شبكة النبأ: الثقافة القشرية ليست
مصطلحا جديدا ولا مفهوما يتداوله المثقفون او غيرهم حديثا، فلطالما
عانت الثقافة العربية (ومن بينها العراقية) من ثقافة القشر او الشكل
الخارجي وابتعدت عن الغوص باتجاه الجوهر، ولطالما رزحت شعوبنا تحت نير
الثقافة النازعة نحو التزويق الشكلي وتعظيم الذات في آن، فثمة تعالق
واضح بين الثقافة القشرية وبين دعاة التأليه والتضخيم الذاتي وهنا تكمن
مأساتنا حصرا.
لقد جمعتني قبل أيام مع نخبة من المثقفين والادباء جلسة مع صناع
القرار (في مدينتي العربية) حيث بدأ القادة السياسيون بكلمات الترحيب
ثم عرضوا رؤاهم والمنجزات الثقافية التي خططوا لها وطلبوا معاونتنا لهم
في هذا المجال كوننا ادباء ومثقفين ومن ذوي الافكار التنويرية، وكانت
رؤاهم تنصبّ نحو اقامة المهرجانات الشعرية والاحتفاليات الثقافية وما
شابه، وكانت علامات الحماس والفرح والتفاؤل صارخة في قسمات وجوههم
وتتناثر من نثيث الكلمات الخارجة من آمالهم واحلامهم بالنهوض بثقافة
المدينة، وهي نوايا لا ضير فيها ولا اعتراض عليها، إلا من ناحية
انتمائها للثقافة الاستعراضية لتي تراود القشور ولا تذهب بعيدا الى
الاعماق التي يجب أن تذهب إليها أولا، صعودا (من العمق) الى سطح القشر
الثقافي.
ولكن هل نحن بحاجة فعلا لثقافة المهرجانات التي تضع جوهر الثقافة
واهدافها وراء ظهرها؟ وهل نحن بحاجة الى أفراد مثقفين او غيرهم يضعون
ذواتهم كواجهات وعلامات للثقافة، فيكتبون ويصرحون ويتصارعون مع بعضهم
كلٌ من موقعه الذي يرى فيه إنه (المثقف الأعلى والذات الأعظم) مختصرا
ذوات المثقفين والمفكرين في ذاته (وهذا ما نطل عليه اليوم في بعض
المواقع الالكترونية) في وقت تغيب فيه الثقافة الجوهرية الفعلية عن
المشهد تماما؟.
هل نسي دعاة ثقافة الأنا وسياسيو ثقافة القشور أننا نحتاج الى ثقافة
جوهر تنهض بالمجتمع ككل ولا تحابي النخب الثقافية والسياسية ولا تختص
بهم حصرا، وهل تناسوا أن مئات الآلاف من الاطفال والنساء والشيوخ
والشبان والرجال لايمتلكون من الوعي الثقافي ما يؤهلهم كي يعيشوا
حياتهم بطريقة تتواءم مع كرامة الانسان؟.
هل عملوا معا (مثقفو الأنا وسياسيو مهرجانات الثقافة الشكلية) على
دفع الثقافة بالاتجاه الصحيح ؟ وهل عملوا على ضخها بين الاوساط العريضة
التي تحتاجها، هل أقيمت ندوات تثقيفية في الاحياء الفقيرة، وهل حصل
الفقراء الجهلة (قراءة وثقافة وليس عقلا وحكمة) على حقهم الطبيعي من
جوهر الثقافة؟ أم أننا نرى أن تأليه الذات الثقافية وتضخيمها وصراعاتها
الجوفاء أهم من هذا الهدف الأسمى؟.
لقد انشغل مثقفونا وسياسيونا بذواتهم كثيرا لدرجة التعامي عن رؤية
ما يعاني منه الملأ الأعم من الجهل والتخلف والعيش بإسلوب يتسق مع
كرامة الانسان، فالمثقف الفلاني هو رب الثقافة والمثقف الآخر هو عرابها
والثالث صانعها بل خالقها من الجذر حتى الكمال والرابع والخامس
صعودا....، أما الآخرون فهم محض تبعية لا ترقى الى ذاته المؤلّهة
ذاتيا، فيما يوغل السياسي بتلميع القشر الخارجي للثقافة، ويتخذ من
التهويل الاعلامي للأنشطة الشكلية سبيلا لدعم اهتمامه بثقافة المدينة
او البلاد أجمعها، وكلنا نتناسى او ننسى (لا فرق لأن النتيجة واحدة)
بأن هناك أطفال يطوفون الشوارع بحثا عن المال (حاجة او نمط حياة خاطئ)
ونساء يتسولن او يختبئن في جحور الحياة بصمت وسبات الاموات من دون دور
فاعل او مشرف.
فيما يقبع الكثير من الرجال والشيوخ في قعر الجهل، ولم ينتبه أحد
من الذوات المتضخمة ثقافيا الى ذلك ولم يسهم هو او المعنيين مثقفين
وسياسيين على القيام بدورهم كما يجب، لم يبادر الرسميون او غيرهم في
المدن او البلاد على تشكيل (غرفة عمليات ثقافية) يقع على عاتقها نشر
بذور الثقافة في الاعماق والمحيطات الواسعة لشرائح المجتمع، وكل يرى أن
دوره لا يتسق مع هذه الاعباء الجسيمة.
الكل يدّعي الثقافة القشرية، وتأليه الذات الثقافية، وعندما يصل
الأمر الى الملأ الأعظم من الناس (الجهلاء قسرا) يتخلى الكل عن
مسؤولياته بل ويتعامى عنها (بفخر) ويتشاطر في هذا الاتجاه (ويعلن او
يعمل) على أنه غير معني بتثقيف (القاعدة صعودا الى قمة الهرم) بل الكل
يسير في الطريق (الأعوج) حيث يبدأ من قمة الهرم نحو قاعدته، فتكون
ثقافتنا نخبوية قشرية ضعيفة متردية تفتقر لدورها الحقيقي القائم على
نشر ثقافة الجوهر ابتداء من الطبقات الأوسع (والأجهل قسرا) صعودا الى
السفوح والقمم النخبوية التي (إما أن تكون عاجزة عن الفعل الثقافي
المؤثر، وإما أن تتقصد تضخيم الذات الثقافية وتأليهها) وبالتالي يحدث
العزل القسري لها عن عامة المجتمع فينطمر دورها او يشذ في أفضل
الحالات.
هنا لابد أن نعي ونعمل في آن على نشر (ثقافة الجوهر الأفقية) التي
تمتد الى أوسع وأكثر الناس جهلا، وذلك بالتخلي عن ثقافة القشور
الخارجية التي يعتمدها ساستنا المعنيين بالثقافة وبالتخلي أيضا عن
تأليه وتضخيم الذات الثقافية، فليس ثمة أخطر من أن تتخذ ثقافتنا طابعا
قشريا ونخبويا في آن. |