هل يحق لاحد ان يفرض نفسه حاكما على الناس؟ بالتعيين مثلا او
بالوراثة او بالانقلاب العسكري والمؤامرات المسلحة؟ او بالامر الواقع
في اطار نظرية التمكن بالقوة، او ما يعرف بالنصوص التاريخية بنظرية
الدعوة الى النفس (الاستيلاء)؟.
وهل يحق لاحد ان يفرض رايه عليهم ويجبرهم على الاعتقاد بشئ لا يرونه
صحيحا أو مناسبا؟ او لا تستوعبه عقولهم، او لم يفكروا فيه بالاساس؟.
وهل يحق لاحد ان يجبر الناس على الايمان بما يؤمن به هو، او ان
يقسرهم على الاخذ برايه مهما كلف الثمن، او ان يحتكر الحقيقة فلا يقبل
من غيره رايا او حجة، ولا يسمح لاحد بالتفكير بطريقة مغايرة؟.
واخيرا، هل يحق لاحد ان يرهب الناس لاتخاذ موقف ما، او ان يسلبهم
حرية الارادة او حرية الاختيار، من خلال فرض نفسه كوصي عليهم بصفتهم
قاصرين لا يميزون بين الصالح والطالح من المصالح العامة، فيعاملهم
كالاطفال القصر او السفهاء الذين لا يجوز تسليمهم المال حتى يبلغوا
الحلم او يبرأوا من سفههم؟.
في ذكرى ولادته المباركة في الثالث عشر من شهر رجب الاصب، ساحاول ان
استنطق امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام، لاستشرف في كلامه
وخطبه ورسائله الاجوبة الصحيحة على تلك الاسئلة التي طالما شغلت الناس،
خاصة العرب والمسلمين، الذين ابتلوا بانظمة ديكتاتورية واستبدادية فرضت
نفسها على الانسان، المواطن، فرضا، تارة بالحديد والنار واخرى بالتضليل
وثالثة بالتقديس الديني المزور ورابعة بالترغيب وهكذا.
وان استنطاق امير المؤمنين يمر حتما من خلال آيات القران الكريم،
على اعتباره القرآن الناطق، من جهة، ولكونه التجسيد الحي لآياته
البينات من جهة آخرى، خاصة على صعيد الحكم وادارة الدولة.
فالقرآن الكريم يرفض، بشكل قاطع، كل انواع الاكراه والفرض والاجبار،
سواء في الايمان والدين او في الفكر والثقافة او حتى في السلطة، يقول
تعالى في الايات القرآنية التالية:
{ما على الرسول الا البلاغ} {ما على الرسول الا البلاغ المبين} {ومن
تولى فما ارسلناك عليهم حفيظا} {فان اعرضوا فما ارسلناك عليهم حفيظا} {فذكر
انما انت مذكر* لست عليهم بمسيطر} {ادع الى سبيل ربك بالحكومة والموعظة
الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن* ان ربك هو اعلم بمن ضل عن سبيله وهو
اعلم بالمهتدين} {لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي} {افانت
تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن
شاء فليكفر} {انا خلقنا الانسان من نطفة امشاج نبتليه فجعلناه سميعا
بصيرا* انا هديناه السبيل اما شاكرا واما كفورا} {قل يا ايها الكافرون*
لا اعبد ما تعبدون* ولا انتم عابدون ما اعبد* ولا انا عابد ما عبدتم*
ولا انتم عابدون ما اعبد* لكم دينكم ولي دين}.
شريطة ان يتحمل الانسان مسؤولية قراره {كل امرئ بما كسب رهين}.
ولقد رفض القران الكريم الطريقة العلمانية في اجبار الناس على
الايمان بشئ ما، بالقسر والارهاب وربما بالتقتيل والنفي وغير ذلك من
وسائل الارهاب لفرض الايمان القسري، كما يرفض القرآن الكريم فكرة
احتكار الحقيقة من لدن الحاكم مثلا، فايمان الانسان بفكرة ما لا يحتاج
الى اذن من احد، كما انه لا يتحقق بالقوة والاكراه:
{قال فرعون ما اريكم الا ما ارى وما اهديكم الا سبيل الرشاد} {قال
فرعون آمنتم به قبل ان آذن لكم ان هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا
منها اهلها فسوف تعلمون* لاقطعن ايديكم وارجلكم من خلاف ثم لاصلبنكم
اجمعين}.
وبمجموع هذه الايات وغيرها، يشرعن القرآن الكريم ضد الاستبداد بكل
اشكاله.
وتتجلى هذه المنظومة الفكرية الحضارية الراقية في مستويين:
الاول؛ في حرية الاختيار.
والثاني؛ في حرية التعبير.
على المستوى الاول، تتجلى الحرية في اختيار الحاكم والانتماء
للجماعة والمدرسة الفكرية والسياسية التي يراها الانسان مناسبة له اكثر
من سواها.
على المستوى الثاني، تتجلى الحرية في تبني السياسات العامة، القبول
او الرفض، المعارضة، الاعلام، والقول او اختيار السكوت، والتجمع
والتظاهر، وغير ذلك.
على الصعيد الاول، فان امير المؤمنين عليه السلام لم يفرض نفسه
حاكما على احد، فهو لم يسع الى السلطة بالقوة او بسلاح الميليشيات، على
الرغم من علمه ويقينه، وكذلك الناس جميعا، بانه احق الناس بها، وهو
القائل {لقد علمتم اني احق الناس بها من غيري} او في قوله بالخطبة
الشقشقية {اما والله لقد تقمصها فلان وانه ليعلم ان محلي منها محل
القطب من الرحا، ينحدر عني السيل، ولا يرقى الي الطير} او ما ورد في
كتاب له الى طلحة والزبير، مع عمران بن حصين الخزاعي {اما بعد، فقد
علمتما، وان كتمتما، اني لم ارد الناس حتى ارادوني، ولم ابايعهم حتى
بايعوني، وانكما ممن ارادني وبايعني، وان العامة لم تبايعني لسلطان
غالب، ولا لعرض حاضر} وانما سعت اليه السلطة فقبلها استجابة لموقف
الراي العام الذي لم يجد في غيره اهلا لها، وهو القائل يصف الموقف {فما
راعني الا والناس كعرف الضبع الي، ينثالون علي من كل جانب، حتى لقد وطئ
الحسنان، وشق عطفاي، مجتمعين حولي كربيضة الغنم} او في قوله يصف ما جرى
بالبيعة العامة {وبسطتم يدي فكففتها، ومددتموها فقبضتها، ثم تداككتم
علي تداك الابل الهيم على حياضها يوم وردها، حتى انقطعت النعل، وسقط
الرداء، ووطئ الضعيف، وبلغ من سرور الناس ببيعتهم اياي ان ابتهج بها
الصغير، وهدج اليها الكبير، وتحامل نحوها العليل، وحسرت اليها الكعاب}
ففي راي الامام ان اغتصاب السلطة او فرض الحاكم نفسه على الناس من دون
تفويض او قبول يعد منقصة لحاكمية الانسان، مرفوضة بكل المعايير الدينية
والعقلية والمنطقية.
وقبل ذلك، فهو عليه السلام عندما اعطى البيعة للخلفاء الذين سبقوه
كان صادقا في بيعته التي حقق بها المصلحة العامة وهو القائل {وطفقت
ارتئي بين ان اصول بيد جذاك، او اصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير،
ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه} او في كلامه من كتاب
له عليه السلام الى اهل مصر، مع مالك الاشتر لما ولاه امارتها {اما بعد،
فان الله سبحانه بعث محمدا، صلى الله عليه وآله وسلم، نذيرا للعالمين،
ومهيمنا على المرسلين، فلما مضى عليه السلام تنازع المسلمون الامر من
بعده، فوالله ما كان يلقى في روعي، ولا يخطر ببالي، ان العرب تزعج هذا
الامر من بعده، صلى الله عليه وآله وسلم، عن اهل بيته، ولا انهم منحوه
عني من بعده، فما راعني الا انثيال الناس على فلان يبايعونه، فامسكت
يدي حتى رايت راجعة الناس قد رجعت عن الاسلام، يدعون الى محق دين محمد،
صلى الله عليه وآله وسلم، فخشيت ان لم انصر الاسلام واهله ان ارى فيه
ثلما او هدما، تكون المصيبة به علي اعظم من فوت ولايتكم التي انما هي
متاع ايام قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السراب، او كما يتقشع
السحاب، فنهضت في تلك الاحداث حتى زاح الباطل وزهق، واطمأن الدين
وتنهنه} لان البيعة في قاموسه عهد، والعهد امانة والتزام ومسؤولية،
اولم يقل القرآن الكريم {واوفوا بالعقود} و {ان العهد كان مسؤولا}؟ وهو
القائل عليه السلام {ان الوفاء توأم الصدق، ولا اعلم جنة اوقى منه}؟.
ولقد تجلى صدق امير المؤمنين عليه السلام في الالتزام بالبيعة من
خلال ما كان يبذله للخلفاء من مشورة كان يصب فيها عصارة فهمه وعلمه
وأحسن تجاربه وافضل آرائه واحسنها وادقها، والدليل على ذلك قول الخليفة
الثاني عمر بن الخطاب في عشرات المرات (لولا علي لهلك عمر) لمعرفته
افضل من غيره ان ما كان يستشير به علي عليه السلام كان من الخطورة
بمكان ان يقوده الى الهاوية والى الهلاك الحتمي لولا ان امير المؤمنين
كان يبذل له احسن الراي كلما استشاره، ولو ان الخليفة كان يشك في نصح
الامام ومشورته قيد انملة لما استشاره ابدا، ومن قول الخليفة يمكن ان
نتصور خطورة المواقف، التي كان يكفي كل واحد منها الى قلب نظام الحكم
بانقلاب عسكري مثلا او بالتآمر، لو كان المستشار غير امير المؤمنين،
وكذلك نتصور به حجم ثقة الخليفة بالامام.
فعندما استشاره في الخروج الى غزو الروم بنفسه، واخرى لقتال الفرس،
بذل له الامام افضل الراي عملا بالقاعدة التي تقول (المستشار مؤتمن)
قائلا له:
{انك متى تسر الى هذا العدو بنفسك، فتلقهم فتنكب، بضم التاء، لا تكن
للمسلمين كانفة دون اقصى بلادهم، ليس بعدك مرجع يرجعون اليه، فابعث
اليهم رجلا محربا، بكسر الميم وسكون الحاء، واحفز معه اهل البلاء
والنصيحة، فان اظهر الله فذاك ما تحب، وان تكن الاخرى، كنت ردأ للناس،
ومثابة للمسلمين}.
وانا اجزم انه لو كان غير امير المؤمنين قد استشاره الخليفة بمثل
هذا الامر وفي مثل هذا الموقف والظرف، لشجعه على قيادة الجيش بنفسه
ليخلو له الجو فيستغل غياب الخليفة عن عاصمة البلاد ليقود ضده انقلابا
عسكريا يطيح به وبسلطته، كما فعل كثيرون من (الخلفاء وامراء المؤمنين)
في طول البلاد وعرضها، عندما كان الابن ينقلب على ابيه والاخ على اخيه،
كان آخرها انقلاب الابن الشيخ حمد امير قطر الحالي على ملك ابيه الذي
كان في رحلة استجمام خارج (الدولة) ولقد راينا كيف ان معاوية بن ابي
سفيان رفض راي عمرو بن العاص ومشورته عندما اشار عليه بقبول عرض الامام
في معركة صفين والداعي الى مناجزته وجها لوجه وترك الناس وشانهم، لحقن
دماء المسلمين وعدم جر الامة الى قتال، هذا العرض الذي تقدم به امير
المؤمنين لمعاوية في رسالة بعثها اليه يقول فيها {وقد دعوت الى الحرب،
فدع الناس جانبا واخرج الي، واعف الفريقين من القتال، لتعلم اينا
المرين على قلبه، والمغطى على بصره، فانا ابو حسن قاتل جدك واخيك وخالك
شدخا يوم بدر، وذلك السيف معي، وبذلك القلب القى عدوي، ما استبدلت دينا،
ولا استحدثت نبيا، واني لعلى المنهاج الذي تركتموه طائعين، ودخلتم فيه
مكرهين} فعندما اشار عمرو على معاوية بقوله (لقد انصفك الرجل، فليس له
احد غيرك، واعلم انك ان نكلت عنه لم تزل سبة عليك وعلى عقبك ما بقي
عربي) رد عليه معاوية مشككا بنوايا وزيره (المؤتمن) عمرو بن العاص
قائلا (ما غششتني مذ نصحتني الا في هذا الموقف، وانت تعرف من هو، الا
ان تخرج له انت) ثم اضاف (يا عمرو ليس مثلي يخدع نفسه، والله ما بارز
ابن ابي طالب رجلا قط الا سقى الارض من دمه) ثم تلاحيا وعزم معاوية على
عمرو ليخرجن الى علي، ان كان جادا في نصحه، ولم يكن مغررا به طمعا في
مآل امره، يعني السلطة) فكان ما كان من (بطل العروبة والاسلام) عمرو بن
العاص، عندما رمى بنفسه من على ظهر فرسه رافعا ثوبه كاشفا عن عورته
للامام، الذي عفى عنه ولم يقتله قائلا له {اذهب، انت عتيق عورتك}.
ذات الحال مارسه امير المؤمنين عليه السلام مع الخليفة الثالث عثمان
بن عفان، الذي سعى عليه السلام لينصحه فيجنبه مهاوي الهلكة، الا ان
اعتماد الخليفة على وزراء ومستشارين سيئين، وتاثيرهم الروحي وتاثير
القربى عليه، هو الذي انتهى به الى ما انتهى اليه من فتنة كبرى قادت
الامة الى مصائب جمة.
فلما اجتمع الناس اليه عليه السلام وشكوا ما نقموه على عثمان وسالوه
مخاطبته لهم واستعتابه لهم، دخل عليه السلام على الخليفة فقال له من
بين ما قاله في كلام طويل {فالله الله في نفسك، فانك، والله، ما تبصر
من عمى، ولا تعلم من جهل، وان الطرق لواضحة، وان اعلام الدين لقائمة،
فاعلم ان افضل عباد الله عند الله امام عادل، هدي وهدى، فاقام سنة
معلومة، وامات بدعة مجهولة، وان السنن لنيرة، لها اعلام، وان البدع
لظاهرة، لها اعلام، وان شر الناس عند الله امام جائر ضل وضل، بضم الضاد،
به، فامات سنة ماخوذة، واحيا بدعة متروكة، واني سمعت رسول الله، صلى
الله عليه وآله، يقول: ((يؤتى يوم القيامة بالامام الجائر وليس معه
نصير ولا عاذر، فيلقى في نار جهنم، فيدور فيها كما تدور الرحى، ثم
يرتبط في قعرها)) واني انشدك الله الا تكون امام هذه الامة المقتول،
فانه كان يقال: يقتل في هذه الامة امام يفتح عليها القتل والقتال الى
يوم القيامة، ويلبس امورها عليها، ويبث الفتن فيها، فلا يبصرون الحق من
الباطل، يموجون فيها موجا، ويمرجون فيها مرجا، فلا تكونن لمروان سيقة،
بتشديد الياء وكسرها، يسوقك حيث شاء بعد جلال السن وتقضي العمر}.
ولشدة اخلاص الامام واحترامه لعهوده ومواثيقه وحرصه على الامة وخوفه
من الفتنة عليها، فقد وصف علاقته مرة بالخليفة الثالث بقوله لعبد الله
بن عباس، وقد جاءه برسالة من عثمان، وهو محصور يساله فيها الخروج الى
ماله بينبع، ليقل هتف الناس باسمه للخلافة، بعد ان كان ساله مثل ذلك من
قبل، فقال عليه السلام:
{يا بن عباس، ما يريد عثمان الا ان يجعلني جملا ناضحا بالغرب، اقبل
وادبر، بعث الي ان اخرج، ثم بعث الي ان اقدم، ثم هو الان يبعث الي ان
اخرج، والله لقد دفعت عنه حتى خشيت ان اكون آثما}.
وان اعظم ما انجزه الامام عليه السلام على مستوى حاكمية الانسان،
المواطن، في الدولة الاسلامية، هو انه شرعن المعارضة للحاكم، من خلال
احترامه لها وحمايتها وعدم المساس بها، فهو، مثلا:
اولا: لم يمنع معارض من السفر كما فعل الخليفة الاول، بمعنى آخر،
انه لم يحجر على معارض فيفرض عليه الاقامة الجبرية في منزله او في
مدينته، لمجرد انه يعارض الحاكم، او ان تعلم السلطة او تتوقع منه غدرا
او مؤامرة، فعندما اراد طلحة والزبير ان يغادرا المدينة المنورة الى
مكة المكرمة، بعد ان فرض عليهما الحكم الاقامة الجبرية مدة مديدة،
استاذنا الامام، وهو الخليفة الحاكم الذي بايعه الاثنان كبقية المسلمين
من المهاجرين والانصار، بحجة انهما يريدان اداء مناسك العمرة، فاذن
لهما الامام وهو يعرف جيدا ما يبيتان من مؤامرة يجران فيها الامة الى
فتنة عمياء، معركة الجمل، قائلا لهما {والله ما تريدان العمرة وانما
تريدان الغدرة} واكتفى بان خوفهما بالله من التسرع الى الفتنة.
ثانيا: رفض ان يسقط الخوارج من ديوان العطاء، او ان يمنعهم من دخول
المسجد، بعد ان ثبت انهم يعارضون السلطة اشد المعارضة، وعندما قيل له:
(يا امير المؤمنين، ان بين اصحابك من يريد ان يتركك ويلتحق بالاعداء،
فماذا اعددت لذلك؟) فقال عليه السلام قولته المشهورة {اني لا آخذ على
التهمة ولا اعاقب على الظن}.
ولشدة حرص الامام على تعليم الناس فن المعارضة والتجرؤ على ابداء
الراي الاخر امام الحاكم، قال مرة للخريت بن راشد، الذي ظل يصر على
الامام ليقتل الخوارج او على الاقل ان يعتقلهم ويزج بهم في السجن حتى
قبل ان يبادروا الى شئ، بحجة انهم يتآمرون على الحكم، وان اثنين منهما
وهما عبد الله بن وهب وزيد بن الحصين الطائي، يقولان في الامام،
الحاكم، قولا لو ارتقى الى مسامعه لقتلهما او زجهما في السجن:
{اني مستشيرك فيهما فبماذا تشير؟} فاجابه الخريت: (اشير عليك ان
تستدعيهما وتضرب اعناقهما).
رفض الامام هذا الراي، قائلا بما معناه: لقد كان ينبغي لك ان تعلم
اني لا اقتل من لم يقاتلني ولم يظهر لي عداوة، كان ينبغي لك، لو انني
اردت قتلهم، ان تقول لي، اتق الله، فبم تستحل قتلهم ولم يقتلوا احدا
ولم ينابذوك ولم يخرجوا من طاعتك؟.
كما انه عليه السلام رفض ان يقاتلهم احد من بعده مبررا لهم مواقفهم
المعارضة للسلطة بقوله {لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحق
فاخطاه، كمن طلب الباطل فادركه} وكانه يريد ان يقول بان الخوارج عارضوا
السلطة ظنا منهم انهم على حق، ولذلك فان حالهم يختلف جذريا عن حال من
يعارض السلطة لينال الباطل بسهمه.
ثالثا: لم يمنع احدا من ابداء رايه وفي اي وقت يشاء، فهو لم يتخذ اي
قرار بقمع حرية التعبير بحجة الاحكام العرفية مثلا او حالة الطوارئ او
ما اشبه، فعندما تسور الاشعث بن قيس جدار مسجد الكوفة والامام واقف في
محراب الصلاة يلقي خطبتي الجمعة، اذا بالاشعث يقاطعه ويعارضه فهب اليه
عدد من اصحاب الامام وهموا باعتقاله والاعتداء عليه، فصاح بهم الامام
وامرهم بان يتركوه يكمل حديثه ويواصل كلامه، حتى اذا انتهى الاشعث من
حديثه عاد الامام يواصل خطبته بعد ان رد عليه بما يليق به ويستحقه.
وروي انه كان جالسا في اصحابه، فمرت بهم امراة جميلة، فرمقها القوم
بابصارهم، فقال عليه السلام:
{ان ابصار هذه الفحول طوامح، وان ذلك سبب هبابها، فاذا نظر احدكم
الى امراة تعجبه فليلامس اهله، فانما هي امراة كامراته} فقال رجل من
الخوارج (قاتله الله كافرا ما افقهه) فوثب القوم ليقتلوه، فقال عليه
السلام {رويدا، انما هو سب بسب، او عفو عن ذنب}.
وعند مسيره من الكوفة الى البصرة، كتب الى اهل الكوفة يقول:
{اما بعد، فاني خرجت من حيي هذا: اما ظالما، واما مظلوما، واما
باغيا، واما مبغيا عليه، واني اذكر الله من بلغه كتابي هذا لما نفر الي،
فان كنت محسنا اعانني، وان كنت مسيئا استعتبني}.
رابعا: وعندما ضربه عدو الله وعدوه ابن ملجم بالسيف في محراب الصلاة،
اوصى عليه السلام ولديه الحسن والحسين عليهما السلام وعموم بني هاشم
بقوله {يا بني عبد المطلب، لا الفينكم تخوضون دماء المسلمين خوضا،
تقولون: قتل امير المؤمنين، الا لا تقتلن بي الا قاتلي.
انظروا اذا انا مت من ضربته هذه، فاضربوه ضربة بضربة، ولا تمثلوا
بالرجل، فاني سمعت رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يقول: اياكم
والمثلة ولو بالكلب العقور}.
لقد سعى الامام بهذا الموقف الى ان يحاصر اثار الجريمة فلا يدعها
تنتشر في المجتمع فتثير الكراهية والحقد وروح الانتقام، وربما الحرب
الاهلية والطائفية، لان هذه كلها اشد خطرا على المجتمع من الجريمة
ذاتها، ولذلك حاصر الامام آثار الجريمة ورفض ان يخوض ولي الدم بدماء
الناس بحجة او باخرى.
خامسا: على الرغم من عظم المعاناة التي عاناها الامام من مجتمعه
بسبب تمرده عليه تارة وعدم طاعته له اخرى، وعصيانه قراراته تارة ثالثة،
على الرغم من كل ذلك، الا ان التاريخ لم يسجل لنا اسم سجين سياسي او
سجين راي واحد في دولة الامام، ما يعني انه عليه السلام كان يحمي
المعارضة ويشجع على الراي والراي الاخر، كما انه لم يشا ان يقمع حرية
التعبير باي شكل من الاشكال.
لقد وصف الامام شدة معاناته اكثر من مرة، كقوله {ان كانت الرعايا
قبلي لتشكو حيف رعاتها، وانني اليوم لاشكو حيف رعيتي، كانني المقود وهم
القادة، او الموزوع وهم الوزعة} وكقوله {لو قد استوت قدماي من هذه
المداحض لغيرت اشياء} ومع كل ذلك لم يكن في دولة الامام سجن او معتقل
لمعارض، لان الحرية في نهج الامام قيمة عظيمة لا تتقدم عليها اية قيمة
اخرى.
سادسا: ولقد كان الامام عليه السلام يرفض البيعة من احد بالاكراه،
او ان يفرضها على احد، او ان يستغل ضعف الانسان او هزيمته ليفرض عليه
البيعة، ابدا، فعندما اخذ مروان بن الحكم اسيرا يوم الجمل، فاستشفع
الحسن والحسين عليهما السلام الى امير المؤمنين عليه السلام، فكلماه
فيه، فخلى سبيله، فقالا له: يبايعك يا امير المؤمنين؟ فقال عليه السلام
{او لم يبايعني بعد قتل عثمان؟ لا حاجة لي في بيعته، انها كف يهودية،
لو بايعني بكفه لغدر بسبته، اما ان له امرة كلعقة الكلب انفه، وهو ابو
الاكبش الاربعة، وستلقى الامة منه ومن ولده يوما احمر}.
سابعا: وهو عليه السلام كان يلزم الناس بما يلزموا به انفسهم، فهو
لم يحاول ان يشق صدورهم ليعرف حقيقة نواياهم، فليس في دولة الامام
محاكم تفتيش، انما كان ياخذهم على الظاهر، ولذلك كان يرفض منهم التبرير
بالتفسير الباطني لمواقفهم وآرائهم، فلقد تحدث عليه السلام عن الزبير
مرة قائلا {يزعم انه قد بايع بيده، ولم يبايع بقلبه، فقد اقر بالبيعة،
وادعى الوليجة، فليات عليها بامر يعرف، والا فليدخل فيما خرج منه}.
ثامنا: انه عليه السلام كان يؤسس لمعارضة حقيقية، فكان يرفض
المعارضة من اجل ابتزاز الحاكم او فرض الامر الواقع، ولذلك فهو عليه
السلام كان قد مارس المعارضة الايجابية في عهد الخلفاء الثلاثة، فلم
يكن ليتوانى عن قول الحق وان كان مرا على السلطة، او ان يسكت على باطل
وان كلفه الكثير، لان هدف المعارضة في نهج الامام هو الرقابة والمساءلة
والاصلاح، بعيدا عن الابتزاز لتحقيق المصالح الذاتية والانانية، اوليس
هو القائل لما عزموا على بيعة عثمان {لقد علمتم اني احق الناس بها من
غيري، ووالله لاسلمن ما سلمت امور المسلمين، ولم يكن فيها جور الا علي
خاصة، التماسا لاجر ذلك وفضله، وزهدا فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه}.
وتأسيسا على هذا النهج المعارض القويم، شجع الامام المعارضة
الحقيقية في عهده بالسلطة، فكان يرفض الابتزاز كلما سعت اليه المعارضة،
كما انه كان لا يتنازل عن حق تحت ضغط الامر الواقع، فلقد كلم مرة طلحة
والزبير بعد بيعته بالخلافة وقد عتبا عليه من تركه مشورتهما،
والاستعانة في الامور بهما، وقد احس منهم سعيهم لابتزازه وفرض الامر
الواقع عليه، قائلا {لقد نقمتما يسيرا، وارجاتما كثيرا، الا تخبراني،
اي شئ كان لكما فيه حق دفعتكما عنه؟ ام اي قسم استاثرت عليكما بهم؟ ام
اي حق رفعه الي احد من المسلمين ضعفت عنه؟ ام جهلته؟ ام اخطات بابه؟}.
ثم ختم عليه السلام حديثه معهما ملخصا فيه فلسفة المعارضة الحقيقية
ذات الجدوى، بقوله {رحم الله رجلا راى حقا فاعان عليه، او راى جورا
فرده، وكان عونا بالحق على صاحبه}.
ولقد كان عليه السلام يرفض البيعة من احد بثمن، بمعنى آخر، انه كان
يرفض الابتزاز والمحاصصة والمساومة، فلقد قال مرة يصف ذلك بقوله {ولم
يبايع حتى شرط ان يؤتيه على البيعة ثمنا، فلا ظفرت يد البائع، وخزيت
امانة المبتاع}.
تاسعا: رفض الامام مهنة صناعة الطاغوت التي تمارسها الامم، لان
الطاغوت يصادر حاكمية الانسان، حريته وارادته وخياراته، بعد ان يفرض
بدلا عنها حاكميته الفردية، في اطار الاستبداد الديني او السياسي.
ولقد راى الامام ان المديح باب هذه المهنة السيئة ولذلك كان يرفضه
رفضا قاطعا، ولقد سعى لان يستعيض عن المديح بتعليم الناس وتشجيعهم على
قول الحق وابداء الراي وحرية التعبير بلا خوف او وجل او تردد، فلقد خطب
الناس مرة بعد ان سمع من احدهم كلاما طويلا، يكثر فيه الثناء عليه،
ويذكر سمعه وطاعته له، قائلا {ان من حق من عظم جلال الله سبحانه في
نفسه، وجل موضعه من قلبه، ان يصغر عنده، لعظم ذلك، كل ما سواه، وان احق
من كان كذلك لمن عظمت نعمة الله عليه، ولطف احسانه اليه، فانه لم تعظم
نعمة الله على احد الا ازداد حق الله عليه عظما، وان من اسخف حالات
الولاة عند صالح الناس، ان يظن بهم حب الفخر، ويوضع امرهم على الكبر،
وقد كرهت ان يكون جال في ظنكم اني احب الاطراء، واستماع الثناء، ولست،
بحمد الله، كذلك، ولو كنت احب ان يقال ذلك لتركته انحطاطا لله سبحانه
عن تناول ما هو احق به من العظمة والكبرياء، وربما استحلى الناس الثناء
بعد البلاء، فلا تثنوا علي بجميل ثناء، لاخراجي نفسي الى الله سبحانه
واليكم من التقية، في حقوق لم افرغ من ادائها، وفرائض لابد من امضائها،
فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة، ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند
اهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنوا بي استثقالا في حق قيل
لي، ولا التماس اعظام لنفسي، فانه من استثقل الحق ان يقال له او العدل
ان يعرض عليه، كان العمل بهما اثقل عليه، فلا تكفوا عن مقالة بحق، او
مشورة بعدل}.
وبهذا النص يكون الامام قد اسس لمبدا الرقابة والنقد والمساءلة، بعد
ان الغى كل الممارسات السيئة التي تصنع من الحاكم طاغوتا يعبد من دون
الله تعالى، فيصادر حاكمية الانسان بتكميم الافواه وقمع حرية التعبير
والنقد، مثل المصانعة والمديح والثناء واسماع الحاكم ما يحب ان يسمعه
والغش عند المشورة وغير ذلك.
عاشرا: ولقد اسس الامام كذلك لمفهوم الحكومة المدنية والتي تعني في
نهجه عليه السلام:
الف؛ الالتزام بالقانون، الذي يجب ان يكون فوق الجميع، فليس من حق
الحاكم ان يتميز عن اي مواطن في الدولة، فضلا عن عائلته واقربائه
وزبانيته.
باء؛ المساواة في الحقوق، اذ لا يحق لاحد، حاكما كان ام محكوما، ان
يتميز عن الاخرين، فيتمتع بالفرص اكثر من غيره، او ان يتمتع بها ويحرم
الاخرين منها، او ان يحتكرها لجماعته فحسب.
جيم؛ المساواة في الواجبات، فلا يحق للحاكم ان يطالب الناس
بواجباتهم فيما يسعى هو للتملص او التهرب منها.
وانا شخصيا لا اعرف حاكما تحدث عن حقوق المواطنين وواجبات السلطة
كما فعل الامام عليه السلام، وهي بالتاكيد دليل على حرص الامام لتكريس
مبدا حاكمية الانسان، المواطن، في ظل حكومته.
انه عليه السلام اسس لمفهوم حضاري في غاية الاهمية تتلخص فلسفته في
ان السلطة التي تنشد بناء المواطن الصالح الذي يتحمل واجباته ازاء بلده
وشعبه والسلطة الحاكمة، عليها اولا ان تصنع منه المواطن الواعي العارف
بالامور غير الجاهل بالقضايا العامة، ومن اجل ذلك فان عليها ان لا تحجب
عنه المعلومة الصحيحة التي لا تصيبه بالعمى والجهل، كما ان عليها ان
تطلعه على حقوقه كاملة ليعرف كيف يتصرف ويتعامل مع الامور.
كيف يمكننا ان نبني المواطن الصالح اذا كان الحاكم يستغفله ويستخف
بعقله ويقصر في تعليمه؟ وكيف يمكننا صناعته اذا كانت السلطة تحجب عنه
المعلومة الصحيحة بحجج واعذار شتى؟ وتاليا، كيف يمكن ان ننتظر من مثل
هذا المواطن ان يتحمل المسؤولية وواجباته ازاء وطنه ومجتمعه، وهو الذي
لا يميز بين الحقوق والواجبات، او انه لا يعرف حقوقه ولم يسمع الا حديث
السلطة عن حقوقها وواجبات المواطن؟.
لقد حرص الامام عليه السلام على ان:
اولا: يعلم المواطنين حقوقهم وواجباتهم كاملة غير منقوصة، فقال عليه
السلام اكثر من مرة {ايها الناس، ان لي عليكم حقا، ولكم علي حق، فاما
حقكم علي فالنصيحة لكم، وتوفير فيئكم عليكم، وتعليمكم كيلا تجهلوا،
وتاديبكم كيما تعلموا، واما حقي عليكم، فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في
المشهد والمغيب، والاجابة حين ادعوكم، والطاعة حين آمركم}.
وفي هذا النص:
الف: جاء الخطاب للناس وليس لفئة اجتماعية دون اخرى، ما يشير الى
تبني الامام لمفهوم الحكومة المدنية التي يتساوى فيها الجميع في الحقوق
والواجبات.
باء: قدم حقوق الناس على حقوق الحاكم، ما يشير الى ان بناء الدولة
يبدا من المجتمع وليس من السلطة، وان الاخيرة لا يحق لها ان تحاسب
الناس او ان تنتظر منهم التزاما أو وفاءا ما لم يتمتعوا بحقوقهم اولا.
ثانيا: ايصال المعلومة الصحيحة الى الناس فلا يعمي عليهم الخبر او
يطمس عنهم الحقيقة ابدا، بل انه لخص مرة سبب الطاعة العمياء التي عرف
بها جيش الشام لصاحبهم، معاوية بن ابي سفيان، بقوله عليه السلام {الا
وان معاوية قاد لمة من الغواة، وعمس عليهم الخبر، حتى جعلوا نحورهم
اغراض المنية}.
ولذلك نرى اليوم كيف ان جماعات العنف والارهاب تستغفل المغرر بهم
بالتضليل واخفاء الحقيقة قبل ان تتكمن من تجنيدهم لتنفيذ اعمالهم
الارهابية الدموية والتخريبية، لان الواعي لا ينفذ مثل هذه الاعمال
الاجرامية، وان الصاحي الذي يمتلك عقله وارادته لا يمكن ان ينخرط بمثل
هذه الجماعات الدموية التي تسعى لقتل الحياة والانسان.
ان اعتماد الامام على هذين الامرين، هو من اجل ان يكون المواطن في
دولته على بينة من امره ليختار بارادة حرة، فاذا اختار كذلك تحمل
المسؤولية كاملة، وعندها فقط يمكن للحاكم ان يحاسبه على خياره، فيجزيه
الجزاء الاوفى اذا كان صحيحا وسليما، او ان يعاقبه اذا كان مخطئا
ومسيئا.
بل انه عليه السلام كان يحث على الصراحة والوضوح والشفافية في
العلاقة بين السلطة والناس، فلقد اوصى بذلك وزيره مالك الاشتر النخعي
لما ولاه مصر، بقوله عليه السلام:
{وان ظنت الرعية بك حيفا فاصحر لهم بعذرك، واعدل عنك ظنونك باصحارك،
فان في ذلك رياضة منك لنفسك، ورفقا برعيتك، واعذارا تبلغ به حاجتك من
تقويمهم على الحق}.
[email protected] |