وظيفة القضاء تكمن في حصول الأفراد على حقوقهم من خلال تطبيق
القانون بالوسائل القانونية، والقضاء لم يكن الوسيلة الأولى التي
أبدعها العقل الإنساني، وإنما كان مرحلة متقدمة من عملية تطور
المجتمعات وتقدم الفكر الإنساني، وحتمية التطور تؤكد إن وسائل فض
الخصومات أو حل النزاعات سوف لن تقف عند القضاء، وإنما ستظهر وسائل
بديلة، تتصف بالسرعة في الانجاز والقلة في الكلفة والنسبية في وفرة
العدالة.
وبوادر ذلك ظهرت عبر البدائل القضائية أمام القضاء المتمثلة بوسائل
فض النزاعات قبل الخصومة ومنها التحكيم والتوسط والتوافق، وفي العراق
لازال القضاء مثلما هو معمول به في كل دول العالم هو الجهة التي تفصل
في النزاعات حتى التي تخضع لطرق فض المنازعات البديلة، حيث يعتبر قانون
المرافعات المدنية العراقي النافذ رقم (83) لسنة 1969 المعدل هو المرجع
في بيان طرق فض الخصومة وهذا القانون صدر وهو يعبر عن فلسفة الأنظمة
التي تعتمد المركزية في الإدارة والهيمنة على كل السلطات التي تصل إلى
حد الدكتاتورية، مما لا يتيح لأي وسيلة خارج نطاق القضاء أن تكون فاعلة.
وبما أن القوانين وجدت لخدمة المجتمع وان تتناسب مع حاجاته وهي
وسيلة المواطن في الوصول إلى العدالة، التي يقصد بها العدالة الشاملة
الممثلة بتمكين المواطن من الحصول على كافة حقوقه القانونية والسياسية
والاقتصادية والثقافية وسواها وليس العدالة القضائية فحسب، وعلى وفق
قول معالي رئيس مجلس القضاء الأعلى في العراق القاضي مدحت المحمود،
وأنا ممن يعتقد بتلك العقيدة في تعريف العدالة، وبما إن العدالة
القضائية هي الجزء الفاعل في منظومة العدالة الشاملة، كان لابد وان
نفكر في كيفية تمكين المواطن من ممارسة حقه في وجود عدالة قضائية تمكنه
من ممارسة بقية حقوقه الدستورية والطبيعية.
ويعلم الجميع إن الظروف التي مر بها العراق وضعت عراقيل عدة في
طريق الوصول إلى العدالة، لذلك كان لابد من توصيل العدالة إلى المواطن
إن تعذر عليه الوصول إليها, وواحدة من هذه السبل ما عمل به مجلس القضاء
الأعلى في التوسع الأفقي في إنشاء المحاكم على مستوى الرقعة الجغرافية
في العراق والذي ساهم كثيرا في تذليل معوقات الوصول إلى العدالة، إلا
انه غير كافي، إذ توجد معرقلات أخرى لا تتمثل في البنية التحتية وإنما
في وجود التشريعات المعوقة أو المفاهيم الاجتماعية السائدة والمستوى
التعليمي للمواطن وسواها من معوقات.
وعلى مستوى القضاء فانه بموجب القوانين النافذة، لا يعمل على تحقيق
العدالة وان كانت نسبية، إلا بناء على طلب يقدم إليه من الشخص الذي يظن
بان حقوقه تعرضت إلى الاعتداء وعلى وفق نص المادة (2) من قانون
المرافعات العراقي النافذ التي تنص على إن ( الدعوى طلب شخص حقه أمام
القضاء)، وتبدأ سلسلة الإجراءات التي رسمها القانون للسير في الدعوى
التي تمتد لزمن غير قليل في اغلب الأحيان مما يسهم في عرقلة المواطن من
الحصول على حقه، ويضطر المواطن أحيانا إلى اللجوء لوسائل أخرى قد تنقص
من حقوقه.
كما إن الكلفة الاقتصادية تكون غالباً عالية لهذه العملية، منذ أن
يفكر في اللجوء إلى القضاء مرورا بالمرافعات ومراحل التقاضي وانتهاءً
بتنفيذ الأحكام القضائية في دوائر التنفيذ، مما يثقل ويرهق كاهل
المتقاضين، ويكون سبب آخر في عزوف المواطن عن المطالبة بحقوقه عبر
الوسائل القانونية والقضائية، فهو حينما يفكر في إقامة الدعوى يضطر إلى
الذهاب لمختص في الشؤون القانونية لإعانته وتقديم المشورة، وهذه لا تتم
إلا بمقابل كلف مالية، وبعد الدخول في المعترك القضائي يدفع الرسوم ثم
تبدأ مراحل أخرى تشكل عبء مالي كبير، مثل توكيل محام عنه ودفع أجور
ومصاريف للخبراء، الكشوفات والمعاينة وما يستوجب إجراءه من المحكمة في
سعيها للوصول إلى العدالة، وحتى بعد انتهاء المرافعات وصدور قرار الحكم
وصيرورته قابلا للتنفيذ سوف يدفع المواطن كلف إضافية من اجل التنفيذ،
وهذه تشكل أحيانا أرقام مؤثرة على ميزانية الفرد العادي، لأنها تصل إلى
مبالغ تحسب بالملايين من الدنانير، وهذه الكلف والمصاريف تتجسد في
ثلاثة أنواع وعلى وفق ما يلي:ـ
1. الرسوم التي تدفع عند إقامة الدعوى والتي تسجل إيرادا إلى حزينة
الدولة وهي عبارة عن أجور التقاضي والمقررة بموجب قانون الرسوم العدلية
رقم (114) لسنة 1981 المعدل، وهذه تكاد لا تشكل عائق كبير بوجه المواطن
لان الدعوى مهما بلغت قيمتها وان كانت بالمليارات فان رسمها لا يتعدى (
عشرون ألف دينار) وبعض الدعاوى معفاة من الرسم، مثل بعض من دعاوى
الأحوال الشخصية المتعلقة بالأسرة، كذلك رسم الدعوى أمام أعلى محكمة في
العراق ( المحكمة الاتحادية العليا) لا يتعدى ( ألف دينار فقط)،
2. المصاريف والأجور التي تدفع بموجب قرارات قضائية، وهي التي تقرر
المحكمة إلزام الخصوم بدفعها أثناء نظر الدعوى، مثل أجور الخبراء وأجور
الكشف والمعاينة والمضاهاة وسواها من الإجراءات، التي ترى المحكمة
ضرورة لإجرائها من اجل الوصول إلى الحكم العادل، وهذه تصل أرقام لا
يستهان بها تتعدى المليون أحيانا،
3. المصاريف الخارجية التي يدفعها الخصوم مثل أجور المحامين
والمستشارين وكلف النقل وإجراءات التنفيذ وغيرها، ويدخل من ضمنها تعطل
مصالح الخصوم أثناء الحضور إلى المرافعات، مما يشكل نقصا في مواردهم،
إن كانوا من القطاع الخاص أو تعطيل المصالح العامة إن كانوا من منتسبي
القطاع العام، وهذه الكلف المالية بمجملها تشكل العائق الرئيسي في
تعطيل وتعويق طريق المواطن في الوصول إلى العدالة إضافة إلى المعرقلات
الأخرى.
وعند التبصر والبحث في هذه المعضلة نجد أن أسبابها كثيرة ومتعددة
منها ما يلي:ـ
1. انتشار الفقر في العراق وعلى وفق الإحصائيات والدراسات المختصة
ومنها الإستراتيجية الوطنية للحد من ظاهرة الفقر في العراق
2. كثرة الإجراءات التي تتطلبها القوانين والتشريعات النافذة، والتي
تضع المواطن دائما في جهة الاتهام وتجعل منه متهم بقول غير الحقيقة،
وذلك على وفق مطالبته بصحة صدور ما يقدم من مستندات فنفترض فيه سوء
النية والتزوير سلفا، وهذه خلقت عبء كبير على المواطن، والبعض يبرر ذلك
بكثرة التزوير واستعمال المحرر المزور، وارى في هذا التبرير هو تحميل
المواطن فشل الدولة في حماية مستنداتها الرسمية من التزوير وعدم قدرتها
على محاربة المزورين ومكافحة جرائم التزوير.
3. الروتين الذي يعتري الدوائر العدلية والقضائية والوزارات الأخرى
وعدم توفر الجدية لديها في تبسيط الشكلية وتقليص الروتين.
4. عدم وجود بدائل قانونية تعمل على حل المنازعات والخصومة بين
الأفراد خارج نطاق التقاضي ورفع الدعاوى، مثل مراكز وبيوتات التحكيم أو
مكاتب الوساطة الأسرية او غيرها مما يعمل به في بعض البلدان المجاورة،
على ان تكون تحت رقابة القضاء من اجل ضمان عدم خرق المبادئ الأساسية
لحقوق الأفراد التي اقرها الدستور والقوانين النافذة.
وهذه الأسباب التي أوردتها لا تشكل جميع أسباب المشكلة، وإنما بعض
منها وتوجد أخرى غيرها قد لا يتسع المقام لذكرها , وتعد هذه من أهم
أسباب نشوء معرقلات وصول المواطن العدالة، لذلك أرى أن تتم المعالجة
تجاه هذه الظاهرة بتوحيد الجهود من الجميع سواء على المستوى الشعبي أو
الرسمي، وأقدم مقترحات قد تسهم في فتح مغاليق حل المشاكل تجاه توصيل
العدالة إلى المواطن بدلا من السعي نحوها لاهثا في ظل أجواء الروتين
والتعقيد الإجرائي وثقافة تعطيل المصالح لدى البعض والسلوك المتعالي من
قبل بعض العاملين في الدوائر العدلية والقضائية تجاه المواطن, وأجمل
هذه المقترحات بما يلي:ـ
1. إنشاء مكاتب استشارية وبرعاية الدولة والمنظمات الإنسانية والدول
المانحة، تكون بديلا ميسرا للمواطن في اللجوء إليها عند استشعاره
الحاجة للخبرة القانونية , ويفضل أن تكون هذه المكاتب مكونة من محامين
متطوعين للعمل فيها أو يتم التعاقد معهم بمقابل أجور معينة تمولها
الجهات المالية الرسمية أو الشعبية، وتقدم هذه الخدمة إما مجانا أو
بمقابل أجور رمزية، وارى من النافع أن تكون تحت إشراف قضاة متقاعدون
لان هؤلاء يملكون الخبرة في العمل الفضائي من الممكن أن ننتفع بها في
تقديم المشورة القانونية الصحيحة للمواطن، كذلك في تدريب المحامون
الشباب من خلال الإطلاع والتفاعل معها أثناء مناقشة مشاكل المواطنين.
2. تبسيط الإجراءات الإدارية والقضائية، من خلال اختزال الخطوات
وتبسيط الإجراءات وتقليل المخاطبات الورقية والعمل على ربط الدوائر ذات
العلاقة بشبكة اتصال الكتروني يمكن للموظف أو القاضي من التحقق من
الأوراق المبرزة أو المطلوبة عبر البريد الالكتروني، ودون الحاجة إلى
إرسال المواطن إلى تلك الدوائر ومن ثم التشكيك بصحة المعلومة أو
الوثيقة التي أبرزها، كما ستقلل من حالات الرشوة.
3. العمل الجاد نحو تأسيس الحكومة الالكترونية والعمل بأسلوب
النافذة الواحدة.
4. اعتماد أسلوب فض المنازعات قبل مرحلة الخصومة القضائية، وتفعيل
الآليات البديلة للعمل القضائي، ومنها التحكيم بين المتخاصمين، ويكون
ذلك بتعديل قانون المرافعات المدنية النافذ رقم (83) لسنة 1969 المعدل
وصياغته بما ينسجم والتطورات التي حصلت في العالم على مستوى قواعد
التحكيم الداخلي والدولي، والعمل على الاجتهاد في إيجاد الوسائل
البديلة مثلما فعل مجلس القضاء الأعلى، باعتماد أسلوب البحث الاجتماعي
قبل مرحلة الخصومة بين المتخاصمين، التي حققت نتائج كبيرة ومهمة في فض
المنازعات الأسرية بأسرع وقت واقل كلفة، علما إن التجربة في مراحلها
الأولى ونأمل ان تحقق قدر اكبر من الإنجاز بعد أن طور الكادر وتم
تعزيزه بأهل الاختصاص من علم الاجتماع والنفس وغيرها من العلوم ذات
الصلة وشكلت له هيأة مستقلة مرتبطة بمجلس القضاء الأعلى.
5. تفعيل دور منظمات المجتمع المدني في المساهمة بفض المنازعات من
خلال إيجاد تشريع يمكنها من ممارسة هذا الدور وخصوصا في المنازعات
الأسرية، إذ تمكن مجلس القضاء الأعلى بتحقيق نتائج تشكل نواة لنجاح
فكرة التعاون مع منظمات المجتمع المدني في فض المنازعات الأسرية وخصوصا
في المناطق الريفية، اذ وجد لها ملعب أرحب من غيره لتقبله من قبل
الأفراد، وكون هذه المنظمات تعمل على دور الوساطة وتقريب وجهات النظر
بين الأطراف من قبل أعضاء هذه المنظمات المعروفين من قبل أبناء تلك
المناطق، وهي مقاربة لفكرة العمل العشائري في التوسط لحل المنازعات
التي ما زالت تشكل العنصر الفاعل في فض النزاع في الجرائم والجنايات.
6. تفعيل العمل بصندوق النفقة المؤقتة المشكل بموجب قرار مجلس قيادة
الثورة المنحل رقم 253 في 1980 والمناطة مهامه بوزارة العدل إذ ورد في
نص الفقرة (2) من القرار المذكور ما يلي ((يؤسس في وزارة العدل صندوق
يسمى (صندوق النفقات المؤقتة) يمول من الميزانية العامة، تكون مهمته
تسليف المحكوم لهم بنفقة مؤقتة، وفقاً لأحكام هذا القرار))، وهذا
الصندوق لو فعل فانه سيوفر على الأسرة والزوجة والأولاد عند حصولهم على
قرار قضائي بنفقة لها أو لأولادها عناء السعي تحت إجراءات عقيمة وغير
منتجة تدفع بالكثير منهم إلى ترك المطالبة بحقوقهم , إذ أن فكرة هذا
الصندوق تتمثل بصرف مبلغ النفقة للزوجة وأولادها الذين قدرت لهم بموجب
قرار قضائي من الصندوق مباشرة ومن ثم متابعة تحصيل المبلغ من الزوج
المدين عبر مخاطبة دائرته بقطع المبلغ واستحصاله لمصلحة الصندوق وهذا
لا يشكل أي عبء على الخزينة العامة لان المبالغ المدفوعة سيتم
استحصالها من المدين وعلى وفق نص الفقرة (7) من القرار المذكور على ما
يلي ((تعتبر سلفة النفقة المؤقتة، التي تدفع الى المحكوم له من الصندوق،
ديناً ممتازاً، تتولى دائرة التنفيذ استرداده، وفقاً لأحكام قانون
التنفيذ )).
7. التأكيد على الثقافة القانونية ونشر الإعلام القانوني من اجل
إتاحة الفرصة للمواطن للإطلاع على حقوقه القانونية، وذلك عبر الإكثار
من البرامج التلفزيونية التي تشرح النصوص القانونية وتجيب على رسائل
المواطنين وبأسلوب البرامج التفاعلية.
8. العمل على إيجاد جهات راعية لتفعيل برامج التوعية القانونية
والقضائية، وتناط مهامها بمنظمات المجتمع المدني لأنها الأقرب إلى
المواطن والأبعد عن الروتين الحكومي القاتل.
9. تقنين أسلوب فض المنازعات بالطرق العرفية ومنها أسلوب الفصل
العشائري بجعله ذو أثر في فض النزاع وعبر تطوير النص القانوني النافذ
وتحت إشراف هيئات قضائية ومعاملته معاملة الصلح الذي ينهي الخصومة
ويفصل في النزاع، على أن لا يتقاطع مع المصالح العليا للمجتمع، ويتم
ذلك عبر قانون يتم تشريعه من قبل مجلس النواب بمشورة الجهات ذات
العلاقة، قضائية وقانونية وتنفيذية وعشائرية.
10. تطوير قانون أصول المحاكمات الجزائية العراقي النافذ رقم (23)
لسنة1971المعدل، والتوسع في شمول عدد اكبر من الجرائم بمبدأ الصلح
وتوسيع سلطة الأفراد بالمصالحة وقبولها دون رهنها بقبول المحكمة وخصوصا
في الفصل الخامس من الباب الثالث في المواد (194 ـ 198) من قانون أصول
المحاكمات الجزائية رقم (23) لسنة 1971 المعدل.
تعديل جهات قبول الطعن في القرارات القضائية وخصوصا غير الحاسمة في
الدعوى ومنها الطعن بقرارات قاضي محكمة الأحوال الشخصية، التي يتم
تمييزها والطعن بها أمام محكمة التميز الاتحادية ومقرها في بغداد، حتى
وان صدر القرار في أي محكمة تقع في أقصى الجنوب أو الشمال في العراق،
مما يؤخر الحسم في الدعوى ويعرقل وصول طالب الحق إلى مطلبه، وان بعض
القرارات التي يتم تمييزها قرارات إعدادية مثل الاستئخار أو الإبطال او
انتخاب الخبير، وهي ذاتها التي يمارساها قاضي البداءة في نظره للدعوى
وتميز قراراته أمام محكمة الاستئناف التي يقع ضمن أعمالها وفي نفس
المنطقة مما يوفر على المواطن سرعة الإنجاز لان المحكمة الاستئناف في
البصرة سوف تنظر في الطعن في القرارات القضائية التي تصدر من محاكم
البصرة دون الحاجة إلى إرسالها إلى العاصمة بغداد وتأخذ مديات طويلة من
الزمن.
ومما تقدم أرى بان الحاجة ملحة وكبيرة للعمل تجاه تذليل العقبات
والمعوقات التي تحول دون وصل المواطن إلى حقه بأقصر الطرق واقل الكلف
وما عرضت إليه في ما تقدم لا يمثل إلا مفاتيح للوصول إلى أفكار وأراء
أكثر نضجا وأوسع فضاء تجاه السعي لتوصيل العدالة المواطن. |