في أهداف الدولة

الشيخ فاضل الصفّار

إن الأهداف التي تتوخاها الدولة تنقسم إلى أهداف وجودية، بمعنى الضرورات التي ينبغي أن تقوم لأجلها الدولة، وقد عرفنا بعضها مما تقدم،واهداف تنموية بمعنى تلك الأهداف التي ينبغي على الدولة ـ حتى تتسم بالشرعية الكاملة ـ أن ترعاها للمجتمع الذي تحكمه، وفي هذا الفصل نتعرض إليها في الجملة، فقد قامت الأدلة الأربعة، اي الكتاب والسنةً وإلاجماعً والعقل بل وفروع الأدلة الأربعة كالسيرة وبناء العقلاء ومرتكزات المتشرعة وما أشبه ذلك على وجوب أن تقصد الدولة الشرعية اهدافا أربعة هي:

ألاول: إرساء النظام في المجتمع؛ لأن به تحفظ الأموال والحقوق والنفوس والأعراض والدين التي هي من أهم المصالح الشرعية والعقلائية.

الثاني: حفظ العدل، وقد دل على وجوبه الأدلة الأربعة. أما العقل فلاستقلاله بحسن ذلك، وأما الشرع فلأنه قوام الرعية وجمال الولاة، وقد ورد الأمر به في جملة من الآيات والروايات كما في قوله سبحانه وتعالى: {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل}[1] وفي قوله سبحانه وتعالى: {اعدلوا هو أقرب للتقوى}[2] وكذا في قوله عز وجل: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان}.[3]

وأما الروايات فمتواترة، منها ما ورد عن مولانا جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام حيث قال: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لعمر بن الخطاب: ثلاث إن حفظتهن وعملت بهن كفتك ما سواهن، وإن تركتهن لم ينفعك شيء سواهن. قال: وما هي يا أبا الحسن؟ قال (عليه السلام): إقامة الحدود على القريب والبعيد، والحكم بكتاب الله في الرضا والسخط، والقسم بالعدل بين الأحمر والأسود. قال عمر: لعمري لقد أوجزت وأبلغت».[4]

وقد جسد الإمام (عليه السلام) في سيرته هذه التسوية بين الأفراد عملياً، وذلك لما حد النجاشي غضبت اليمانية لذلك، وكان أخصهم به طارق بن عبد الله بن كعب النهدي، فدخل عليه فقال: يا أمير المؤمنين، ما كنا نرى أن أهل المعصية والطاعة وأهل الفرقة والجماعة عند ولاة العدل ومعادن الفضل سيّان في الجزاء حتى رأينا ما كان من صنيعك بأخي الحارث، فأوغرت صدورنا، وشتت أمورنا، وحملتنا على الجادة التي كنا نرى أن سبيل من ركبها النار، فقال علي(عليه السلام): «وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين يا أخا نهد، وهل هو إلا رجل من المسلمين انتهك حرمة من حرم الله فأقمنا عليه حداً كان كفارته!! إن الله تعالى يقول: ولا يجرمنكم شنآن قوم على الا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى»[5] إلى غير ذلك من النصوص والأمثلة العملية على ذلك.

الثالث: توفير الرفاه للجميع بمقتضى كونه من أهم الغايات العقلائية التي ينبغي أن تتوخاها الدول، كون الدولة حامية لحقوق الناس ومتصرفة فيما لهم حق فيه من المال والثروة وفرص العمل.

الرابع: التقدم بالمجتمع إلى الأمام، وهذا هو مقتضى الارتكاز العقلائي في هدفية العقلاء في الأمور، وفي الروايات الشريفة «من لم يعرف زيادة في نفسه فهو في نقصان»[6] «ومن استوى يوماه فهو مغبون»[7] فيستقل العقل في الاول والثاني بالأولوية القطعية على لزوم التقدم وبذل الوسع في سبيله.

 ولا يخفى أن الشخصية الحقوقية للدولة قررها العقل والمنطق والدين، ولعل قوله سبحانه وتعالى: ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها[8] ونحوه يشير إلى ذلك، ومن هنا فإن اللازم على الدولة تحري الغرض الصالح لحفظ مصالح الأمة والتقدم بها إلى الأمام، وجعل القوة وسيلة للعدل والمساواة في موازينها العادلة، والغرض الصالح يتجلى في ثلاثة أمور:

اولها: كون الهدف مطابقا للعقل والمنطق، وفي الدولة الإسلامية أن يكون مطابقاً لموازين الإسلام، وذلك بأن تكون الدولة مراعية لموازين الحكمة، فتعمل بالحسن في كل الشؤون، وتجتنب القبيح، فيوجب عملها حفظ الأنفس والأعراض والأموال للكل، فلا استبداد ولا اعتباط ولا ترفيع أو تخفيض لفرد أو لجماعة من دون موازين، أو على حساب الآخرين، ومن خرج عن القانون العقلي والشرعي في الدولة المتشرعة عوقب بقدر خروجه بحسب ما يقتضيه العقل والشرع.

ثانيها: أن يتجه الهدف الصالح في الدولة لصالح المواطن، وذلك يظهر في:

1.   تأمين المأكل والمشرب والمسكن والملبس والمركب والدواء والزواج ونحوها من الحاجات المادية والنفسية.

2.  حفظ حقوقه بعدم تعدي الآخرين عليه، سواء كان المتعدي من الخارج كالدولة الأجنبية أو من الداخل كالسراق ومن إليهم.

3.  تهيئة وسائل الإنماء والتقدم بما يكفل النهوض به، فقد قال مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) في حكمة بعثة الأنبياء «ليثيروا لهم دفائن العقول»،«[9]» ويدل على ذلك كله بالإضافة إلى العقل جملة من الأدلة الشرعية، فإن خلاف ذلك تضييع للموازين، وقد ورد عن ابي عبد الله (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «ملعون، ملعون من ضيع من يعول»[10] وأنه خلاف الرعاية الواجبة، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»[11] وورد أيضاً: «من استوى يوماه فهو مغبون»[12] إلى غير ذلك.

بالإضافة إلى ما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من قوله: «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه»[13] فإن الظاهر أن المراد من علو الإسلام هو العلو بطبعه، فيشمل عدم ارتفاع حجة غيره عليه، ولزوم ترفيع ما يرتبط به، وتقدم الإسلام والمجتمع الإسلامي على غيره، وليس هذا من باب الجمع بين الأخبار والإنشاء حتى يقال: إن الجمع بينهما محال أو خلاف الظاهر فلا يصار إليه إلا بالقرينة، وإنما من باب شمول الإطلاق لكل هذه الموارد والمصاديق، مضافاً إلى الإشكال في أصل القول بعدم إمكان الجمع بين الإخبار والإنشاء على ما قرر في الأصول.

ثالثها: أن يتجه الهدف الصالح للدولة لصالح الجماعات أيضاً، سواء كانت جماعات سياسية أو اقتصادية أو ثقافية أو صحية أو غيرها، والدليل في هذا المقام هو ما تقدم في الثاني. نعم هناك فرق بين الإسلام وبين القوانين الوضعية في هذا الأمر، فإن الأصل في الإسلام هو الحرية المستفادة من مثل: «الناس مسلطون على أموالهم»[14] ولذا فلكل إنسان الحق في الانضمام إلى الآخرين لبناء الحياة وتقدمها، ولا يحد هذه الحرية إلا ما يوجب الضرر على الآخرين أو على النفس بما لا يجوز تحمله شرعا،ً أو على الشرع فيما حرم أو أوجب، فليس للدولة في نظر الإسلام التدخل في شؤون الأفراد، أو في شؤون الجماعات، أو وضع الدساتير والقوانين لها وتقييدها بقيود إطلاقاً.

 نعم إذا أخطأ فردها أو كل الجماعة حق للدولة إيقافها على المقرر الشرعي وذلك كالفرد، حيث إنه حر لا يقيد، وإذا ثبت خطؤه أوقف عند حده بحسب الموازين الشرعية، بينما القوانين الوضعية تقيد الجماعة بقيوداغلبها  منافية للحرية؛ ولذا كانت تلك القيود باطلة في نظر الشريعة، ولعله سيتنازل القانون الوضعي عن هذه القيود كلما يكتشف أخطاءها ومانعيتها لحرية البشر وحؤولها دون تقدمه.

 وكيف كان، فالدولة ينبغي أن تراعي القانون وحقوق الإنسان والعدالة والرفاهية وحسن التدبير ورعاية النظام وتقدم الأمة، وغيرها من المبادئ التي تتكون منها الدولة الصالحة، وتحظى بالمشروعية عند العقلاء وعند الشريعة، كما أنها ستكون بهذه المبادئ طريقاً لتقويم الأمة الرشيدة الصالحة المتقدمة في الحياة.

 وهنا مسائل:

المسألة الأولى: في وجوب تطبيق القانون

على الدولة أن تطبق نصوص القانون على الأمة ولا تحيد عنها إرضاءً لفئة أو حاكم بلا فرق في ذلك بين الدولة الإسلامية وبين غيرها، ففي الإسلام يجب على الدولة تطبيق القوانين الإسلامية على الجميع وإن لم يفهم الحاكم وجه القانون، بل وإن زعم أن القانون غير كامل؛ إذ اللازم أن لا يحيد الحاكم عن ذلك إلا إلى القانون الثانوي الشرعي، فقد يكون دليل لا ضرر أو لا حرج أو قانون الأهم والمهم أو غير ذلك من القوانين الثانوية منطبقة على الموارد، فيستثنى حينئذ عن الحكم الأولي.

وأما في غير ذلك فلا مجال للتخلي عن تطبيق القانون، ولعل من الموارد المستثناة من الحكم الأولي ما إذا رأى الحاكم الإسلامي الذي بيده الامر الصلاح في العفو أو ما أشبه ذلك في تطبيق الحدود والتعزيرات، كما عفا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أهل مكة، وعفا أمير المؤمنين (عليه السلام) عن أهل البصرة، وعفا عن السارق فقال له (عليه السلام): «قد وهبت يدك لسورة البقرة»[15] إلى غير ذلك مما ذكره الفقهاء في باب القضاء والحدود والتعزيرات.

 ثم إن في الدولة غير الإسلامية يجب تنفيذ القانون أيضاً بمقتضى الحكم العقلي والعقلائي حتى إذا كان القانون لا ينصف المواطن، ولا يقوم على أساس من العدالة، ولا يرد الحقوق إلى أربابها اذا دار الامر بينه وبين عدم تطبيق القانون مطلقا؛ وذلك دفعاً للهرج والمرج والظلم الأكبر والتعدي الأكثر، وإن كان اللازم السعي لتغييرالقانون و تبديله إلى القانون الصالح الذي يراعي موازين العدالة، وذلك يتم عن طريق الاستفتاء، أو عن طريق المطالبة الجماهيرية العامة لكي يعدل المشرعون القانون؛ وذلك لأن مراعاة القانون أهم من مراعاة الأفراد الذين يطبق عليهم قانون غير عادل، حيث إن الفوضى التي تترتب على عدم مراعاة القانون أضر من ذهاب حق بعض المواطنين، بل قد نجد في الإسلام مثل ذلك تقنيناً وتطبيقا،ً فيقال: إن العدة مثلاً التي تأخذها المرأة بعد الطلاق أو بعد وفاة الزوج لأجل عدم اختلاط المياه، لكنها واجبة ايضا حتى بالنسبة إلى المرأة العقيم تكريساً للقاعدة، وتوحيداً للقانون، مع أن في عدتها ذهاباً لحقها إن لم نقل: إن العدة لمصلحة احترام الزوج أيضاً، وهي موجودة في العقيم.

 وفي التطبيق نرى أنه إذا  خيف سراية الوباء جاز للدولة منع  استعمال بعض أنواع الماء او اللبن ومشتقاته مثلاً، أو المنع من بعض الملابس، أو استعمال بعض الأدوات وما أشبه ذلك؛ وذلك لتقديم مصلحة حفظ الصحة العامة على مصلحة حق صاحب اللبن في ماله مثلاً وما أشبه ذلك،لكن الكلام هل للدولة أن تراعي في مثل ذلك روح القانون أو تراعي صورة القانون في صورة التعارض بينهما؟ قولان في المسألة:

الأول: يرى لزوم مراعاة روح القانون؛ لأن القانون وضع لروحه لا لصورته، وهذا هو الذي يقصد به من جهة الهدف والغاية، كما قال الفقهاء في العمل بالمركوز في ذهن الواقف إذا لم يمكن العمل بالوقف مصدراً أو مصرفاً.

الثاني: يرى مراعاة صورة القانون بحجة أنه لو ترك الأمر إلى الروح لاتسع المجال لكل مخالف للقانون أن يخالف بدعوى انه رجح روح القانون على صورته، وحيث إن فساده أكثر من صلاحية العمل بروح القانون فيقدم القول الثاني للعنوان الثانوي.

وكيف كان، فإذا لم تعمل جهة من جهات الدولة بالقانون عوقبت على ذلك العقوبة القانونية في دولة القانون والعقوبة الشرعية في الحكم الإسلامي.

المسألة الثانية: في أصالة الإنسان في القانون 

يجب ان يكون الانسان هو الأصل في تشريعات الدولة، وحقوقه هي مستقى القانون سواء في الإسلام بالاستقاء الحقيقي أو في الدول المسماة بالديمقراطية بالاستقاء الصوري أو النسبي. أما الدول الدكتاتورية فمستقى القانون فيها رأي الدكتاتور.

وكيف كان، فإن الإسلام جعل الإنسان محور العالم، كما جعله الغاية من التشريع، وكماله الغاية من التكوين كما ذكر في آيات وروايات متضافرة. قال سبحانه: {الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار. وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار. وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار}.[16]

وفي الحديث القدسي الذي تضافر مضمونه في طائفة من الروايات الصحيحة المعتبرة: «خلقت الأشياء لأجلك، وخلقتك لأجلي»[17] ومعنى الجملة الثانية في الحديث هو تفسير لقوله سبحانه: {وإن إلى ربك المنتهى}[18] لجهة القاعدة الفلسفية القائلة: بأن كل ما بالغير لا بد وأن ينتهي إلى ما بالذات وحيث إن القانون الإسلامي وضع لأجل الإنسان فالقاسم المشترك في كل القوانين الإسلامية السياسية والاقتصادية والعبادية والجزائية والشخصية والاجتماعية هو فائدة الإنسان إبقاءً وإنماءً؛ ولذا كان الناس في نظر الإسلام سواسية كأسنان المشط، وكان أكرمهم عند الله أتقاهم، وكلهم راع وكلهم مسؤول عن رعيته، وإنهم مسلطون على أموالهم وأنفسهم؛ ومن استوى يوماه فهو مغبون، إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على أن الإنسان هو الأصل، ويجب على الدولة أن تراعي حقوقه في كل تشريعاتها وتطبيقاتها. هذا هو الأصل الأصيل الذي يجب على الدولة الالتزام به ولا يجوز لها التخلي عنه.

المسألة الثالثة: فيما يجب أن تهدفه الدولة

الظاهر أن في سياسة الدولة أمورا ثلاثة ينبغي أن تتوخاها في الهدف، هي: المساواة والعدل والإحسان. قال سبحانه: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} [19] فالمساواة معناه التساوي، وقد يكون التساوي عدلاً وقد لا يكون عدلاً، بل قد يكون ظلماً، وكذلك النسبة في العكس، فبين المساواة والعدل نسبة العموم من وجه، فإذا ساوى التشريع الأخوين في الإرث كان تساوياً وعدلاً، وإذا ساوى الكبير والصغير في إعطاء قماش اللباس كان تساوياً لا عدلاً، وإذا أعطاهما متفاوتاً كلاً بقدر حاجته كان عدلاً لا مساواة.

 فالعدل إذاً على ما عرفوه هو إعطاء كل ذي حق حقه، وإدانة كل ذي جرم بجرمه. أما الإحسان فهو إعطاء المزيد من الحق بمقتضى الرحمة والعطف فيما لا يضر بحق آلاخر، والعفو عن المجرم فيما لا يكون العفو سبباً لبطلان حق، والإحسان فوق القانون؛ لأن القانون مجرد حفظ الحقوق والواجبات والإدانات، أما الإحسان فهو المراعاة لأجل تهدئة الجو المشحون وإيجاد السلامة والوئام والمحبة.

 والدولة يلزمها مراعاة ذلك لتجعل من القانون واحة خضراء تحفها الرحمة والحنان وانعكاس ذلك على الإنسان، وهذا ما يوجب تقوية الروابط بين الدولة وبين الأمة، ويقدم الأمة إلى الإمام، ويدفعها بالحماس والهمة والطموح والآمال العالية الى تقدمها؛ إذ العلاقة المتبادلة بالمحبة القائمة على الرحمة والود توجب تكريس الثقة والحرية والرفاه، وكل ذلك من مقومات التقدم، بل الاطمئنان والسكينة، ومن المعلوم أن الاطمئنان والسكينة والاستقرار النفسي والفكري والاجتماعي من أهم مقومات بناء الحضارات.

والفرق بين العدل والإحسان من ناحية الحكم أن العدل واجب مطلق، بينما الإحسان وجوبه في الجملة؛ إذ لا يحق للقائد أو القاضي أو الحاكم أو ما إليهم تطبيق القانون تطبيقا جامدا، بل اللازم أن يتخلل التطبيق إحسان في الجملة، وعليه فالاحسان واجب مادام هناك سبيل إليه، وهذا هو الفارق بين وجوب العدل ووجوب الإحسان، حيث قال تعالى: { يأمر بالعدل والإحسان}[20] أما حمل الأمر في العدل على الوجوب والإحسان على الاستحباب فهو خلاف الظاهر أولاً، وخلاف ظاهر ينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي الذي هو في سياقه ثانيا، فدلالة السياق تدل على أن الحكم هنا إلزامي، وكما أن النهي تحريمي كذلك الأمر وجوبي.

 إن قلت: إلا أن حمل الإحسان على الوجوب في الجملة مخالف لظاهر الإطلاق في الآية الشريفة الدال على الوجوب مطلقا كما هو الحال في العدل.

 قلت: حتى وإن سلمنا الإطلاق من حيث المقتضي إلا أنه لا مجال للالتزام به من جهة وجود المانع، وهو دلالة الوجدان، بل والنص والفتوى على عدم وجوب كل إحسان، وعليه لا بد من التصرف في ظاهر الإطلاق أو ظاهر الوجوب وهو لا يخلو من أحد أمرين:

الأول: أن نتصرف في ظاهر الأمر ونحمله على الاستحباب مطلقا رعاية للإطلاق.

الثاني: أن نتصرف في الإطلاق ونحمله على الجملة لصالح بقاء ظهور الأمر في الوجوب، والظاهر أن ما ذكرناه أولى لما نعلم من الخارج من عدم وجوب كل إحسان بالضرورة، كما توجد بعض موارد الإحسان من الواجبات، فتكون هذه قرينة على كون وجوب الإحسان في الجملة، وليس هو مستحباً مطلقا.هذا وربما يمكن أن يقال في تقريب وجوب الإحسان في الجملة: إن مخالفة الإحسان فضاضة، والفضاضة محرمة على الحاكم والدولة؛ لأنها توجب انفضاض الناس عن الاسلام وهو محرم بالملازمة؛ لكونه نقضاً للغرض. قال سبحانه وتعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم}[21] وقال سبحانه: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} [22].

وعليه فإن ما يوجب انفضاض الناس حرام شرعاً؛ لأنه مخالف لسياسة العفو المأمور بها، وهو قبيح عقلاً؛ لأنه نقض للغرض، والظاهر أنه لا حاجة إلى تقييد الإحسان بأن لا يكون موجباً للتجري أو إضاعة حق الآخرين؛ لأنه حينئذ لا يكون إحساناً، بل يكون موضوعاً من الإساءة، والفرق بينهما في هذا المورد دقيق؛ ولذا كان اللازم على الدولة تفهم الفرق لئلا تقع في الخطأ في التطبيق حتى تقع في إفراط القانون أو تفريط الإساءة بزعم الإحسان.

المسألة الرابعة: في وجوب رفاهية الناس

رفاهية الناس واجبة على الدولة، والمراد من الرفاهية أن يكون التشريع والتنفيذ والقضاء موجباً لرفاه الأمة بقدر الإمكان، بمعنى أن تراعي الدولة في سياساتها حاجات الإنسان الجسدية والروحية والفكرية والاجتماعية بالقياس إلى قدراته البدنية، فالقانون ملزم بتهيئة فرص العمل لكل عامل مثلاً، ويجعل الأجر الكافي لكل عامل مع وضع ساعات العمل بقدر اليسر لا بقدر العسر، كما تكون للعمال الإجازات والترخيصات وزيادة الأجور عند زيادة التضخم، كما تمنح الاجازات للنساء العاملات في أيام الولادة وقبلها وبعدها بمدة معقولة، وتسهل أمور الزواج بإعطاء المزيد من المنح والسلف لذلك، وتسهيل وسائل العلاج والدراسة والسياحة وما أشبه ذلك، كفتح المدارس والمستشفيات والمستوصفات ودور العجزة والحدائق والمخيمات ودور الرياضة والنوادي وكل مايقوم بتلطيف الهواء بالتشجير، وتكثير المياه في المناطق الحارة، وتوفير الماء والكهرباء في القرى والأرياف، ومد الجسور والطرق وتكثير وسائل المواصلات مع جعل القوانين النافعة للمرور، وجعل الدوائر المرفهة للموظفين والمراجعين، وجعل القضاء وإجراء الحدود في أجواء ملائمة كما فصله الفقهاء في كتاب القضاء، ويدل على ذلك أمور:

الأول: أن ذلك من الحقوق ويجب إعطاء الحقوق لأهلها، فإن حقوق المسلمين لا تبطل[23] ولا يتوى حق امرئ مسلم[24] كما في الأدلة، فإن الدولة موضوعة للمصالح العامة والخاصة واللازم عليها مراعاتها.

الثاني: أن عدم إعطاء الدولة الرفاهية للمجتمع يعد من الإسراف أحيانا؛ لأنه سبب لتضييع الثروات والخيرات، ومن جهة اخرى يعد اجحافا بحق الناس وبخسا لحقوقهم أيضاً، وقد قال سبحانه وتعالى: {لا تبخسوا الناس أشياءهم}[25] كما أن الإجحاف والإسراف محرمان، فالواجب على الدولة أن تحفظ الموازين حتى لا يجحف عامل ولا فلاح بصاحب العمل والأرض كما هو شائع في بعض دول الشرق، حيث يجحف العمال والفلاحون باصحاب العمل والارض بسبب الديكتاتورية البرولتارية ـ على مايعبرون ـ و في الغرب يحدث العكس حيث يجحف أصحاب الأعمال والأراضي بالعمال والفلاحين من باب طغيان رأس المال.

الثالث: أن عدم ترفيه الدولة للشعب يوجب التعدي والإجحاف بين الناس؛ لأنه يسبب الحسد والبغضاء والمنافسة السلبية والصراع في المسألة، والفرق بينه وبين الثاني ظاهر.

الرابع: العمومات والإطلاقات الدالة على لزوم مراعاة اليسر ورفع الحرج والضرر وغير ذلك من الأدلة النقلية والعقلية.

فاللازم إذاً على الدولة الجمع بين حقي الحرية والرفاه في مثل العامل وصاحب العمل وما أشبه، حيث إنه لا يصح لها إلا رفع الإجحاف من الطرفين، وكذا من البائع والمبتاع وسائر أطراف المعاملة، لا أن تضغط على حرية طرف لأجل التوفير على طرف آخر، وهذا ما توضحه المسألة المتقدمة في العدل والإحسان.

المسألة الخامسة: في وجوب حسن التدبير

 يجب على الدولة أن تراعي حسن التدبير في الشؤون العامة والخاصة، ويحرم عليها التخلف عنه أو التقصير فيه. أما الوجوب فلأنه من باب حفظ الحقوق ورعايتها لأصحابها، كما أنه مقتضى الوكالة والثقة التي منحها الناس لها، أو من جهة الأمانة ـ على الخلاف[26] ـ وأما الحرمة فلأن عدم مراعاة حسن التدبير يوجب الفوضى واختلال النظام وتضييع الحقوق، بل يوجب العسر والحرج والضرر للناس، وعليه فإن على الدولة أن تهيئ وسائل حسن التدبير بما يلي:

أولاً: بالعمل الإيجابي، بأن تسهر على مصالح الأمة وتبادر إلى إنجاح مطالبها وإسعافها في حاجاتها، خصوصاً في الحالات الحرجة، كالسيول والزلازل ورفع الأمية ومكافحة الأمراض ؛ إذ الدولة ليست إلا خادمة للأمة، أو وكيلة لها، أو أمينة.

كما ويجب على الدولة أن تسهل الإجراءات الإدارية في دوائرها ومؤسساتها؛ ويحرم عليها اتخاذ الاجراءات الموجبة لاهانة المواطن وإرهاقه، فعلى الموظف أن يسرع في حل مشكلة المراجع، أوفي إرشاده إلى الموظف المسؤول عن موضع حاجته إن لم تكن حاجته عنده، وعلى كل موظف ًأن يهيئ الأجواء الملائمة في دائرته، سواء الأجواء العملية أو المناخية، فإذا احتاج مثلاً تسريع الأمر إلى جعل كاتب أو مساعد أو مدير جعله؛ لأن في خلافه العسر والحرج والضرر، وتضييع أوقات الناس وإرهاق أعصابهم، وكل ذلك موجب للأذى وللإسراف وهدر الوقت، والتي تعد كلها من العناوين المحرمة، ومن الواضح أن من أهم أسباب نجاح الدولة وتقدم الأمة هو تسهيل الأمور والإجراءات بالقدر الممكن وفي حدود عمل كل قوى الدولة.

وثانيا: بالعمل السلبي، وذلك بأن لا تضع الدولة القانون، او تنفذه على نحو من التعسف والتجاوز بما يوجب عدم أمن واستقرار المواطن، سواء في نفسه أو ماله أو عرضه أو دينه، فإن اللازم على الدولة أن تكون سياستها بنهج تشعر المواطن تحت لوائها بالراحة الجسدية والفكرية لا بالقلق والعذاب، ولا يسمح للدولة بأي حال من الأحوال أن تفضل مواطنا على مواطن وطبقة على طبقة في جعل القانون، أو في تنفيذه، بل اللازم عليها النظر للمواطنين على حد سواء، وحتى بالنسبة إلى الإنسان المنحرف سواء في العقيدة أو في العمل فإن اللازم على الدولة أن تراعيه أيضاً اعتماداً على قاعدة الضرورات تقدر بقدرها، أو قانون الأهم والمهم، أو قانون عدم الإجحاف أو عدم الإسراف؛ ولذا نجد في الإسلام حيث أراد تصحيح العقيدة في باب الأديان وإصلاح المجرم في باب الأعمال والمكاسب لاحظ هاتين القاعدتين ـ العمل الايجابي والسلبي ـ كما ذكره الفقهاء في كتاب الجهاد، في باب حكم الأقليات الدينية، وفي كتاب القضاء والحدود في باب الارتداد ونحوه.

المسألة السادسة: في وجوب التنظيم الاداري

يجب على الدولة مراعاة النظام، فإن القانون العادل وتطبيقه على الدوائر الرسمية وغيرها لا يكفي في سير النظام على ما يرام، ويرعى حقوق المواطنين، بل اللازم حسن التدبير في الإدارة وصنع جهاز المراقبة والتنسيق والكفاءة. فأجهزة الدولة لا بد وأن تسود فيها روح تسيرها على أحسن وجه، وذلك بأن تتمكن تلك الروح من إعطاء الدولة حقها وإعطاء الفرد حقه. كما قال سبحانه وتعالى: {لا تظلمون ولا تظلمون}[27] ولهذا لأمر عينت بعض الدول الحديثة إدارة التنسيق، وديوان المحاسبة، وإدارة مراقبة أعمال الدولة والأمة، ومجلس الدولة، وقواعد التأديب، كما هيأت بعض الدول الحديثة لذلك آلات المحاسبة والعقول الإلكترونية وآلات الإنصات وغير ذلك، بل قد جعلت بعض الدول أسلوباً حديثاً لبناء الدوائرً تمشيةً لذلك؛ ورعاية لحقوق المواطنين، حيث تبني الغرف بنصف حائط وتجعل منصة مشرفة على كل الغرف فيجلس فيها المراقب الكفوء، ويشرف دائماً على الموظفين لئلا يعطلوا المراجع أكثر من قدر الاحتياج، وهذه الأمور في الدول الإسلامية أوجب؛ لأنه مقتضى الأمانة الشرعية، كما هو مقتضى مراعاة حقوق الناس من المسلمين والمؤمنين، وهذا ما ورد في العمومات والإطلاقات، وفي الحديث الشريف الوارد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): «........ ملعون، ملعون من ضيع من يعول».[28]

ومن الواضح أن التخلف عن أداء المسؤوليات ـ بما هو بحسب الحاجة والمطلوب ـ يكون من التضييع، ومنه أيضاً ورد «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»[29] ومقتضى المسؤولية هو في التخلف عن الواجب أو التقصير فيه. هذا بالإضافة إلى شمول الإطلاقات مثل قوله سبحانه وتعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة}[30] وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه»[31] حيث يجب أن تكون البلاد الإسلامية في مقدمة بلاد العالم، وأن لا يكون غير المسلمين أعلى من المسلمين، وغير ذلك مما يستفاد منه الدقة والإتقان ومراعاة النظم في كل شيء، والتي منها شؤون السياسة بشعبها المختلفة.

 هذا وقد ورد ذلك في نص عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) في كتابه لواليه في مصرمالك الاشتر، يقول فيه: «ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك، ممن لا تضيق به الأمور، ولا تمحكه الخصوم، ولا يتمادى في الزلة، ولا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج، وأقلهم تبرماً بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشف الأمور، وأصرمهم عند اتضاح الحكم، ممن لا يزدهيه إطراء، ولا يستميله إغراء، وأولئك قليل. ثم أكثر تعاهد قضائه، وأفسح له في البذل ما يزيل علته، وتقل معه حاجته إلى الناس....... الى ان قال(عليه السلام): ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختباراً، ولا تولهم محاباةً وإثرة فإنهما جماع من شعب الجور والخيانة، وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة، والقدم في الإسلام المتقدمة، فإنهم أكرم أخلاقاً، وأصح أعراضاً، وأقل في المطامع إشراقا، وأبلغ في عواقب الأمور نظراً، ثم اسبغ عليهم الأرزاق، فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحجة عليهم إن خالفوا أمرك، أو ثلموا أمانتك. ثم تفقد أعمالهم، وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم، فإن تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة، والرفق بالرعية....... الى ان قال(عليه السلام): وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم، لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله»[32] إلى غير ذلك مما يدل على لزوم مراعاة التدبير وحسن النظام.

المسألة السابعة: في وجوب توخي أهداف الإسلام وأحكامه

يجب على الدولة أن تتوخى أهداف الإسلام وأحكامه في تشريعاتها وتطبيقاتها، فإن كانت الموارد مما قام عليها الدليل من الكتاب والسنة والإجماع والعقل وجب الأخذ بها في الحكم والعمل، وإلا كانت أحكامها وأهدافها باطلة لكونها مصداقاً للحكم بغير ما أنزل الله سبحانه وتعالى، وهو حرام تكليفاً؛ لأنّه تشريع وظلم وفسق وكفر موضوعاً إما على الحقيقة أو التنزيل بحسب اختلاف المراتب أو الموارد.

ومن الواضح أن الأحكام التي دل عليها الإسلام في الآيات والروايات والإجماع والعقل هي أمور ثابتة ولا تقبل التغيير أو التبديل بحسب الأهواء أو الآراء الخاصة، ومن هنا يظهر بطلان قول من زعم بأن حكم الله متطور، وأراد بذلك إمكان تغيره بحسب الزمان والمكان لاتغيرّ موضوعه[33].

وعليه فلا ينبغي أن تخضع الدولة لأحكام وقوانين خاصة وثابتة، بل يمكنها تغيير الأحكام والقوانين بحسب متطلبات الزمان أو المكان أو الحاجات بزعم أن التطور يجيز جعل القانون مع الاحتفاظ بروح الشريعة، فمثلا حرم الربا لأنه ضار، أما إذا رفع ضرره وتوقف الاقتصاد عليه وقام عليه نظام الدولة في تنشيط الأمور الاقتصادية جاز وحل ذلك. وكذلك البنت كانت تبلغ وعمرها عشر سنوات حين كان الناس بدائيين، أما حين تحضّر الناس فبلوغها يكون في السادسة عشرة مثلاً. وإنما جاز النكاح بأربع نساء لكثرة النساء، أما حيث دلت الإحصاءات على التساوي تقريباً بينهما فلا يجوز إلا امرأة واحدة. وكذا لحم الخنزير كان محرماً لشموله على الديدان المسببة لجملة من الأمراض، أما إذا عقم وطهر منها حل، وغيرها من المزاعم التي تصورها هذا الزاعم بأنها علل للتحريمات الخاصة، فإذا زالت هذه العلل بحسب تطور الزمان والمكان أو الحاجات ينبغي جوازها؛ لأن اللازم بحسب ما يراه ملاحظة روح الدين لا شكلياته، فالدين مثاله مثال الطين الذي يبقى طيناً وإن تبدل أشكالاً من لبنة إلى كوز إلى كأس إلى كوب إلى غير ذلك. هذا أولاً.

وثانياً: ما ذكره بعض الكتاب من أن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) خاتم لا نبي بعده[34]، ومعنى الخاتم هو أن لا يأتي بعده نبي، لا أن لا يأتي العقل بقانون أفضل من قانون النبي وأكثر انطباقاً على الزمان وشروط الحاجات، فالبشر لا يحتاج إلى رسول من بعد رسول الله صلى الله عليه وآله؛ لانه أكمل العقل وأوصله إلى كماله، وبهدى هذا العقل يتمكن الإنسان أن يسير في الحياة ويضع القوانين الملائمة لكل زمان ومكان وإن كان مخالفاً للقوانين التي وضعها الإسلام؛ لأنها كانت لزمان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومكانه فقط، ولا تجري في سائر الأمكنة والأزمنة. هذا ما زعموه.

لكن يشكل عليه من جهات عدة في الكبرى والصغرى أما الكبرى فلأن الأدلة المتواترة دلت على أن حكم الله عز وجل لا يتغير، وأن «حلال محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) حلال أبداً إلى يوم القيامة، وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة»[35] والمراد من الحلال ما يقابل الحرام من الأحكام الثلاثة، أي المندوب والمكروه والمباح؛ لأن كلها حلال مع ترجيح في الفعل أو الترك أو من دون ترجيح، كما أن الحرام شامل للواجب الحرام تركه والمحرم الحرام فعله، ويشمل الحلال الثلاث الأخر. هذا أولاً.

وثانياً: لإمكاننا أن نسأل عن المقصود من التطور، فإن أرادوا منه التطور في العقيدة بمعنى تجدد العقيدة وتغيير ثوابتها ونحوها فهذا ما لا يعقل؛ لأن العقيدة قائمة على الأحكام العقلية، والأحكام العقلية ثابتة، وإن أرادوا منه التطور في الفضيلة والتحسين والتقبيح أو المدح والذم الذي يقتضيه العقل النظري أو العملي فهذا بديهي البطلان؛ إذ لا يعقل أن يتبدل الصدق رذيلة والكذب فضيلة، أو يتبدل الكرم رذيلة والبخل فضيلة، إلى آخر ذلك من المحسنات والمقبحات العقلية أو الأخلاقية. وإن كان المقصود منه التطور في الحكم فيتطور الحلال إلى الحرام أو بالعكس فهو باطل أيضاً؛ لتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد الواقعية، وبالتالي فهي ثابتة، ولا تقبل التغيير أو التطور.

فإن من الواضح أن الحلال والحرام وضع لحسب النفع والضرر أو المصلحة والمفسدة، فالخمر ضار والماء نافع مهما تبدلت الأزمنة والأمكنة أو الحاجات، وكذا في المعاملات والعبادات والأحوال الشخصية كالنكاح والطلاق، وكذا الحدود والتعزيرات وغيرها، فإن هذه جميعاً وضعت بحسب حكمة دقيقة قد يصل العقل إلى بعضها وقد لا يصل؛ لكون العقل لا يحيط بملاكات الشرع تماماً.

نعم، إذا أريد من تطور الأحكام تغير الحكم لتبدل الموضوع أو تطوره لظروف استثنائية ــ بمعنى أن الحكم يختلف من موضوع لموضوع فهذا لا بأس به، إلا أنه من قبيل الانتقال من موضوع لموضوع ــ في الشريعة الواحدة لا تطوير لذات الشريعة نفسها أو حكمها.

فمثلاً: الخمر في ذاته وفي حكمه الأولي حرام، وفيه مفسدة، إلا أنه ربما يجوز للمضطر لانطباق عنوان جديد في المسألة، وكذا في حرمة بعض المباحات لمن يضره ذلك كالمريض مثلاً، ومثل حرمة الصدق الضار وجواز الكذب لدى الاضطرار، لكن التطور المزعوم في الشريعة شيء وهذه الحالات الاستثنائية التي يعبر عنها بالأحكام الثانوية من باب الأهم والمهم شيء آخر.

ومن هنا قال السيد الشيرازي(رضوان الله عليه) في كتاب الحكم في الإسلام: يدخل التطور في مصاديق القواعد العامة، فإذا تبدل مصداق بمصداق أو دخل في الوجود مصداق لم يكن سابقاً شملته القاعدة العامة، مثلاً الصحافة لم تكن في زمن النبيJ والأئمةE ثم حدثت، فالحرية الإسلامية المبينة بقاعدة الناس مسلطون على أموالهم تشملها، وكذلك القنبلة الذرية لم تكن في زمانهم عليهم السلام، فلما تطور السلاح شملته آية{واعدوا لهم ما استطعتم من قوة}[36] إلى غير ذلك من الأدلة[37].

هذا مضافاً إلى أن قولهم بأن المهم هو الحفاظ على الروح، فإنه لو جرى هذا الكلام وقيل بعدم أهمية الشكل لكان بالإمكان تغيير كل حكم، وعندها لا يبقى حجر على حجر، وهذا مما يكذبه الوجدان والضرورة والإجماع، بل وبديهة العقل، وعليه فإن ما ذكر مخدوش من ناحية الكبرى. هذا أولاً.

وثانياً: مخدوش من ناحية الصغرى أيضاً؛ بداهة أن الربا ضار بطبعه، والأحكام مجعولة على نحو القضايا الحقيقية، وقد ثبت في العلم الحديث ضرره الآن على الفقراء كما كان ضاراً من قبل، وسيبقى ضاراً، وكذا البنت تبلغ في هذا الزمان كما كانت تبلغ قبل ذلك؛ ولذا تظهر مواهبها عند الرشد كما قال تبارك وتعالى:{فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم}[38] والنساء كثيرات إلى اليوم؛ لأنهن أطول أعماراً، وأكثر أفراداً؛ ولأن الرجل تحصده الحرب وقساوة العمل والظروف الصعبة ونحوها، وكذا لحم الخنزير قذر في نفسه وإن عقمته الأدوية بحسب الظاهر، إلا أنه بحسب الذات لا يقبل التطهير والتعقيم.

وأما ما قيل بالاكتفاء بحكم العقل عن تشريع رسول اللهJ فيرد عليه: أن الأدلة دلت على دوام حكم الإسلام، وأنه أكمل الأديان، وأنه يقود الإنسان خطوةً خطوة إلى الاستقامة وإلى مصالحه، إلا أن النبي الأعظمJ فجر الطاقة، والطاقة الإنسانية تكون هادية له في طريقه الطويل.

وكيف كان، فما يقال في مثل هذا هو شبهة في مقابل البديهة، وقد قامت الضرورة على خلافها، مضافاً إلى الأخبار.

ففي صحيح أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله(عليه السلام) يقول: «من حكم في درهمين بغير ما أنزل الله عز وجل فهو كافر بالله العظيم»[39] إلى غير ذلك من الروايات، والمراد من الكفر إما الاعتقادي لإنكاره الضروري أو استلزامه ذلك، أو العملي وهو ما أُطلق في جملة من الآيات والروايات وأريد به الكفر في مقام العمل، ولعله المراد في هذه الرواية.

هذا مضافاً إلى دلالة العقل على لزوم اتباع أحكام الشريعة بضميمة أن الله سبحانه وتعالى أعلم بمصالح العباد، وحكمه خال عن الأهواء والميول، فهو أحق الأحكام لصلاح البشر وسعادتهم في الدنيا والآخرة. هذا مضافاً إلى عدم إمكان الاعتماد على الحكم العقلي دائما؛ لاختلاف آراء البشر واختلاف تفسيراتهم للقضايا والأحداث، فلو تركنا أحكام الشريعة والتزمنا بما يحكم به العقل المجرد في كل زمان ومكان لزم الاختلاف الدائم واختلال النظام والفوضى والهرج والمرج إلى غير ذلك من التوالي الفاسدة.

المسألة الثامنة: في وجوب السعي لعلو الإسلام

يجب على الدولة السعي لتطبيق القوانين الإسلامية، وخصوصاً تلك الموجبة لعلو المسلمين ونفي سبيل الكفار عنهم كما هو مقتضى قاعدتي العلو ونفي السبيل الشاملتين للعقدين الإيجابي والسلبي، والقوانين الموجبة لعلو الإسلام ورفع سبيل الهيمنة عن المسلمين عديدة منها ما يلي:

الأول: الأخوة الإسلامية، حيث يقول سبحانه وتعالى:{إنما المؤمنون أخوة}[40] فالمؤمن أخو المؤمن، لا فضل لأحدهم على الآخر إلا بالتقوى، والمسلم في أي بلد حل هو بلده، كما أنه في أي بلد أراد الزراعة أو الصناعة أو التجارة أو غير ذلك كان له ذلك، ولا يجوز أن يعد المسلم في بلد من بلاد الإسلام أجنبياً؛ بداهة مخالفته للنص، كما أن منع المسلم من دخول أي بلد إسلامي شاء أو منعه عن الإقامة فيه أو منعه عن مزاولة أي محلل فيه محرم أيضاً، وحكام الدول الإسلامية إذا كانوا صادقين في أنهم يلتزمون بالإسلام يلزمهم الالتزام بالقوانين الإسلامية التي أعطت الحرية للمسلم، وجعلت بلاد المسلمين جميعاً مباحة لسائر المسلمين، وإلا كان الادعاء بالإسلام غير صادق. قال سبحانه وتعالى:{فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما}[41] . 

ومن الواضح أنّ الذي لا يسلم بما جاء به النبي J ولا يعمل بما جاء به الكتاب والسنة فيما ذكرناه لايعد من المؤمنين كما يستفاد من الآية، والمحاذير التي تدعيها بعض الدول لتقييد حركة المسلمين أو حريتهم أو ما أشبه ذلك في بلادها يمكن حله بواسطة التداول والتخطيط عبر المؤتمرات أو الندوات وتهيئة الوسائل والسبل.

الثاني: الحرية، فالإنسان في الإسلام حر في إبداء رأيه وكتابته وتجارته وزراعته وعمارته وفي كل شيء إلا ما استثني من الأقوال والأعمال المحرمة، وهي نادرة. قال سبحانه وتعالى في وصف رسوله الكريمJ:{يضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم}[42] كما أن الحرية هي مفاد قاعدة السلطنة الدالة على أن الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم.

وعليه فإن كل قانون أو قرار أو إجراء تتخذه الدولة يكبت حرية الإنسان هو قانون باطل، كما أن كل حاكم يكبت حرية الإنسان فهو حاكم متجاوز تجب إزالته، ويجب أن تطلق حريات الناس؛ لأن الحرية هي الأصل، والحاكم إنما نصب لحماية الحرية، فإذا أصبح الحاكم معتدياً ومتجاوزاً على الحرية تسقط وكالته عن الناس، وتبطل شرعية حكمه.

الثالث: السلام، فإن الإسلام دين السلام، وشعاره السلام، ومن أسماء الخالق تبارك وتعالى السلام، ومن أجزاء الصلاة السلام، بل تحية الناس مع بعضهم هو السلام، ويؤكد المولى سبحانه وتعالى في أن تكون المعاملة مع الكفار والأعداء بالسلام أيضاً، حيث يقول سبحانه وتعالى:{وإن جنحوا للسلم فاجنح لها}[43] بل الإسلام يدعو كل الناس إلى الدخول في السلام، حيث يقول سبحانه وتعالى:{يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان}[44] وكيف كان، فإن السلام في المجتمع المسلم من شأنه أن يزيده تماسكاً وقوة وتناصراً فيدفع عنه الضيم، ويكفل حقوقه.

الرابع: الجهاد، قال سبحانه وتعالى:{وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين}[45] سواء كانوا من المسلمين أو من غير المسلمين؛لأن الملاك في شرعية الجهاد في الإسلام ينبغي ان يرجع إلى أحد أمرين: أحدهما: ان يكون في سبيل الله سبحانه وتعالى، وثانيهما: أن يكون لرفع الظلامة، وهذا لايختص بدين أو لغة أو قوم، بل يشمل كل مظلوم ومستضعف، وقد أمر الباري سبحانه  بإعداد أكبر قوة ممكنة من باب حماية المسلمين أو إنقاذ المظلومين.

يقول سبحانه وتعالى:{وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم}[46].

الخامس: الأخذ بموازين التقدم، وهي: العلم والأخلاق والدين؛لأن ذلك سبيل العزة والكرامة والعلو والبناء والتنمية وغيرها من العناوين الواجبة. قال سبحانه وتعالى:{هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}[47] وقال النبيّ الأعظمJ :«طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة»[48] وقالJ: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»[49]. وفي وصية الإمام موسى بن جعفرعليهما السلام لهشام بن الحكم. قال : "إن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة عليهم السلام، وأما الباطنة فالعقول[50].

السادس: التعاون؛لأنه من أسباب القوة والمنعة والعزة والرفاه ونشر البر وبسط العدل ودفع الباطل وردع المنكر وغير ذلك من المفاسد. قال سبحانه وتعالى:{وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}[51] وعليه فإن التعاون واجب في طريق البر والتقوى؛ لأنه طريق إلى ما ذكرناه من أسباب للتقدم والرفاه، إلى غير ذلك من الأصول الكثيرة التي يجب أن تعتمد عليها الدولة في بناء الإنسان والحياة والمجتمع، والتي من اللازم السعي لإشاعتها في المجتمع الإنساني عموماً؛ لأنها هي الأصول الإنسانية التي تحت ظلها يعيش الإنسان في غاية السعادة، فإن الله عز وجل خلق الإنسان وأراد تكريمه، وكرمه ومنع من إهانته بأي لون من ألوان الإهانة.

المسألة التاسعة: في وجوب إنقاذ المظلومين

يجب على الدولة الإسلامية العمل لأجل إنقاذ المظلومين، وخصوصاً المسلمين الواقعين تحت ظل الظلم والاستضعاف، سواء كانوا تحت حكومة ظالمة أو كافرة، ويدل على ذلك جملة من الأدلة. أما الكتاب فمثل قوله سبحانه وتعالى:{وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين}«[52]».

ووجه الاستدلال أنه إذا وجب القتال لأجل إنقاذ المستضعفين فإنه وجب ما دونه أيضاً، وهو الإنقاذ بطريق الأولوية.

وقوله سبحانه وتعالى في وصف المؤمنين:أشداء على الكفار رحماء بينهم«[53]»  فإنه كما تجب الشدة على الكافر تجب الرحمة بالمؤمن بقرينة المقابلة في غير ما علم استحبابه.

وقوله سبحانه:{والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض}«[54]»  ومن الواضح أن الآية في مقام الإنشاء، فتدل على التشريع، وليست في مقام الإخبار والكشف عن واقع تعاملات الناس.

وأما من السنة فما دل على وجوب إنقاذ المسلم كما روى الكليني رضوان الله عليه عن فرات بن أحنف، عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: «أيما مؤمن منع مؤمناً شيئاً ممّا يحتاج إليه وهو يقدر عليه من عنده أو من عند غيره أقامه الله يوم القيامة مسوّداً وجهه، مزرقة عيناه، مغلولة يداه إلى عنقه، فيقال: هذا الخائن الذي خان الله ورسوله، ثم يؤمر به إلى النار»«[55]»  إلى غير ذلك من الروايات المذكورة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومن الواضح أن هذه الرواية تدل على أن عدم نصرة المظلوم خصوصاً إذا كان من المؤمنين يعد من الذنوب الكبيرة؛ لأن الرواية وعدت المتخلف عن ذلك بالنار، وقد ذهب المشهور من الفقهاء إلى أن الذنب الكبير هو ما وعد صاحبه عليه بالنار، ولا يخفى أن المسلمين يمكن إنقاذهم بأمرين أساسيين:

الأمر الأول: داخلي، وهو تقويتهم في الداخل، وتوفير وسائل النهوض والقيام لردع الظلم ورفعه وذلك في الأبعاد التالية:

الأول: تنظيمهم سياسياً حتى يمكنهم الدخول في مختلف مرافق الدولة، سواء كانت الدولة انتخابية أو مستبدة، فإن التنظيم السياسي لكل أمة بدء إحيائها، ومن الواضح أنه بدون السياسة لا يمكن للأمة الحصول على وسائل القوة والدفاع وإعلان الصوت وإيصال الكلمة.

الثاني: تنظيمهم اقتصادياً، فإن الكرامة الاقتصادية توجب الكرامة الاجتماعية، والعكس بالعكس، وفي الأخبار الشريفة:«الفقر سواد الوجه في الدارين»[56] وخصوصاً في مثل هذه الأزمنة التي يحتاج الإنهاض فيها إلى دعم مالي في الإعلام والثقافة والفكر وإيصال الصوت وما أشبه ذلك، وهذا مما يتوقف على الاقتصاد، والاقتصاد يتوقف على التنظيم.

الثالث: تنظيمهم ثقافياً بكلا شقي الثقافة الدينية والدنيوية، فإن الثقافة الدينية أساس السعادة الروحية والجسدية الدنيوية والأخروية، والثقافة الأكاديمية المسماة بالدنيوية توجب الأخذ بأسباب القوة والعلو على الغير فكراً وعملاً، وفي الحديث العلوي: «الدنيا دول فاطلب حظك منها بأجمل الطلب»[57] بضميمة المضمون المتضافر عنهمE «نعم العون الدنيا على طلب الآخرة»[58] فتأمل.

الرابع: تنظيمهم اجتماعياً، فإن تقوية المجتمع بالتكتلات والهيئات والجمعيات والنقابات والنوادي وما أشبه ذلك توجب قوة الأمة، والقوة توجب التقدم، وفي الحديث الشريف: «يد الله مع الجماعة»[59] إلى غير ذلك من الأسباب والوسائل، ومن المعلوم أن لكل واحد من هذه النقاط فروعاً وشؤوناً لا يسعنا المجال للتعرض لها.

الخامس: تنظيمهم جهادياً، فإن الخير كل الخير تحت ظلال السيوف، وفي الآية الشريفة:{وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة}[60] وإن كان استعمال السلاح في سياسة الإسلام لا يكون إلا للأغراض الدفاعية غالباً، كما يتوقف أيضاً على شروط شرعية خاصة ذكرها الفقهاء في باب الجهاد[61].

ومن الواضح أن هذه الوسائل والأسباب إن أمكن العمل بها بالصورة العلنية وجب القيام بها علناً، وإن لم يتمكن من القيام بها كذلك فإنه ينبغي العمل على تهيئتها ولو في صورة التقية، وقد قال سبحانه:{لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة}[62] وذلك واضح؛ لأن الإنسان هو الهدف، ورفع الظلم من غاياته، والوسائل المذكورة طرق وأسباب. وقد ورد في الحديث: «إن التقية ديني ودين آبائي»[63] وبمقتضى التقية يعمل كلّ عاقل في تمرير مبادئه والإبقاء على نفسه والدفاع عن حقوقه في قبال الأعداء الذين يريدون الهزيمة به واجتثاث جذوره. وقد فعل بمقتضى التقية النبيّ الأعظمJ في بداية الدعوة الإسلامية، حيث أخفى دينه عن المعادين، كما نزل في عمار قوله سبحانه وتعالى:{إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان}[64].

وكيف كان، فإن التقية لها دوران: إيجابي وسلبي، فلا يراد بالتقية المعنى السلبي فقط بمعنى السكون والهزيمة في مقابل الضغوطات، بل أدلتها تشمل العمل الإيجابي أيضاً،  بمعنى مواصلة العمل مع خفاء الطريقة، بأن يخفي الإنسان طريقه لأجل تمشية أموره والوصول إلى أهدافه، ولعل هذا من معاني الحرب خدعة كما يفعله المجاهدون في كل زمان ومكان، وكان رسول اللهJ يخفي بعض حروبه حتى ينجح وحتى لا يكثر القتلى بين الناس.

وكيف كان، فاللازم على المسلمين في كل بلد كابت للحريات أن يعملوا بالبنود السابقة في سرية وخفاء، أو في علنية وظهور بحسب الظروف المتوفرة، وينبغي على المسلمين أن يساعدوهم من الخارج أيضاً دولة كانوا أو أفراداً وجماعات وإن كان هذا من مهمات الدولة الإسلامية بالشكل الأولي. هذا كله بالنسبة إلى الداخل.

الأمر الثاني: خارجي، وهو توفير الدعم لهم من الخارج، بمعنى المساعدة على إنقاذ المظلومين ولو من الخارج، فاللازم على الدولة الإسلامية أن تنظم مسلمي خارج البلاد المعنية لمساعدة مسلمي الداخل مالياً وإعلامياً، وكذا سائر الخدمات، فتجعل لهم صناديق خيرية مثلاً لمساعدتهم، كما تنشر الدولة أحوالهم في مختلف وسائل الإعلام، سواءً كانت ملكاً للدولة الإسلامية أو كان النشر تبرعاً أو بإيجار أو ما أشبه؛ لأن الإنقاذ هو الغاية، والدعم وسيلة.

وكذلك تمارس الدولة الإسلامية الضغط الكافي دبلوماسياً على الدولة الكابتة للحريات بسبب المجتمعات الدولية والمنظمات الحقوقية والجمعيات المدافعة عن حقوق البشر وغير ذلك من أسباب الضغط. أما إذا لم ينفع كل ذلك في إطلاق حريات المسلمين وإنقاذ المستضعفين فاللازم أن تهيئ الدولة وسائل إسقاط دولة المستبد بما تراه الدولة الإسلامية صلاحاً، وكل ما ذكرناه من الأمرين بحاجة إلى الخبراء والمستشارين والفقهاء الذين يرشدون الهيئات العاملة إلى الطريق الصحيح المطابق للشريعة الإسلامية ولموازين العقل والعقلاء في العالم المعاصر؛ لعدم الوقوع في التجاوز والعدوان أو الخروج عن الهدف إلى ضده.

المسألة العاشرة: في وجوب التخلص من هيمنة الأعداء

يجب على الدولة الإسلامية إخراج المسلمين وإنقاذهم من هيمنة الفكر الغربي أو الشرقي الذي ساد بلاد الإسلام في هذا القرن، فإن هذه الهيمنة جاءت إلى البلاد مع الاستعمار العسكري أولاً، ثم غذاها الاستعمار الفكري وساندتها في مثل هذه الأزمنة العولمة ثانياً، حتى أصبح المسلمون بأنفسهم حماة لهذا الطراز من الفكر الغربي المنحرف عن قيم الإنسان والمبادئ  الشرعية، وهذا التغيير وإن كان عملاً شاقاً إلا أنه لا بد منه، فإنه بدون ذلك تقع البلاد ألعوبة بأيدي المستعمرين، مما يوجب تضعيف البلاد وسلب الحقوق وانتهاك الحرمات وسفك الدماء وما أشبه ذلك، ولا يخفى أن امتياز الفكر الإسلامي عن الفكر الغربي يقع في ثلاث نقاط جوهرية:

الأولى: في الإيمان بالله عز وجل، بينما نتاج الفكر الغربي ينتهي إلى عدم الإيمان والعياذ بالله، فإن رد فعل الكنيسة باق إلى الآن في أذهان الغربيين، ثم أخذ هذا في طراز الفكر الشرقي الذي نفى وجود الله عز وجل نفياً قاطعاً والعياذ بالله.

الثانية: في شمولية الحكومة الإلهية، فإن الاسلام يؤمن بان الحكم لله سبحانه تشريعاً وتكويناً، بينما يرى الفكر الغربي والشرقي أن الحكم تشريعاً للبشر، والأمر الثاني انبثق من الأمر الأول كما هو واضح.

الثالثة: في أصالة الإنسان فإن الإنسان هو أهم شيء في الكون، وهو محور الأهداف والسياسات في الإسلام. قال سبحانه وتعالى:{ولقد كرمنا بني آدم}[65]  وفي الحديث القدسي: «خلقت الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي»[66] ولا يخفى أن معنى لأجلي أي تعرفني وتعبدني فتصل إلى الكمال الممكن الكامن فيك؛ لأن البشر كلما ازداد لله معرفة ازداد له عبادة، وفي الآية الشريفة:{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}[67]  إذ العبادة غاية للخلقة، فالعبادة تظهر معدن الإنسان النير أكثر فأكثر كالمعدن المخلوط بالتراب إذا وضع في البوتقة.

هذا بينما يرى الفكر الغربي أصالة المادة لا الإنسان؛ ولذا نرى الإسلام يضحي بالمادة لأجل الإنسان، بينما الغرب يضحي بالإنسان لأجل المادة، كما تعكس هذه النظرة السياسات العالمية للغرب المنتشرة في أرجاء العالم، حيث تزهق الأرواح، وتسفك الدماء، وتصادر الحقوق لأجل المصالح الغربية، خصوصاً في الدول الضعيفة.

وهذه البنود الثلاثة هي جوهر الصراع بين الإسلام وبين الغرب، ثم إنه من الواضح أن البشرية في طوال هذه القرون تقدمت إلى الأمام، وأنجزت إنجازات مدهشة في ميادين العلم والصناعة، وهذا ما لا يمكن التفريط به بأي حال؛ لذلك فإن مقتضى التوازن العقلي يقتضي الفصل بين الإنجازات الإنسانية وبين الرواسب العالقة بهذه الإنجازات؛ ليأخذ المسلمون الجيد منها ويتركوا الرديء.

وهذا مما يتطلب في كلا جانبيه إلى أكبر قدر من العلماء الدينيين والأكاديميين الزمنيين، ويكون كلا الجانبين قد ألم بما عند الثاني من معرفة في الجملة؛ ليمكن التفاهم بينهما وإنتاج وليد شرعي يلائم الشريعة ومتطلبات العصر، وهذا بحاجة إلى توفير كلا القسمين من العلماء، ولا يخفى أن النقص هائل في الجانب الأول من ناحية الكم والكيف، وفي الجانب الثاني من ناحية الكيف.

وكيف كان، فلكي تحقق الدولة المشروعة ذلك عليها أن تحتضن كفاءاتها، وتهيئ لهم الأجواء الصالحة للتفكير والتخطيط والتنفيذ الصحيح في مختلف مجالات الحياة؛ لتوقف من هجرة عقول المسلمين وكفاءاتهم إلى الغرب؛ وذلك لأنهم يهاجرون عادة لأحد سببين:

الأول: لأجل ما يشاهدونه هناك من عوامل احتضان وتنشئة كالحرية والاحترام غير المتوفرة في بلاد المسلمين بسبب الظلم والاستبداد.

الثاني: لأجل الرفاه الذي يمنحه الغرب عادة إلى الكفاءات دونه في البلاد الإسلامية. ومن الواضح أن بالهجرة تفتقر بلاد الإسلام بينما تعمر بلاد الشرق والغرب، فالواجب على الدولة أن تعالج الأمر علاجاً عملياً لإيقاف الهجرة.

هذا وينبغي اتباع أفضل الطرق العملية للنهوض بالمجتمع المسلم ورفع الهيمنة عنه، ويتضمن خطوات عديدة لعل من أولاها جمع علماء الدين والدنيا في مؤتمرات وندوات ومؤسسات لتلاحم جهودهم في ذلك، ويمكن تطبيق هذه الخطط عبر مراحل تبتدئ من قطر إلى قطر، فإذا نجحت في قطر عممت التجربة إلى سائر الأقطار الأخرى، وبذلك تتساقط الحكومات الغاصبة أو المستبدة التي تمشي على طراز الفكر الغربي والشرقي، وتترك مكانها إلى حكومات تفكر على طراز الإسلام، وفي الحديث:«إذا تغير السلطان تغير الزمان»[68].

 المسألة الحادية عشرة: في وجوب إقامة المؤسسات الحقوقية

يجب على المجتمع الإسلامي تكوين التكتلات والمؤسسات الحقوقية لحفظ حقوقه وضمان تقدمه واستقراره، كما يجب أن يسعى لإقامة دولة عصرية آمنة من الفوضى والتأخر والانهزام، وفي الحديث الشريف: «يد الله مع الجماعة»[69] فإن التكتل لأجل البناء والمنافسة في الخير وتقوية الإسلام وبلاده ليس من مصاديق التفرقة، بل من مصاديق القوة والإعداد والعزة، فلا يقال بأن التكتلات مشمولة لأدلة النهي عن التفرقة لقوله عز وجل:{واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا}[70] أو قوله عز وجل:{ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}[71] وذلك لأن المراد بالتفرق المنهي عنه ما كان من عداء وبغضاء وتفاخر، لا ما كان لأجل التنافس في الخير وتقديم الأفضل والسعي للتقدم، فذلك محبوب، بل وراجح؛ لأنه من مصاديق الأسبقية إلى الخير، وقد جرت عليه سيرة العقلاء، وقامت عليه أنظمتهم، وفي ذلك قال سبحانه وتعالى:{وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}[72] وقال عز وجل:{وسارعوا إلى مغفرة من ربكم}[73].

وقد كان التكتل منذ زمان رسول اللهJ بين القبائل من ناحية وبين الأوس والخزرج كأكبر قبيلتين قديمتين في المدينة من ناحية ثانية، وبين المهاجرين والأنصار من جهة ثالثة، وقد أقرها جميعاً رسول اللهJ، حيث كان يجعل لكل قبيلة رئيساً ولواء، ويستثمر المنافسات بينهم لأجل نشر الإسلام وتقدم المجتمع الإسلامي.

نعم يجب أن تكون التكتلات إيجابية يجمعها الهدف المشترك من قبيل وحدة الوطن وتقدمه ورفاه الأمة ونيل حقوقها، والآليات المشروعة كالشورى والتعاون والتنسيق واحترام الآخر، فهي تكتلات لأجل التعارف على ما صرّح به القرآن لا للتناكر والصراع . قال عز وجل:{إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا أن أكرمكم عند الله اتقاكم}[74].

 ولا يخفى أن الزمان الحاضر لا يمكن حصر التكتل فيه بالقبلي؛ لأن الثقافة والآلة الحديثة ونوعية الحياة وتطورها لا تنحصر في قبيلة دون قبيلة، بل اتسعت لتشمل المهن والثقافات والآداب والأفكار والفنون وما أشبه ذلك، فالكتلة أصبحت تحت وحدات عصرية، فوحدة بالصنف كالمحامين والمعلمين والفلاحين والعمال، ووحدة في الفكر، وأخرى في السياسة، وهكذا. فإذا انحشرت البلاد تحت كتلتين كبيرتين مثلاً لإبداء نشاطات السياسة تنقسم كل كتلة إلى فروع وكتل صغيرة لاحتواء مختلف نشاطات البناء والتقوية والتقدم، ولا بأس أن نتعلم من الحضارة المعاصرة أسباب قوتها لنأخذ بها. وفي الحديث الشريف: «أعلم الناس من جمع علم الناس إلى علمه»[75] وفي حديث آخر: «الحكمة ضالة المؤمن فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق»[76] وفي حديث آخر: «خذوا الحكمة ولو من المشركين»[77] وعن مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام): «أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم»[78].

ولا تخفى الفوائد الكبيرة التي تعود بها التكتلات لصالح الأمة، فإن التكتلات تعد الأرض الصالحة لتربية الأفراد، فالفرد المثقف الكفوء المجرب في هذه التكتلات هو الذي يصلح لتولي إدارة البلاد سواء في مجلس الوزراء، أو في مجلس الأمة، أو في المجلس البلدي، أو السفارات، أو الإدارات، أو المؤسسات الحكومية أو الشعبية، أو غير ذلك، وبضميمة السياق وأصالة التشريع في كلامهمE فضلاً عن دلالة الوصية في كلام الامير(عليه السلام) على الإلزام بالالتزام أو القرينة المقامية على الإنشاء قد يستفاد الوجوب.

وفي الحقيقة فإن التكتلات والمؤسسات ليست إلا مدارس التجربة الحيوية لصقل المواهب وظهور الكفاءات وتبيين المعادن المختزنة في كل الناس، فقد قال رسول اللهJ: «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة»[79] ومن الواضح أن معدن الناس لا يظهر إلا بالاختبار والتجربة، وخير ميدان للاختبار والتجربة هو التكتلات والمؤسسات.

هذا ويجب على الدولة أن توفر الحريات والخدمات الكافية للمساعدة على روح المنافسة من باب مقدمة الواجب، أو علو الإسلام[80] ونفي السبيل[81]، كما يحرم التخلف عنه مع القدرة؛ لأنه هضم للحقوق، وتضييع للواجب، وبخس للناس أشياءهم[82] .

وعليه فإنه يجب على الدولة أن توفر لكل فرد ولكل كتلة حاجتها وأسباب تقدمها، فكل من يريد مقراً لكتلته أعطي أرضاً أو بناية وتسهيلات، وكل من يريد جريدة أو مطبعة أو مجلة أو دار إذاعة أو محطة تلفاز أو فضائية أو فتح مدرسة أو ناد أو بناء مسجد أو حسينية أو مكتبة أو غير ذلك يجب على الدولة أن توفر له الوسائل، وكذا يجب على الأمة أن تهيئ هذه الوسائل والأسباب لعلو الإسلام والمسلمين، وفي مثل هذا الجو تظهر المواهب، وتبرز القدرات، ويكون التنافس الحر في سبيل التقدم، ولا فرق في ذلك بين المؤسسات  الواقعة خارج بلاد الإسلام أو في داخلها؛ ولذا كان من الضروري أن يكون من مهمة السفارات الإسلامية فتح الطريق أمام فكرالإسلام لترويجه ونشره ودعوة الناس إليه بالكلمة الطيبة ونحوها.

ومن المعلوم أنه إذا تبدلت البلاد إلى المؤسسات وحرص الناس على إعمال طاقاتهم وتفجير إمكانياتهم وكانت كلّ أقسام الحريات متوفرة لهم قفز بلد الإسلام في أقل مدة ممكنة إلى أعلى مراتب الاجتماع الإنساني، وظهر ثانياً مصداق «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه»[83]

كما ظهر مصداق قوله سبحانه:{ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}[84][85].

المسألة الثانية عشرة: في وجوب تصدي الفقيه لإقامة العدل

الظاهر استحباب السعي من قبل المجتهد الجامع للشرائط لنيل منصب الرئاسة في الدولة الإسلامية تطبيق إقامة الأحكام إذا كان يرى نفسه أكفأ من غيره، أو أراد نيل الثواب في ذلك، كما قال سبحانه وتعالى:{فليتنافس المتنافسون}[86] وأما لو توقف عليه إقامة العدل ودفع الجور وإحياء السنة وإماتة البدعة فيصبح من الواجبات، وحينئذ إن انحصر به كان واجباً عينياً، ومع العدم يكون كفائياً .

إن قلت: لكن السيرة تتنافى مع ما ذكرتم لشواهد:

الأول: إباء مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام) عن الحكم بعد عثمان مع أن الأكثرية كانت معه(عليه السلام).

الثاني: دعوة الإمام الحسين(عليه السلام) لأصحابه في التخلي عن بيعته، إذ أحل لهم البيعة، وقال لهم : "ألا وإني قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حل ليس عليكم مني ذمام هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً[87] فرخص لهم في مفارقته، ولو كان التولي من الواجبات لما أجاز الإمام(عليه السلام) لأصحابه مفارقته.

الثالث: عدم قبول الإمام الصادق(عليه السلام) الولاية حينما عرضها عليه أبو مسلم الخراساني[88].

ويتحصل من ذلك : أنه لو كان التولي من قبل الكفوء من الواجبات لقبلته الأئمةE.

والجواب : أن كل ذلك كان للتزاحم بين الأهم والمهم . أما إباء مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام) عن الحكم بعد عثمان فقد كان لأجل إتمام الحجة على الذين يشقون العصا بعد البيعة، كما أتم عليهم بذلك الحجة بعد ذلك، وقد أشار(عليه السلام) إلى شيء من ذلك في خطبته الشقشقية، حيث يقول فيها : «لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء ألاّ يقاروا على كظة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها»[89] مما يدل على وجوب القيام بالأمر مع الإمكان، فإن كان واحداً وجب، وإن كان متعدداً وجب على نحو الكفاية، فإن في ذلك أسوة بالأنبياء والأئمةE، حيث جاهدوا لأجل الحكم العادل، بالإضافة إلى أنه مقدمة لإقامة الدين ونشر العلم وقطع دابر الظلمة، وقد قال عز وجل:{أن أقيموا الدين}[90] إلى غير ذلك من الوجوه التي كانت أهم في نظر الإمام(عليه السلام) فرد الحكم بسببها.

وأما إظهار الإمام الحسين(عليه السلام) تحليل بيعته فكان لأجل أنه أراد هدم صروح الأمويين ومن على شاكلتهم بسبب المظلومية، وقد فعل ذلك بالفعل؛ ولذا وقف إلى اليوم(عليه السلام) طوداً شامخاً في قبال الحكام الجائرين، وهذه الغاية لا تتأتى إلا بما يكون في غاية المظلومية، ومراده(عليه السلام) بحل البيعة تلك التي بايعوه فيها لا البيعة التي في أعناقهم من الله سبحانه، حيث إنه إمام مفترض الطاعة، كما أن إرساله (عليه السلام) الرسل إلى أهل البصرة وأهل الكوفة لأجل نصرته كان لأجل إتمام الحجة وإظهار المظلومية.

ولا يخفى أن المظلوميّة لا تنافي تلك المجاهدات المريرة التي خاضها هو(عليه السلام) وأصحابه؛ وذلك لمزاحمته مع مصلحة التعليم والقدوة لكي يعطي طلاب الحق درساً في الثبات وإيقاع أكبر الهزائم بأصحاب الباطل وإن علم أن المصير هو الموت، هذا وربما كان ترخيص الإمام(عليه السلام) أصحابه من البيعة لوجوه أخرى.

منها: الاختبار والامتحان.

ومنها: لأجل إظهار فضل أصحابه ومقاماتهم السامية في الوقوف إلى جانب الحق والدفاع عن إمام زمانهم(عليهم السلام)؛ إذ لولا أن يرخصهم الإمام ويجيز لهم الرواح لعله لم يكن يظهر منهم كامل الفضل والمقام بثباتهم وإصرارهم على التضحية والجهاد إلى غير ذلك من الوجوه المحتملة في هذا الصدد، ولا يسعنا المجال لبيانها.

وأما عدم قبول الإمام الصادق(عليه السلام) الحكومة حينما عرضها عليه أبو مسلم الخراساني فلأنه(عليه السلام) كان بين خيارين:

الأول: أن يقبل بالخلافة والرئاسة ويقع حينئذ آلة بيد أبي مسلم وأتباعه بحكم كونه ثائراً وكانت بيده القوة، ومعنى ذلك أن يكون الإمام(عليه السلام) ستاراً لهوى أبي مسلم وجماعته، لا أن تكون السلطة والحكم بيد الإمام(عليه السلام) حتى يتصرف بما يراه صحيحاً في خدمة الإسلام والمسلمين، وهذا الخيار لا مجال للإمام المعصوم من قبوله.

الثاني: أن يقبل الحكم ويتعامل مع الناس بالقوة والقهر لاستتباب الامور فيزيح أبا مسلم بالقوة كما فعله المنصور، حيث قتل أبا مسلم، وهذا يتنزه عنه الامام(عليه السلام)، مضافاً إلى أنه يوجب تشويه قدسيّة الإمام وإخراجه عن كونه أسوة للبشرية وحجة عليها، وهذه من أسوأ المفاسد.

نعم، قبل الإمام الرضا(عليه السلام) ولاية العهد ولكن لم يكن قبوله عن اختيار حر منه، وإنما كان بالقوة؛ لأنه كان يعلم كذب المأمون، وإنما قبل أخيراً لا لخوفه من الموت الذي هدده به المأمون، بل لإرادته إسقاط شرعية حكم المأمون الذي كان يتستر بحب آل البيت(عليهم السلام) لاجل الحكم، حيث إن ولي العهد إذا تولى المقام ولم يتدخل في أي شأن من شؤون الدولة كان ذلك وصمة عار على جبين الدولة، ودلالة على عدم اعتراف ولي العهد بالشرعية، وبذلك هدم الإمام أسس دولة المأمون، إلى غير ذلك من الوجوه العقلية والعقلائية التي تجيب عن هذه الأسئلة[91].

فبناء على هذا ما قيل من أن السيرة تتنافى مع وجوب التصدي لايصلح شاهداً على عدم الوجوب؛ لأنها نشأت من العناوين الثانوية وليس من العنوان الأولي، وعليه فإنه لو لم تكن مصالح أهم أو مفاسد تترتب فإن الأصل هو وجوب تصدي الأئمة(عليهم السلام) ، كما يجب تصدي الفقهاء الذين جمعوا الشرائط من الفقاهة والإدارة والعدالة وما أشبه ذلك لإقامة الدولة.

ورب قائل يقول: ألم يكن بإمكان الأئمة الطاهرين(عليهم السلام)  أن يجمعوا أصحابهم وينظموهم ويثوروا من داخل الحكم ويأخذوا الحكم؟ بمعنى أنهم يقبلون بولاية العهد أو بالحكم، ثم يمهدون الأجواء للانقلاب الداخلي على الحكام.

والجواب: أنه كان بإمكانهم ذلك، إلا أنه تترتب عليه مفاسد كبيرة وعظيمة جداً.

منها: ما عرفته من أنه يوجب سقوط قدسّيتهم وكونهم قدوة في الصالحات، وربما يستفاد منه أن تصبح السلطة حتى عند أهل الدين هي الغاية، بحيث يمكن الوصول إليها بأي ثمن ولو خالف الشريعة، وهذا ينقض غرض الإمامة.

ومن الواضح أن الانقلابات الداخلية وما أشبهها غالباً ما تسبب المفاسد الكبيرة والعظيمة، كما تكون بدوافع شيطانية. نعم العصمة عند الإمام المعصوم(عليه السلام) تعصمه من ذلك، إلا أنه سيكون أسلوبه قدوة وأسوة يقتدي به غير المعصوم فيرتكب المفاسد الأعظم. مضافاً إلى ذلك لو انشغل الأئمة(عليهم السلام)  بتهيئة الظروف والأعوان بالانقلابات الداخلية لما كانت لديهم فرصة كافية لتقوية الدين فكرياً وعقيدياً، وتثقيف الأمة وتوعيتها بالثقافة الفقهية الإسلامية؛ وذلك لأن لوازم الحكم من الحرب والسلم وتقسيم المال والإدارة وغيرها لا تدع لهم مجالاً لتثقيف الأمة وتعليمها؛ ومصلحة وضع القانون أهم من الحكم لكونه الأساس والجوهر،  فبناء على هذا حيث إن مصلحة تقوية الدين ونشره وتثقيف الأمة وتوعيتها كانت أهم فانشغلوا بالأهم وتركوا المهم.

ومنها : أن انشغالهم(عليهم السلام)  بالانقلاب الداخلي كان يسبب غزو الثقافات الباطلة في بلاد المسلمين، فإن توسعة البلاد الإسلامية ودخول الثقافات الأصولية الغربية والشرقية كفلسفة الرومان والفرس إلى أذهان المسلمين كان من أخطر مايهدد مباني الإسلام وعقائده الصحيحة القويمة، والتي هي سبب سعادة البشر، وهذا كان بحاجة إلى أكبر قدر من العمل والجهد والتثقيف لترسيخ مباني الإسلام في الأرواح والضمائر، وهذا ما لا يمكن لأحد القيام به سوى الإمام المعصوم(عليه السلام).

وكيف كان، فإن هذا الانشغال كان لا بد من أحد أمرين : إما أن يتصدى الإمام(عليه السلام) للحكم ويقوم بذلك ولو بواسطة الانقلابات الداخلية، وإما أن ينشغل الإمام(عليه السلام) ببيان أسس الإسلام وتركيز العقيدة، وحيث إن الثاني أرجح لامتداد ذلك على طول الأجيال فاختار الله عز وجل للأئمة(عليهم السلام)  أن يقوموا بهذا الدور، ويتركوا الحكم لمصلحة أهم، فتأمل.

ومنها: أنه لا إشكال في أن توليهم(عليهم السلام)  للحكم من الملاكات المهمة، كما أن القيام بالتوعية والتربية أيضاً من الملاكات المهمة جداً، ولكن لم يكن بالمقدور قيام الأئمة(عليهم السلام)  بكلا الدورين مباشرة، وإنما كان بإمكانهم القيام بأحدهما مباشرة والثاني بالواسطة، فاختاروا(عليهم السلام)  التربية والتوعية بالمباشرة، وقاموا بالثاني بالوسائط لعدم قدرة الوسائط المتوفرة على القيام بالدور الأول على الوجه الأكمل.

وعليه فإنهم(عليهم السلام)  في الوقت الذي كانوا يشرحون القوانين الإسلامية في أسسها الفقهية كانوا يهيئون مقدمات إسعاد البشر إلى الأبد، وكانوا يعملون الأعمال السياسية بواسطة أولادهم وتلاميذهم؛ ولذا قامت الثورات الشيعية في طول البلاد وعرضها، ابتداءً من ثورة المختار[92]، ثم ثورة طباطبا[93] ووصولهم للحكم في العراق قبل سنة مائتين من الهجرة، ثم الداعي الكبير في[94]  إيران، وقبله الأدارسة في المغرب[95]، إلى غيرها من الثورات التي وصلت إلى الحكم مع غض النظر عن غيرها التي لم تصل كثورة زيد[96] وعيسى[97]  ويحيى[98]  وغيرهم.

وبذلك يكون الأئمة(عليهم السلام)  قد جمعوا بين السياسة وبين التثقيف الفكري وبين إرساء دعائم الأصول الإسلامية التي هي من أهم أسباب سعادة البشر وإنقاذهم من الخرافة، ولو اخذوا بزمام الحكم فاتهم الأمران الأولان؛ ولهذه الأمور تفاصيل تأريخية وشواهد كثيرة لسنا بصددها الآن.

والحاصل: أنّ من المستحب للإنسان الذي يجمع الشرائط السعي لنيل الرئاسة إذا رأى نفسه أكفأ، وأراد الثواب والأجر في ذلك. أما إذا توقف تطبيق الإسلام على رئاسته كان من الواجبات عليه، وقد قامت الأدلة الأربعة على كلا الأمرين، ولعل مما يشير إلى ذلك ما روي في تحف العقول عن مولانا الحسين بن علي (عليه السلام) يرويها عن مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «اعتبروا أيها الناس بما وعظ الله به أولياءه ـ إلى أن قال ـ:وأنتم أعظم الناس مصيبة لما غلبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم تسعون ذلك بأن مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله، الأمناء على حلاله وحرامه، فأنتم المسلوبون تلك المنزلة، وما سلبتم ذلك إلا بتفرقكم عن الحق واختلافكم في السنة بعد البينة الواضحة، ولو صبرتم على الأداء وتحملتم المؤونة في ذات الله كانت أمور الله عليكم ترد، وعنكم تصدر، وإليكم ترجع»[99] إلى آخر الخبر.

ولعل مما يؤيد ذلك ما روي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال : "ما منا إلا مقتول أو مسموم"[100] والحديث وإن فسر بالنبي وابنته الزهراء والأئمة الطاهرين(عليهم السلام) إلا أن السؤال هنا في أنه كيف كان نصيب حجج الباري عز وجل القتل والسم والشهادة في سبيل الله وهم خيرة أهل الأرض؟ والجواب الوحيد هنا هو أنهم كانوا يزاولون الأعمال السياسية بكل شجاعة وصمود في قبال الظالمين، ويتصدون لرفع الجور والظلم ولبسط العدل، فكانوا يتعرضون للقتل والسم من قبل الظالمين نتيجة ذلك.

ومن هنا أيضاً جاءت سيرة العلماء الأبرار قديماً وحديثاً على الاقتداء بسنتهم والاهتداء بهديهم(عليهم السلام)، فإنهم عبر التأريخ الطويل يتعرضون لمثل ذلك أيضا؛ لأنهم لم يفتؤوا يمارسون الأعمال السياسية ويقفوا بوجه الظالمين والمستبدين.

ولعل من باب تأكيد هذه السيرة وبيانها نذكر بعضاً منهم ممن زاول السياسة الإسلامية، وتصدى لإقامة العدل ودفع الظلم،ومن هؤلاء العلماء جد الشريف الرضي الحسن بن علي الملقب بالأطروش[101]، والناصر الكبير الجد الأمي للشريف الرضي جامع نهج البلاغة، حيث خرج على الظلم والظالمين في بلاد الديلم أيام المقتدر العباسي، وحكم مدة 13 سنة، واستشهد عام304ه‍في بلدة آمل من أعمال طبرستان القديمة وله من العمر 79 سنة، وله قبر ومزار معروف هناك عليه قبة جميلة[102].

ومنهم : بديع الزمان الهمذاني أحمد بن الحسين بن يحيى الكاتب الشيعي الشهير، والأديب والخطيب والشاعر الطائر الصيت، اتصل بالصاحب بن عباد، وكان صريحاً في الحق متكلماً منطقياً، فيه استشهد بالسم عام 397ه‍ [103].

ومنهم: الأزدي الأندلسي محمد بن هاني الأزدي المعروف بمتنبي الغرب باعتباره من الأندلس الواقعة غرب البلاد الإسلامية آنذاك، كان من المجاهدين بالحق، والمزاولين للسياسة في عصره، وقد عده ابن شهرآشوب من المجاهرين بالتشيع، ولد في عام 326ه‍في الأندلس، واستشهد بها قتلاً أو خنقاً على خلاف بين المؤرخين في كيفية شهادته في عام 362‍، وعمره يوم ذاك 36 سنة[104].

ومنهم: أبو فراس الحمداني العالم والشاعر المعروف الذي نقل عن الصاحب بن عباد أنه قال في حقه : بدأ الشعر بملك، وختم بملك«[105]»، يعني امرأ القيس وأبا فراس، ونقل أن المتنبي كان لا ينبري لمبارزته إكباراً له، وقد مارس السياسة، وخاض غمارها، وعمر البلاد والعباد، وقد حارب الروم عدة مرات، وأسروه مرتين، وقتل شهيداً في سبيل الله في المرة الثانية في عام358ه‍[106].

ومنهم: ابن الفرات أبو الحسن علي بن الفرات، وكان من كتّاب الشيعة في القرن الرابع الهجري من عائلة معروفة بالنبل والفضل والكرم. تولى الوزارة في أيام المقتدر العباسي عدة مرات، ونقل أن أيامه كانت مواسم للناس، قبض عليه وقتل في أيام الغيبة الصغرى سنة 312ه‍[107]».

ومنهم: أبو الحسن التهامي علي بن محمد العاملي الشامي، كان من العلماء والشعراء والأدباء في مفتتح القرن الخامس الهجري، وكان يمارس السياسة الشرعية في أيام بني العباس، فطورد واختفى وجعل يجوب البلاد والقرى متنكراً فراراً عن ظلم حكم بني العباس حتى دخل مصر، فظفروا به، وعرفوه فاعتقلوه، وأودعوه في السجن وعذبوه كثيراً وشديداً، ثم قتل في السجن سراً، ولعله قضى نحبه تحت التعذيب، وذلك في عام 416ه‍[108]».

ومنهم: أبو القاسم القزويني الشيخ عبد الكريم القزويني، كان من علماء الفقه والأصول والحديث في القرن الخامس الهجري من الطائفة المعروفة بالكردية، وكان منطقياً يقول الحق، ويصمد فيه، ويتدخل في سياسة العباد والبلاد، ويناقش الملحدين ويفهمهم حتى قتلته الملاحدة في سنة498ه‍[109]».

ومنهم: الحسن بن مفضل بن سهلان، كان من كتاب الشيعة وعلمائها وساستها، مارس السياسة، وتولى الوزارة لسلطان الدولة الديلمي، وقتل في سبيل الله، وهو الذي بنى سوراً لحائر الحسين(عليه السلام) في كربلاء«[110]».

ومنهم: الطغرائي الحسين بن علي من أحفاد أبي الأسود الدؤلي، كان عالماً فاضلاً، وشاعراً مجيداً، ولاميته مشهورة ومعروفة، وكان يزاول السياسة، ويرّوج لأهل البيت(عليهم السلام) في خطبه وأشعاره ومواقفه، وكان صامداً، تولى الوزارة مدةً، ثم لصمود مواقفه قتل ظلماً في عام 500 وبضعة عشر، وقد بلغ 75 من عمره أو تجاوزها«[111]».

ومنهم: أبو القاسم بن الفضل السيد أبو القاسم يحيى بن الفضل شرف الدين، ينتهي نسبه إلى الإمام زين العابدين(عليه السلام)، وكان من أفاضل العلماء، وله ممارسة عميقة في سياسة البلاد، فقد كان نقيب الطالبيين في العراق، عارضه الملك خوارزم شاه، وقتله بالسيف عام 558ه‍[112]».

ومنهم: الشهيد الأول محمد بن مكي العاملي الذي لا تزال كتبه وفتاواه وآراؤه مدار الحوزات العلمية الإسلامية في الفقه والأصول والحديث وغيرها. جاهد في الله حق الجهاد حتى استبيح دمه فقتل، ثم صلب، ثم أحرق بالنار في رحبة قلعة دمشق عام 786ه‍، وله من العمر 52 سنة«[113]».

ومنهم: الشهيد الثاني زين الدين العاملي، ماثل الشهيد الأول في كل المكرمات، في الشهادة والعلم والفضيلة، وكانت كتبه وفتاواه وآراؤه مدار البحث والنقاش في الحوزات العلمية الإسلامية في الفقه والأصول والحديث وغيرها. كان مجاهداً في سبيل الله حتى ضاق به حكام لبنان وحكام الروم ذرعا، وبحثوا عنه تحت كل حجر ومدر، وأخذوه في أيام الحج فقتل على ساحل البحر في قصة طويلة، وأهدي رأسه إلى ملك الروم، وترك جسده الشريف على الأرض، وكان بتلك الأرض جمع من التركمان فرأوا في تلك الليلة أنواراً تنزل من السماء وتصعد فدفنوه هناك، وبنوا عليه قبة«[114]» .

ومنهم: المحقق الكركي نور الدين علي بن حسين بن عبد العال العاملي المعروف بالمحقق الثاني، كان في عهد الملك طهماسب الصفوي، وتولى شؤون سياسة البلاد وإدارة العباد، وكان أمر المحقق الكركي نافذاً على الناس فوق أمر الملك، وكان الملك يعتبر من عماله وولاته، دس إليه السم غيلة فمات على أثره في عام 945ه‍[115]».

ومنهم: السيد القاضي نور الله التستري المرعشي مؤلف الموسوعة الضخمة المسماة بإحقاق الحق وعشرات المؤلفات الأخرى المذكورة في كتب التأريخ، تولى القضاء في الهند في العهد الصفوي، وكان مجاهداً صامداً حتى قتل في سبيل الله شهيداً في عام 1019، وكيفيته أنه جرد من ثيابه وضرب بالسياط الحديدية الشائكة حتى تقطعت أعضاؤه واختلط لحمه بدمه«[116]».

هذا وهناك طائفة أخرى من العلماء لا يسعنا المجال لذكرهم، وقد ذكر العلامة الأميني في كتابه شهداء الفضيلة الكثير الكثير ممن تعرضوا إلى القتل والسجن والتعذيب في سبيل إقامة الدين وإصلاح الأمة وتولي إقامة الحكومة والدولة.

وأما من العلماء المتأخرين والمعاصرين نذكر منهم السيد محمد المجاهد قدس سره، حيث تحرك من العراق إلى إيران لمحاربة الروم الطغاة الذين أرادوا هدم الإسلام واستعمار ديار المسلمين؛ ولهذا لقب بالمجاهد«[117]».

ومنهم: السيد محمد حسن الشيرازي المجدد الكبيرقدس سره، حيث حارب الإنكليز حينما أرادوا الدخول الى إيران باسم تجارة التبغ المعروفة، فحرم استعمال التبغ، وكان ذلك أقسى وأشد هزيمة لبريطانيا في ذلك الوقت«[118]».

ومنهم: الشيخ محمد تقي الشيرازي قدس سره الذي أعلن وجوب محاربة الاستعمار حينما أراد الدخول للعراق سنة 1337 فوقف بوجه الإنكليز، ودافع عن الإسلام وأبناء الإسلام في ثورته الشهيرة المعروفة بثورة العشرين في عام 1920«[119]».

ومنهم: العلماء الأعلام في كربلاء المقدسة والنجف الأشرف بعد ثورة العشرين، حيث ثاروا ضد البرلمان الغربي الذي أرادوا تطبيقه في العراق آنذاك، وكان هذا هو السبب في تسفير جماعة من العلماء من العراق من أمثال المرجع الديني السيد أبي الحسن الأصفهاني[120]، والمرجع الديني الميرزا حسين النائيني[121]، والعلامة الحجة السيد محمد علي الطباطبائي[122] وغيرهم قدست اسرارهم.

ومنهم: المرجع الديني السيد آغا حسين القمي(رضوان الله عليه)، حيث أخرج من إيران إلى العراق بعدما أدى استنكاره للكفر والاستعمار ضد رضا خان البهلوي إلى تهديد الحكومة البهلوية، كما ارتحل مرة ثانية من العراق إلى إيران ليطالب السلطة عندما ترأسها محمد رضا بهلوي برفض الضلال، فأخذ مطالبه، ورجع إلى العراق[123].

ومنهم: العالم الكبير السيد عبد الحسين شرف الدين(رضوان الله عليه) الذي حارب فرنسا وأفتى ضدها حتى أخرج من لبنان إلى مصر، وكاد أن يقتل، وأحرقت داره ومكتبته التي كانت تضم نفائس الكتب وقسماً من تآليفه التي كانت مخطوطة، ولا تزال المكتبة الإسلامية محرومة منها[124].

ومنهم: المرجع الديني السيد البروجردي، حيث قاوم الظلم في إيران مرتين في أيام رضا خان البهلوي حتى أشرف على القتل .

ومنهم: مراجع التقليد في العراق أيام المد الشيوعي في زمان عبد الكريم قاسم، كالسيد الحكيم والسّيد مهدي الشيرازي[125]، وولده المرجع المعاصر السيد محمد الحسيني الشيرازي[126]، والسيد الصدر حيث قاوموا وحاربوا الكفر والإلحاد والضلال حتى قتل بعضهم، وسجن وسفر جمع كثير منهم، إلى غير ذلك من سيرة العلماء الشهداء الذين تصدوا للظلم، وأرادوا تطبيق الإسلام وإقامة الدولة الإسلامية العادلة، وما ذكرناه طائفة قليلة جداً من الذين استشهدوا في سبيل الله نتيجة مزاولتهم للأمور السياسية، ومطالبة الدول والملوك بتطبيق العدل، وتصديهم لإقامة الحكومة الإسلامية العادلة. ولولا أنهم يرون أن ذلك كان من الواجبات اقتداءً بسيرة الأئمة(عليهم السلام) لما تصدوا له وتحمّلوا في سبيله المشاق والصعوبات.

والحاصل: يعرف من مجموع ما تقدم أن التصدي لإقامة الدولة الإسلامية من الضرورات، بل الواجبات التي ينبغي القيام بها.

* فصل من كتاب فقه الدولة

وهو بحث مقارن في الدولة ونظام الحكم على ضوء الكتاب والسنة والأنظمة الوضعية

** استاذ البحث الخارج في حوزة كربلاء المقدسة

*** للاطلاع على فصول الكتاب الاخرى

http://www.annabaa.org/news/maqalat/writeres/fadelalsafar.htm

......................................................

[1] سورة النساء: الآية 58 .

[2] سورة المائدة: الآية 8 .

[3] سورة النحل: الآية 90 .

[4] الوسائل: ج27 ص212 ح33619 باب 1  من أبواب آداب القاضي .

[5] مواقف الشيعة: ج1 ص56 ؛ شرح نهج البلاغة: ج4 ص89  والآية 8  من سورة المائدة .

[6] البحار: ج75 ص327 ح5 .

[7] البحار: ج75 ص327 ح5 .

[8] سورة الاعراف: الآية 56 .

[9] نهج اللاغة : ص 43 الخطبة 1 .

[10] الوسائل : ج21 ص 543 ح 27816 باب  21  من ابواب وجوب كفاية العيال؛ الكافي: ج4 ص12 ح9 .

[11] عوالي اللآلي: ج1 ص 129 ح3 .

[12] البحار: ج75 ص327 ح5.

[13] الوسائل: ج26 ص14 ح 32383 باب  1  من ابواب موانع الارث من الكفر والقتل والرق.

[14] عوالي اللآلي: ج1 ص 222 ح99 وص457 ح198.

[15] الوسائل: ج28 ص250 ح 34684 باب 4  من أبواب حد السرقة.

[16] سورة ابراهيم: الايات 32 – 34 .

[17] مشارق انوار اليقين: ص179 ؛ وانظر درر الفوائد: ج1 ص 364 .

[18] سورة النجم: الآية 42 .

[19] سورة النحل: الآية 90 .

[20] سورة النحل: الآية 90 .

[21] سورة ال عمران: الآية 159 .

[22] سورة الاعراف: الآية 199.

[23] انظر البحار: ج6 ص61 ح1 ؛ وج25 ص105 ح1 .

[24] عوالي اللآلي: ج1 ص315 ح36 ؛ البحار: ج101 ص310 ح2.

[25] سورة الاعراف: الآية 85 .

[26] للاختلاف في مسألة توكيل الناس وتنصيبهم للدولة في انه من باب الوكالة او من باب التأمين او التفويض.

[27] سورة البقرة: الآية 279 .

[28] الوسائل: ج21 ص543 ح27816 باب 21  من ابواب وجوب كفاية العيال؛ الكافي: ج4 ص12 ح9  .

[29] عوالي اللآلي: ج1 ص129 ح3 .

[30] سورة الانفال: الآية 60 .

[31] الوسائل: ج26 ص14 ح32383 باب  1  من ابواب موانع الارث من الكفر والقتل والرق .

[32] راجع نهج البلاغة: ص434 الكتاب 53 ؛ دعائم الاسلام: ج1 ص360 ؛ الوسائل: ج27 ص159 ح33481 باب 12 من ابواب صفات القاضي  .

[33] بداهة أن الحكم يتغير بحسب تغير موضوعه، كما يتبدل حكم الخمر الى الحلية بتبدل الخمر خلاً وبالعكس  .

[34] إشارة إلى ما في الوسائل : ج28 ص337 ح34900 باب 7 من أبواب حكم حد المرتد؛ مستدرك الوسائل: ج3 ص17ح2904 باب 2 من ابواب كتاب الصلاة، فراجع .

[35] الكافي: ج1 ص58ح19؛ بصائر الدرجات: ص168 ح7.

[36] سورة الأنفال: الآية 60.

[37] الفقه كتاب الحكم في الإسلام: ج99 ص36 بتصرف.

[38] سورة النساء: الآية 6.

[39] الكافي: ج7 ص408 ح2؛ الوسائل: ج27 ص31 – 32  ح33137 باب 5  من ابواب صفات القاضي؛ التهذيب: ج6 ص221 ح523.

[40] سورة الحجرات: الآية 10.

[41] سورة النساء: الآية 65.

[42] سورة الأعراف: الآية 157.

[43] سورة الأنفال: الآية 61.

[44] سورة البقرة: الآية 208.

[45] سورة النساء: الآية 75.

[46] سورة الأنفال: الآية 60.

[47] سورة الزمر: الآية 9.

[48] بصائر الدرجات: ص22  و23  ح1؛ البحار: ج2 ص32 ح20.

[49] السنن الكبرى للبيهقي: ج10، ص192.

[50] شرح الكافي: ج1 ص16ح12؛ تحف العقول: ص285؛ البحار: ج1 ص137 ح30.

[51] سورة المائدة: الآية 2.

[52] سورة النساء: الآية 75.

[53] سورة الفتح: الآية 29.

[54] سورة التوبة: الآية 71.

[55] الكافي: ج2 ص367 ح1 ؛ الوسائل: ج16 ص387 ح21836 باب 39  من أبواب فعل المعروف.

[56] عوالي اللآلي: ج1 ص40 ح41؛ البحار: ج69 ص30 ح26 .

[57] الوسائل: ج17 ص47 ح21947، باب  12 من أبواب مقدمات التجارة .

[58] انظر الوسائل: ج17 ص 30 ح21901  باب 6 من أبواب مقدمات التجارة .

[59] نهج البلاغة: ص184، الخطبة 127.

[60] سورة الأنفال: الآية 60.

[61] انظر الجواهر: ج21 ص14 ص50؛ الفقهكتاب الجهاد: ج47  ص89 وص94.

[62] سورة آل عمران: الآية 28.

[63] دعائم الإسلام: ج2 ص132 ح464؛ الوسائل: ج16 ص210 ح21379 باب 24 من ابواب الامر والنهي؛ قرب الإسناد: ص12 ح38 ؛ وانظر السرائر: ج3 ص625.

[64] سورة النحل: الآية 106.

[65] سورة الإسراء: الآية 70.

[66] شرح الكافي  للمازندراني: ج4 ص228.

[67] سورة الذاريات: الآية 56.

[68] عوالي اللآلي: ج1 ص287 ح140؛ البحار: ج74 ص165 ح2.

[69] نهج البلاغة: ص184 الخطبة 127.

[70] سورة آل عمران: الآية 103.

[71] سورة الأنفال: الآية 46.

[72] سورة المطففين: الآية 26.

[73] سورة آل عمران: الآية 133.

[74] سورة الحجرات: الآية 13.

[75] البحار: ج74 ص112 ح2.

[76] نهج البلاغة: ص481 الحكمة 80 .

[77] البحار: ج2 ص297 ح41.

[78] نهج البلاغة: ص421 الكتاب 47.

[79] الكافي: ج8، ص177، ح197.

[80] الوسائل: ج26، ص14، الباب 1 من ابواب موانع الإرث؛ عوالي اللآلي: ج1 ص226 ح118.

[81] اشارة الى قوله تعالى : {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً } سورة النساء: الآية 141.

[82] إشارة إلى قوله تعالى {ولا تبخسوا الناس أشياءهم}سورة الاعراف: الآية 85.

[83] وقد تقدم ذكر المصدر سلفاً فراجع.

[84] سورة آل عمران: الآية 139.

[85] انظر الفقه كتاب الحكم في الإسلام: ج99 ص77.

[86] سورة المطففين: الآية 26.

[87] الإرشاد: ج2 ص91 .

[88] انظر الحياة الفكرية والسياسية لائمة أهل البيت(عليهم السلام): ج1 ص291 ـ 293؛ الإمام الصادق والواقع المعاش: ص171 ـ 181.

[89] نهج البلاغة: ص50 الخطبة 3.

[90] سورة الشورى: الآية 13.

[91] لمزيد الاطلاع انظر الحياة السياسية للإمام الرضاع: ص280 ـ 310.

[92] الانتفاضات الشيعية: ص440 ـ 464.

[93] مقاتل الطالبين: ص347 ـ 352؛ جهاد الشيعة: ص318.

[94] أعيان الشيعة: ج5 ص80 ـ 88.

[95] جهاد الشيعة: ص294 ـ 296.

[96] الانتفاضات الشيعية: ص483 ـ 494.

[97] مقاتل الطالبين: ص268 ـ 284.

[98] الانتفاضات الشيعية: ص502 ـ 505 ؛ جهاد الشيعة : ص281 ـ 294.

[99] تحف العقول: ص171 ـ 172.

[100] البحار: ج43 ص364 ح6.

[101] أعيان الشيعة: ج5 ص179 ـ 184.

[102] أعيان الشيعة: ج5 ص179.

[103] أعيان الشيعة: ج2 ص570 ـ 581.

[104] شهداء الفضيلة: ص26 ـ 27.

[105] مستدرك سفينة البحار: ج8 ص176.

[106] أعيان الشيعة: ج4 ص323 ـ 333.

[107] الشيعة وفنون الإسلام: ص113.

[108] شهداء الفضيلة: ص30 ـ 37.

[109] شهداء الفضيلة: ص37 ـ 38.

[110] شهداء الفضيلة: ص39.

[111] شهداء الفضيلة: ص46 ـ 50.

[112] المصدر نفسه: ص54 ـ 56.

[113] المصدر نفسه: ص86 ـ 97.

[114] شهداء الفضيلة: ص138 ـ 139.

[115] المصدر نفسه: ص114 ـ 122.

[116] المصدر نفسه: ص177 ـ 186.

[117] انظر تراث كربلاء: ص266 .

[118] انظر نقباء البشر: القسم الأول من الجزء الأول  ص436 ـ 440؛ أسرة المجدد الشيرازي: ص49 ـ 52.

[119] نقباء البشر: القسم الأول من الجزء الأول  ص261 ـ 263؛ أسرة المجدد الشيرازي: ص141 ـ 190؛ تراث كربلاء: ص291.

[120] انظر أسرة المجدد الشيرازي: ص66.

[121] نقباء البشر: القسم الثاني من الجزء الأول  ص593 ـ 594.

[122] انظر تراث كربلاء: ص306؛ أسرة المجدد الشيرازي: ص225.

[123] نقباء البشر: القسم الثاني من الجزء الأول  ص653 ـ 654؛ وانظر تاريخ الحركة العالمية في كربلاء: ص198؛ أُسرة المجدد الشيرازي: ص204.

[124] انظر المراجعات: المقدمة من حياة المؤلف القسم الثاني من الجزء الاول  ص605 ص608 ؛ اعيان الشيعة: ج6 ص93 – 94 .

[125] انظر أسرة المجدد الشيرازي: ص271 ـ 274؛ تاريخ الحركة العلمية في كربلاء: ص204 ـ 205.

[126] انظر أسرة المجدد الشيرازي: ص289 ـ 332؛ تاريخ الحركة العلمية في كربلاء: ص208 ـ 210.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 19/حزيران/2010 - 6/رجب/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م