أنه قد أوصى الإنسان بأخيه الإنسان، فحرم الكذب
والخيانة والغش والاعتداء بكل صوره المادية والمعنوية، وهذه المباديء
وغيرها تشترك في منع المؤمن من أن يساعد على الظلم والفساد، فيما تحثه
على التعاون في البر ومنه الإصلاح.
والإمام الحسين عليه السلام قد جعل شعاره (الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر) وقال في (مانشيت) كبير وهو يحث السير إلى كربلاء : جئت لكي آمر
بالمعروف وأنه عن المنكر. إلا أننا لم نأخذ بهذا المبدأ واكتفينا من
الحسين عليه السلام (باللطم والنواح). كما أن النظم الوضعية والتي
اعتمدت الأسس الإنسانية في علاقاتها عمدت إلى صياغة قوانين تنظم
العلاقات الإجتماعية، فالشعوب المتقدمة وخاصة في الدول الغربية قد
انتبهت إلى خطورة (المداهنة)، ورسمت أطر قانونية وتربوية واضحة
للعلاقات الاجتماعية، استطاعت هذه الأطر بمرور الزمن أن توجه المجتمع
الإنساني فيها باتجاه الاحترام المتبادل بين الإنسان وأخيه الإنسان
وبين المجتمع والحكومات القائمة.
ومن أكبر الثمار التي جنتها تلك الشعوب هو القضاء التام على الفقر
بعد أن قاد التعامل السوي إلى العدل.
لم يك الحال في مجتمعنا المسلم كما يطمح إليه الإسلام ولا المباديء
الإنسانية، فقد تفشت الخصال السيئة الفاسدة بشكل يثير الكثير من الأسف،
مع امتلاكنا لمقومات الكثير من الأسس التي يمكن أن يبتنى عليها مجتمع
قد يكون أفضل بكثير من المجتمعات الغربية والتي ابهرتنا بإنجازاتها
الإنسانية والعلمية.
فالإمام علي عليه السلام قد رسم لنا طريقا مهيعا لحياة إنسانية
خالية من المثالب، في أغلب أبعادها، ومنها بُعد العلاقات الإنسانية،
ففي تحذيره من (المداهنة) والتي تعتبر آفة خلقية خطيرة تكرس الظلم
وتشيع الفاحشة، وتربط المجتمع بخيوط المصالح الشيطانية الضيقة، قال
عليه السلام : رحم الله رجلاً رأى حقا فأعان عليه، أو رأى جورا فرده.
وأن مفهوم هذا القول البليغ هو (أن الله لن يرحم من لايعين على الحق
ولا يرد الجور).
كما أن الإمام من خلال قوله يحث على العمل والتحرك في النصرة أو
الخذلان، ولا يكفي أحدنا أن يستنكر أو ي نصر بقلبه، (فالنية الصالحة
لاتصلح عملاً فاسداً)، وعمل القلب لوحده وهو أضعف الإيمان له أحكامه
وظروفه التي تتضمن خطورة ما، ولا أعني هنا العمل في أوساط تلك الظروف،
وأن ما أعنيه أن يتبرع أحدنا (لمداهنة الظالم) لعلاقات خاصة تربطه
بالظالم أو مصالح معينة تتضرر بنصرة الحق أو انتقاد الجور.
وضرر المداهنة بين الأشخاص يؤدي إلى تخلف وضعف بنية المجتمع، بينما
المداهنة بين المجتمع والحاكم الظالم تؤدي إلى كوارث إجتماعية خطيرة،
وكما رأيناها واضحة عبر تاريخنا القديم والمعاصر، ابتداءا من مداهنة
الأمة لخلفاء بني أمية وانتهاءا بمداهنة بعض شرائح الشعب العراقي
للنظام البعثي المقبور.
فالمداهنة في علاقاتنا الإجتماعية أصبحت ظاهرة خطيرة، ليس في حاجة
إلى كثير جهد لكي تراها واضحة وجلية في ممارسات غالبية الناس، وهي أكثر
وضوحاً لدى شخصيات تمتلك وزنا اجتماعيا معينا من خلال بعض الأعمال التي
تؤديها لمؤسسات دينية أو جتماعية، ولعل البعض يمارس دور المصلح لوحده
أو من خلال لجان معينة. والذي يثير الإستغراب أنك لو عرضت على أحدهم
قضية خلاف، فإنك سوف تجده وبشكل عفوي يميل بشكل صارخ للطرف الظالم،
ويزهد حتى بالحياد، بل يتحول إلى مدافع عن الجور، وإن وضعتَ أمامه
الكثير من الأدلة التي تبين الحقيقة.
ومن خلال التجارب التي مررت بها، وجدت أن حب الذات وتغليب المصالح
الشخصية مهما صغرت هي الدافع وراء التخلف في نصرة الحق، فغالبية أولئك
الذين استخفوا بحقوق أحد الخصمين كانت لهم منافع مادية أو اجتماعية مع
الخصم الآخر، وهذه الظاهرة الإجتماعية ليست جديدة في المجتمع العربي
والإسلامي بالذات، وقد ورثتها مجتمعاتنا كابرا عن كابر لسببين رئيسيين،
الأول هو الجدب الإيماني وانعدام التقوى داخل النفوس بسبب تربية معينة
سائدة، فالشخص الذي يستسيغ الباطل بلا شك يعيش حالة من الإستهزاء
الداخلي وقلة الاكتراث بحلال الله وحرامه، فهذا الإستهزاء يصبح بتوالي
السنين عادة مستعصية في سلوكه، اشبه بالبخل أو الجبن أن الطمع، أو أي
خصلة تأصلت بسبب التكرار، وبذلك تراه يمارسها مع الجميع على أنها أمر
عادي.
السبب الثاني هو غياب الحس الإنساني لدى الشخص، فنحن نألف الكثير
ممن لادين لهم لكنهم يتمتعون بخلق إنساني رفيع يمنعهم من التجاوز على
الآخرين أو أن يترددون في دفع الضرر الذي قد يلحق بمن حولهم، لم يك ذلك
بدوافع من الإعتقاد بوجود محاسبة إلهية، وأنما بدوافع إنسانية نبيلة
وجدت فينا بالفطرة مع ايماننا بالله، فمن لم يمنعه إيمانه بالله من
اتباع الحق، فإن إيمانه بآدميته، ت حتم عليه احترام نظيره في الخلق،
ولذا فإن المسلم الذي يدعي الإيمان بالله ولا يؤمن بآدمية غيره ويستسيغ
ظلم الآخرين هو أكثر الناس هلاكاً يوم القيامة.
فالدخول بين خصمين هو وضع النفس في موضع الحكم والقضاء، والله تعالى
قال : وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل.
إن الحديث عن المداهنة في علاقاتنا الاجتماعية، يحتاج إلى ابحاث
كثيرة فلها أبعاد اجتماعية وفردية، وقد بين لنا القرآن بشكل واضح
خطورتها، إلا أن باحثينا وعلماءَنا لم يتناولوها كما ينبغي، لاسباب
كثيرة لايسعها هذا المقال، كما أن الأحاديث النبوية لم تغفلها أيضاً،
وأختم بما ذكره الإمام علي عليه السلام في عهده لمالك الأشتر فيقول في
هذا المعنى : ولا يكون المحسن والمسئ عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك
تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة.
وهذا يعني بوضوح أن مهادنة الباطل هو محاولة لإشاعة الفاحشة وتشجيع
أهلها، وأن إعراضك عن إنصاف صاحب الحق، هو محاولة منك في دفع الناس
للتزهيد في العمل بالحق.
وقانا الله وإياكم شرور نزعاتنا وهدانا الطريق المستقيم.
والحمد لله رب العالمين. |