تتطلع الأمة في كل انتخابات نيابية إلى رؤية وجوه جديدة أو التفاؤل
بوجوه قديمة كانت قد تركت بصماتها الطيبة في الدورة السابقة، إذ تمثل
القديمة ثروة وطنية تعمل على ترشيد عمل الحكومة فيما تشكل الجديدة طاقة
شابّه تغذي نهر العملية السياسية، وحيث يتفاءل المرء بيوم الجمعة وهو
عيد المسلمين ومن في كنفهم من الأديان الأخرى، لكن القلق في يوم الجمعة
(4/6/2010 م) اعتصر قلبي على مجلس النواب العراقي الجديد، لأن بعض
الوجوه القديمة آبت إليه لكون أحزابها مثلها لم تجد ما تقدمه للشعب
فتجود به.
رب سائل يسأل، وما علاقة هذا اليوم بالتحديد بواقع مجلس النواب
العراقي ومستقبل العراق؟
في الحقيقة، شهد هذا اليوم زوال آخر نقطة حبر من على ظفر الخنصر
الأيمن الذي غرسته في المحبرة البنفسجية في لندن يوم 6/4/2010 م
للانتخابات النيابية التي جرت في عموم العراق يوم 7/4/2010 م، وقد زالت
قسرياً بتقليمي للظفر، ولو تركته لبقيت فترة أطول، وما أن زال وبعد
انقضاء شهرين من التصويت حتى عادت بي الذاكرة إلى جلسة مجلس النواب
السابق في 12/9/2009 م التي تم فيها استجواب السيد فرج الحيدري رئيس
مجلس المفوضين في المفوضية العليا المستقلة للإنتخابات، وفيها دعا
النائب المستجوب الذي كان يقرأ نصّا محرَّراً(!) إلى سحب الثقة من
الحيدري بسبب لعنة الحبر الذي يزول بمسحوق غسيل الصحون، وتحرير
المفوضية منه!
هل يصدّق المرء أن الحبر البنفسجي أزاغ أنظار 120 نائبا وجعل من
مزاجهم البرتقالي نرجسيا فوقَّعوا على طلب استجواب مفوضية الانتخابات
ومن ثم سحب الثقة منها؟
جلسة ولا كل الجلسات تذكِّرنا بعادل إمام ومسرحية "مدرسة المشاغبين"،
وهي كذلك لأن بعض المستجوبين عادوا إلى مقاعدهم القديمة عودة الراسب
المعيد في صفَّه، كما أعاد عادل إمام!
في الحقيقة أن النواب لم يغضبوا على الحبر ولم يغضبوا للشعب
والملفات المعطلة والمؤجلة والمجمدة في درج رئاسة المجلس، وإنما أرادوا
كسر المحبرة في وجه الحيدري حتى يجدوا ما يقنعوا فيه قواعدهم على قصر
مساحتها الإنتخابية ويبرروا عزوف الناخب العراقي الذي فضّل تجاوزهم في
انتخابات مجلس المحافظات التي جرت في 31/1/2009 م، فعزموا على الإنتقام
من الشعب بالمفوضية فالمحبرة البنفسجية هي استثناء في الانتخابات وليست
هي الأصل وإن أصبحت شعار عافية العراق الجديد، والذي ملأ مجلس النواب
صخبا وضجيجا بسبب فقاعات غسيل الصحون ومزيل الدهون(!) إنما استحضر في
استجوابه أن العراقيين مشكوك في ذممهم وأماناتهم(!) لأن المستجوب يعرف
سلفاً أن إمكان التزوير بهذه الطريقة قليل جداً ولا يقدم عليها إلا
معدوم الذمَّة والضمير، ولا نزيد على ذلك والعاقل تكفيه الإشارة.
تذكرت جلسة غسيل الصحون ومزيل الدهون في يوم الجمعة الذي يستحب فيه
الطهارة النفسية قبل البدنية، وضحكت من أعماقي أسىً على مجلس يضم شبه
تجار أفلسفوا فراحوا يفتشون عن ديون قديمة وأوراق صفراء؟
ومن المفارقات أنه وفي اليوم نفسه سقطت من فتحة الباب ورقة بيضاء
فيها إعلان يبشر سكان حيِّنا بقدوم النائب النيابي وعدد من أعضاء
المجلس البلدي في اليوم التالي، وما على الراغب في الحديث مباشرة مع
النائب إلا أن يضع الورقة على نافذة البيت، ليعرف وكيل الأمة أن هذا
البيت أو ذاك يطلبه حثيثا، وكان لي ولنجلي الكبير طلبان يخصّان مصلحة
الحي وسكانه أحدهما خدمي والآخر رياضي، وفي اليوم التالي طرق النائب
بابنا مع مجموعة من أعضاء المجلس البلدي، وبعد التحية والسلام استمع
لنا فيما كانت عضوة المجلس البلدي تقيّد ملاحظاتنا في دفتر خاص،
وواعدنا خيراً.
أغلقت الباب بعد أن ودَّعَنا النائب بابتسامة كما استقبلناه بها،
والحسرة تعتصر قلبي، وتساءلت هل يشهد العراق نواباً يطرقون أبواب
المواطنين ويستمعون إليهم، كما في الديمقراطيات المتحضرة؟
عندما أنظر إلى الوجوه القديمة المفلسة التي تسللت عبر بوابة مجلس
النواب، يتملَّكني الألم على عراق نوابه بحاجة إلى معاهد تعليم وتأهيل،
في المقابل عندما أنظر إلى وجوه قديمة أخرى عائدة أبلت من قبل بلاءاً
حسناً وأوقفت العراق على قدميه وانتشلته من بين ركام حرب أهلية كادت أن
تجعل الولدان شيبا، وجعلت الأسرة العراقية تتنفس الصعداء في ليل بغداد
والبصرة والموصل بعد أن كانت تعتكف في بيتها قبل حلول المغرب، عندها
يغمرني الأمل، وأعلل النفس بمستقبل زاهر يرقبه الجميع.
ولكن مع هذا لا نفقد الرجاء في تلك الوجوه التي جعلت من مجلس النواب
العراقي مسرحا للشغب من أن تنقذ نفسها من وحل الصبوة السياسية وتتجاوز
عتبة المراهقة، كما وأن الأمل معقود بنواصي النواب الجدد لتجاوز عقبات
الماضي وطرق أبواب الناس بالمباشرة أصالة أو بالوكالة عبر فتح مكتب في
المدينة يستقبلون فيه الناس بلا استثناء، ولا ينسى نواب الشعب أن
أنبياء الله كانوا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وليس معهم مَلَك،
خلافا للقاعدة الإستعلائية المستحكمة في بعض العقول، صحيح أن المهمة
ليست بالسهلة حيث السلاح في أيدي الناس بلا حساب أو رقيب، ولكنَّ من
الصحيح أيضاً أن من وظيفة العملية النيابية (الديمقراطية) أنسنة الشارع
العام وتوليف المختلف وتوثيق المؤتلف، وهذه مهمة المصلحين تبدأ من
الأعلى والناس على دين ملوكهم، يكونون حيث يكون القادة.
* الرأي الآخر للدراسات- لندن
[email protected] |