بغداد وقائمة ميرسر

عباس عبود سالم

في 26 ايار 2010 نشر الموقع الالكتروني لمؤسسة ميرسر التي تعد اهم مؤسسات التنمية البشرية في العالم تقريرها السنوي عن تصنيف جودة المعيشة في 221 مدينة من مدن دنيا الله الواسعة، وكان نصيب فيينا المركز الاول، ونصيب بغداد المركز الاخير..

 ومابين (مدينة البساتين) بغداد، و(مدينة النسيم العليل) فينا.. تتسلسلت المدن المختلفة، فقد جائت زيورخ بالمركز الثاني، وجنيف بالمركز الثالث، كما حصلت مدن عريقة على مراكز اخرى ضمن المئة مدينة الافضل، فقد حصلت لندن على المركز 39، وبرمنكهام 55، وكيب تاون 86، وتقدمت دبي المدن العربية بحصولها على المركز 75، كما حصلت ابو ظبي على المركز 83، والكويت 88، الرياض 114.

ومن المثير للانتباه ان هدوء المدن الثلاثة المتقدمة عالميا لم يجعل منها مدن تاثير، او اسقطاب سياسي، او عسكري، فمن النادر ان سمع احدنا برئيس جمهورية النمسا يهدد، او يتوعد، او ينظر، او يتدخل في ما يعنيه، او لايعنيه.. وكذلك الحال بالنسبة لسويسرا ؟

 بقي ان نعلم ان المدن التي احتلت قعر القائمة بعد بغداد، جائت بانغي في جمهورية افريقيا الوسطى، نجامينا في تشاد، الخرطوم في السودان، تبليسي في جورجيا، وكانت اغلبها تنتج المزيد من رجال السياسة، لتحتل عناوين الاحداث المثيرة او الدامية التي يشهدها العالم.

وهذا التقييم لم يخضع للامزجة او المحاباة او التعاطف القومي او المذهبي بل خضع لمقاييس علمية دقيقة، فقد وضعت مؤسسة ميرسر 39 محددا.. منها الاستقرار السياسي، البيئة الاقتصادية، الحريات الاجتماعية، الصحة، الصرف الصحي، المدارس والتعليم، الخدمات العامة، النقل، الانشطة الترفيهية، المطاعم، المسارح، توفر السلع، الاسكان، المناخ وغيرها.

 ولكون بغداد ليست مدينة طارئة على التاريخ، وعلى عكس الصحافة المحلية او العربية، فقد تناولت الصحافة العالمية الاوربية، والامريكية الامر بحيادية، وبشيء من التعاطف مع المدينة التي كانت الى الامس القريب تنزف دما، وتستنشق دخانا.. والى عمق التاريخ كانت مركز الاستقطاب الاهم، ومشعل التنوير بين قرون اوربا الوسطى الحالكة الظلام وسبقت غيرها من مدن الشرق الاوسط للتتنوير والحداثة منذ مطلع القرن العشرين.

ولاشك ان الامر محبط للبغداديين.. لاسيما الذين انقضى الجزء الاكبر من عمرهم في محارق وهمية للدفاع عن بغداد، او اعلاء شانها سياسيا، وعسكريا، وهو ما جبل عليه الناس خلال الثلاثين عاما الاخيرة عندما تركوا القلم، والمعول، والمطرقة، والمختبر، والمكنسة، وتوجهوا لعناق السيوف والبنادق.

فمنذ تاريخ طويل وبغداد توقفت عن النمو، وتوقفت عن صهر الناس في بوتقتها الحضرية.. بقدر ما اجتهدت كي تصهرهم في الحزبية، والعشائرية، والشللية، وتغذيهم بالقيم العسكرية القاسية، تعلمت المدينة من الريف عشوائية البناء، والطرق، وبدائية التخطيط العمراني، ولم يتعلم ابناء البادية و الريف منها جاذبية الحداثة، او نظامية التمدن، بل تعلموا شطارة ابناء المدن، وقدرتهم على التأقلم مع تقلبات المدينة.. التي تقفل ابوابها امام معظم ساكنيها، لتبخل عليهم بمزايا كثيرة كانت ومازالت تقدمها (فيينا) وسواها من مدن الدنيا.

 ظل فقراء بغداد يراوحون في مكان لايسمح لهم بتذوق طعم التغيرات السياسية، او المناخية، او الادارية التي تنقلها وسائل الاعلام، فكان خيارهم الانكماش الى بعضهم البعض، واذا كان انكماش الفقراء واضحا، فان تشرذم ابناء الطبقة الوسطى كان بعيدا عن الاهتمام، فلم يلتفت احد لتمزق ابناء هذه الطبقة الى ارب تسقط اجزاء منها في مستنقع الفقر والنسيان، واجزاء اخرى تتشظى لتلجأ الى مدن بعيدة.

 وكل ما تمكن حاكم بغداد من فعله هو تحريم التملك فيها للمواطن الذي لم يسجل اسمه في سجلاتها قبل عام 1957م، حتى ان كان مسقط رأسه على ارضها الطينية الرخوة، ويمكن لفيينا ان تملكه مايشاء بمجرد ان تطأ قدماه ارضها سنوات معدودة، فبغداد لم تتعود الا فتح باب الواجبات اذا احتاجت (اسوارها) الى دماء جديدة، كي تكون عصية على الاعداء؟؟؟

 وفي لحظة انتظرناها طويلا علها تضمد جراح المدينة، جائت لكنها حملت تناقضات كثيرة فقد اختلط السراق بالمنتقمون في ثورة سلب ونهب، اسهمت في دخول غرباء حرقوا، وسلبوا، وجلدوا المدينة بسياطهم الجبانة، فلم يكن التحول نعمة مطلقة على المدينة، ولم تتمكن الحرية الجديدة من العودة بالمدينة الى ماضيها التنويري، فقد البس البعض حداثة الديموقراطية ثياب الطائفية، والعنصرية، لتتحول المدينة الى منتدى للتجارة السياسية.

  وهذه التجارة تقوم على انتاج الكذب والنفاق، والصراعات، والتسقيط، وبث الاشاعات، واشاعة الوهن المعنوي، وبخس الناس افعالهم، وانجازاتهم، والشكوى، والتذمر، والتلويح بخطر الحرب الاهلية، او الدفع باتجاهها، فلم يسمع الناس من بعض الساسة الا الحديث عن فئة سوف تغدر باخرى، وعن انشقاق سيحصل، وعن سكاكين اعدت لتوضع في خاصرة الحكومة السابقة، او اللاحقة.

لذلك فالسياسة لاتصلح حال المدينة بقدر ماتفسدها، لأن امر بغداد اكبر من ان تعالجه حكومة مقيدة بتشريعات قديمة ليست ملائمة للنهوض، وأخرى جديدة مقيدة للهمم، فعلينا ونحن نتناول الامر ان لانغرق في التلويم، وتحميل شخص بعينه، او حزب بمفرده، علينا ان نتحمل جميعا المسؤولية عن ذلك، بدا من المواطن الذي يرمي عقب سيكارته وسط الشارع، الى السياسي الذي يرمي سكارته على الناس، وينفذ دخانها من شاشات الفضائيات ليخلط ويحرق الاوراق امام المواطنين.

بغداد لم يسقطها الامريكان ابدا يوم ازاحوا جلاوزة البعث الذين جثموا على صدرها، لقد اسقطها البعض من السياسيين الذين لم ينتجوا الا القول دون العمل، وبغداد لاتحتاج لمن يعرف لها الحرية والديموقراطية، ويتحدث عن المجتمع المدني، وهو محاط بابناء عمومته وحاشيته المرتبطة معه برابطة الدم والمذهب.

 بغداد بحاجة ماسة الى كناسي شوارع يزيحون عنها غبار الاهمال والتقاعس، محتاجة لسواعد قوية، تدحرج اصنام التصلب والجبن والترهل، محتاجة الى انامل تتقن النقش على جدرانها وتسجيل تاريخها على واجهة المستقبل، محتاجة لعقول الاطباء، وخيال الفنانيين، وحكمة المفكرين، وتأمل الشعراء، ومهارة الرياضيين، بغداد بحاجة الى مقاومة شريفة للتصحر المعنوي، والثقافي، بحاجة الى ايقاف التسابق نحو جني الثمار، بغداد بحاجة الى رجال يعطون اكثر مما يفكرون بالاستفادة، حينها ممكن ان تقف بغداد على طريق المئة ميل الذي يضعها في موقعها الذي تستحق.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 15/حزيران/2010 - 30/جمادى الآخرة/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م