شبكة النبأ: من المؤسف حقا أن يتعامل
النقد والإعلام أحيانا بمكاييل كثيرة مع المبدعين، فترى الضوء مسلطا
بغزارة على من لا يستحق ذلك، وقد تراه خافتا في تعامله مع قلم لا يعرف
الكلل ولا التوقف طيلة عقود مريرة تخللتها مصاعب جمة ربما لم يواجه
مثلها او حتى أقل منها بعض الذين عرفوا كيف يقتنصون الضوء بطرقهم
الخاصة.
كان عودة البطاط قد بدأ رحلته مع القلم أيام شبابه في محافل البصرة
الحيوية حين ساعدته مواصفاته البايلوجية على مجاراة روحه الدفاقة
المتوهجة، فأخذ يلج عالم الادب بدأب وتواصل ممنهج تفرضه عليه حماسة
الشباب والروح والقلم معا، بيد أن الريح لا تأتي (مع بعضهم) كما تشتهي
السفن، فتعرّض هذا القلم الوقّاد وصاحبه الى مطاردات سياسية وغيرها
أجبرته على ترك عائلته والتنقل في أماكن ومحافظات وقرى عدة هربا من
عيون العسس آنذاك والسلطان الذي لا يروق له إلا من يجاريه في كل
الاحوال، والبطاط ليس كذلك كما عرفه المقربون منه، فقد كتب القصة
والرواية والمقال ووضع في حساباته كرامة الانسان وهمومه وتطلعاته، فقدم
الفقراء على غيرهم، وانتخى للمهمشين وتناولهم من خلال السرد الفني
الممزوج بسمات الذات ومعرفة الاكتساب والتجارب المستقاة من حيوات الناس
المزحومة بالحكايات العسيرة والمريرة في آن، فدبّج منها آلاما وأحزانا
وحِكَماً مرقومة بألواح مسرودة بصدق شاخص.
وهكذا دخل الكاتب عودة البطاط في حلبة الادب طريا وقويا في آن، فما
كان منه إلا أن يواصل سيرته بالخفاء وهو أمر لا يتعرض له سوى من يضع
الحق نصب عينيه ولا ينتهج التوفيقية التي تساير الظالمين ولا مصادر
ظلمهم أيا كان حجمه او نوعه، وكان الثمن باهضا كما هو متوقع، فقد عاش
البطاط وعائلته في حالة من التشرد والتنقل والاختفاء ولك أن تعرف حجم
المعاناة التي يواجهها الكاتب او الانسان عموما في ظروف كهذه.
وبعد أن زال الكابوس، إستعاد البطاط من جذوره البصرية حماسة الشباب
برغم تجاوزه الستين فابيضّ شعر رأسه وخبا بصره وخفّت نبرة الحماس
قليلا، لكن جذوة الابداع ظلت تلح عليه وتضغط بشدة لتشغيل ملكاته
الكتابية المتعددة كي تنبش خزينه المعرفي المتنوع أدبا وفلسفة ودينا،
وبدأ يكدّ ويتعب من جديد وراح يطبع الكتاب تلو الآخر بنسخ ربما تكون
محدودة في سباق غير عادل مع الزمن، إلا أن هذه الجهود تكفي لكي يصل
صوته الى الآخر ويخرج عن اطار الصمت او التهميش، فقدم لنا روايته
المشحونه بعبق السيرة الذاتية الموسومة بـ (الدوار) وقد حمل غلاف
الكتاب مختصرا عن فحواه، أخذه البطاط عن الحلاج، جاء فيه (هذا الكتاب/
الدائرة الاولى مشيئته/ والثانية حكمته/ والثالثة قدرته/ والرابعة
معلومته وأزليته/ والدائرة ما لها باب/ والنقطة التي في وسط الدائرة هي
الحقيقة).
كما قدم البطاط عددا من المجاميع القصصة ذات التوجه الانساني المفعم
بالوهج التنويري الصادق، إذ حاول أن يقتبس عددا من تجاربه في رحلة
الحياة لكي يسبكها في قوالب فنية سردية مؤثرة وفاعلة في آن، ومن هذه
المجاميع صدرت له قصص بعنوان (دموع وشموع) التي أهداها لأحد أعمدة
التحرر الانساني في العالم هو (ابراهام لنكولن/ محرر العبيد) في تمهيد
ناجح ومناسب لتهيئة القارئ في الدخول بعالم الرحمة الانسانية المزحومة
بالعذاب والظلم والطغيان السقيم.
ثم يستقي عودة البطاط محورا آخر من المحاور التي تضج بها الحياة حيث
العذاب والألم والضياع يكون على اشده، ففي مجموعته القصصية الموسومة بـ
(الضياع) يقدم البطاط عددا من قصصه المؤثرة ويضعها بين يدي القارئ
وينبّهه بكلمة مؤثرة يستهل بها كتابه هذا قائلا (كلما جاشت بي الآلام،
كنت أغور في الذاكرة أعمق وأبعد صوب أشرعة الطفولة الواغلة في الروح.
وتلك التي ما زالت تتعلق في الاحداق) ومن قصص هذه المجموعة (حلم على
ضفاف ديالى/ و من قتل الحب/ و الضياع/ و من المسؤول/ و تداعيات الألم/
و السفر) وهي قصص يجتمع ويتوحد في أجوائها ألم الانسان وأحزانه وأفراحه
المقصية بغض النظر عن كونه مسلوبا او سالبا.
وثمة كتب أخرى كثيرة لعودة البطاط مطبوعة أو لا تزال في صف الانتظار
!!، فهو يخوض في مجالات معرفية عديدة وكأنه يرغب بأن يحتوى جوهر
المعرفة ويضعه بين أيدي الناس كي يبصروا العالم بطريقة جديدة وصحيحة
فيفهمونه على حقيقته كي يعيشوا حياة أفضل بضوء الفكر المعرفي الخلاق،
وهكذا سنطَّلع على عدد من المقالات الادبية في كتاب آخر للبطاط يحمل
عنونا تراجيديا ومثيرا في آن وهو (بكائية الحياة) حيث يصبح البكاء
طريقا للحياة التي تستحق أن تعاش بديلا للقهر والتشرد والانحسار.
وأخيرا إن مساهمتي المتأخرة هذه في الكتابة عن بعض خلجات البطاط
جاءت تحت هاجس الشعور بالألم لما قد يعانيه المبدع من إغفال إعلامي او
نقدي بغض النظر عن القصدية في ذلك من عدمها، فهو في كل الاحوال يستحق
أن نمنحه القليل من أرواحنا لأنه منحنا روحه كلها في كتابات كثيرة
وأثيرة وصادقة.
|