سيادة وسلطة الدولة في الأرض والإقليم

الشيخ فاضل الصفّار

المراد من الإقليم هنا الأرض التي تقوم عليها سلطة الدولة، وتفرض عليها سيادتها، ولا يقتصر الإقليم على اليابسة فقط، بل يمتد أفقياً إلى المياه الإقليمية وعمودياً إلى المجال الجوي الذي يعلوهما وأعماق البر والبحر لتلك الأرض.

والإقليم عنصر مهم في بناء الدولة؛ إذ تقوم وتستقر المجموعة الوطنية في داخله، وتنتظم السلطة السياسية في إطاره بشرط قيام الدولة، وتستقر الجماعة الوطنية بصورة دائمة داخل الحدود الإقليمية، فالبداوة وحياة الرحّل وإن كانت تشكل ظاهرة جغرافية اقتصادية واجتماعية إلا أنها لا تنهض إلى مرتبة الدولة بالمعنى التشريعي المتعارف؛ وذلك لكون سلطتها تفتقر إلى أرضية جغرافية محددة.

إذاً الإقليم يحدد مسألة تعيين حدود الدولة حيث تمارس السلطات الحاكمة والمحكومة النشاطات كافة بحرية تامة، فالحدود تشكل الحد الذي تنتهي عنده صلاحيات الدولة، ولعل هذا كان أحد أسباب فشل جملة من النظريات السياسية المعروفة؛ لأنها قامت على مبدأ الأرض السائلة في تكوين السلطة، كالنظرية السوفياتية القديمة التي تقول بالأرض السائلة، وترتكز على العقيدة الشيوعية القائلة بالسيطرة على العالم، ومثلها ما تؤمن به الصهيونية حيث قالت: بأن دولة بني صهيون تمتد من النيل إلى الفرات. وقد برزت هذه النظريات بشكل قوي في الفكر النازي أيضاً بنظرية المجال الحيوي، وقد أطلق على الرايخ الألماني الثالث صفة دولة الحدود المتحركة.

وكيف كان، فإنّ المقصود من الإقليم هنا هو الأرض التي تقوم عليها السلطة، وتسعه قدرتها وسيادتها.

صفات الإقليم

يتسم الإقليم بجملة صفات من أبرزها ما يلي:

الصفة الأولى: أنه عنصر لازم لتكوين شخصية الدولة.

الصفة الثانية: أنه الموضع الذي تمارس فيه الدولة سلطاتها السياسية.

الصفة الثالثة: أنه يحدد سيادة الدولة، وتتميز سيادة الدولة بالقدرة على ممارسة بعض الوظائف القانونية من تشريعية وإدارية وقضائية، كما أنه لا يحق لأي دولة أخرى التصرف على هواها بالإقليم الوطني الخاص، فعليه يتوجب على المقيمين على أرض الدولة من مواطنين ورعايا الخضوع لسلطة الدولة، غير أن واجب الخضوع لإرادة الدولة ينتج عنه في المقابل واجب الدولة بحماية واحترام حقوق الدول الأخرى ورعاياها، كما عليها واجب حماية مواطنيها واحترام حقوق المواطنين الذين يعيشون في الإقليم المحدد للدولة.

ولا يخفى أن للإقليم دوراً هاماً في وحدة الأمة وقوتها؛ إذ تنعكس آثار الإقليم على الدولة والمواطنين، فبالنسبة للدولة يشكل الإقليم أحد العناصر الرئيسة التي تكوّن شخصيتها وتعطيها وجودها، وهو الإطار الجغرافي الذي تمارس الدولة في داخله كامل سيادتها واختصاصاتها، وتقوم بكافة الإجراءات التي يمكن تطبيقها على الأرض للمصلحة العامة، وهذا العنصر يرتدي أهميةً رئيسيةً في تكوين الدولة؛ لأنه الامتداد الجغرافي لها، وهو الذي يميزها عن باقي المجتمعات الضيقة كالتي كانت سائدة في عصر الإقطاع والعصور التي سبقت تكوين الدولة العصرية بمساحاتها الشاسعة.

ومما لا شك فيه أن كل مجتمع يتكون من مجموعة بشرية توجد على قطعة أرض، والأرض تشكل القاعدة التي تتحد عليها الجماعات البشرية المتمدنة، فهي بالنتيجة تحدد البعد الجغرافي وحدود السلطة العامة للدولة، وبذلك تبرز فكرة حدود الدولة التي تعين عن طريق المعاهدات والاتفاقات مع الدول المجاورة، واعتراف الدول المتبادل الضمني أو العلني بالحدود الجغرافية لكل دولة من شأنه أن يثير مسألة سيادة الدولة على أرضها، واحترام هذه السيادة في ضمن هذه الحدود التي تتمتع الدولة فيها بكامل الصلاحيات، فبوسعها اختيار النظام السياسي والتشريعي الذي ترتأيه لتطبيقه على الجماعات البشرية التي تعيش ضمن حدودها بالشرائط والموازين العقلية والشرعية الخاصة، فالحدود تشكل إذاً شرطاً لاستقلال الدولة وحقلاً لتطبيق إرادتها، فالعنصر الأرضي ملازم للمجتمع السياسي.

ولا يخفى أن الإقليم هو البوتقة التي تصهر حياة الجماعات وتمزجها مزجاً ليكسبها شخصية خاصة تميزها عن غيرها من الجماعات المجاورة، فالإقليم عامل أساسي في توحيد الجماعات التي تقطن في أرض الدولة، فالإقامة المستمرة والدائمة لهذه الجماعات على الأرض وتفاعلها معها تبعث فيها روح التضامن وتوطيد الميول القومية أو الوطنية، ورغبة العيش المشترك، وحب الوطن والدفاع عن أرضه وحدوده وبنائه، والسهر على تقدمه والسعي في إنمائه.

فالإقليم إذاً يبعث الإحساس لدى الجماعة بوجودها، ويحثها على الدفاع عن هذا الكيان والوجود، غير أن مهمة الدفاع تقع على عاتق الدولة؛ لكونها متبلورة، وتتولى تنظيمه وإدارته وخلق التضامن فيما بين أفراده، فتشتد الروابط بين الدولة والمجتمع، وبالتالي يصبح الإقليم مرتبطاً بفكرة الدولة، بل وهو عنصر أساسي في نشأتها وتكوينها، كما هو شرط لاستقلاليتها وحقل لتطبيق سيادتها.

الأرض في المنظور الفقهي

والظاهر أن الفقهاء لم يبحثوا مسألة أرض الدولة وكون الأرض إحدى مكونات مفهوم الدولة بالمعنى الذي يتداول في الاصطلاح السياسي المعاصر، وإنما بحثوا مسألة الأرض من منظورين:

أحدهما: المنظور السياسي

 وذلك يبحث من حيث علاقة الأرض بالأمة والدعوة، ومن هذا المنظور تكوّن مفهوم ومصطلح دار الإسلام في مقابل دار الحرب أو في مقابل دار الحرب ودار الحياد ودار التعاهد كما يظهر من كلمات الفقهاء في باب الحدود والتعزيرات، وإحياء الموات والصلح وما أشبه ذلك، والسبب في ذلك أن القرآن لم يرسم حدوداً للدولة الإسلامية بالمعنى المتعارف؛لأنه ينظر إلى الأرض كلها موطناً للعقيدة الإسلامية ومجالاً لسيادتها، فرسالة الإسلام للعالم كله، وهذا يعني أنه ليس هناك حدود ضيقة للدولة الإسلامية.

أما ما ذهب إليه بعض الفقهاء من تسميات فليست إلا من منطلق معالجة الأمر الواقع من الزاوية الحقوقية من باب عدم سقوط الميسور بالمعسور، وأن ما لا يدرك كله لا يترك جله[1] المجمع على العمل به[2]، ولأجل ترسيم معالم الأحكام الشرعية على أضواء التصنيف الفقهي بين دار الإسلام ودار الحرب، وهناك من أضاف مصطلحاً ثالثاً هو دار التعهد، فهذا التقسيم ليس سياسياً، بل هو قضية حقوقية فرضها الأمر الواقع والممكن من تطبيق الأحكام الذي يستوجب توضيح الأحكام الشرعية بالنسبة إلى سكنة دار الإسلام ودار الحرب والتنقل بينهما.

وعليه فطالما كانت هناك دعوة متواصلة للإسلام وهداية إلى البشرية فإن مساحة الدولة الإسلامية في تغير مستمر؛ ولذا فإن التعامل مع دار الإسلام هو تعامل فقهي حقوقي، حيث تترتب على الأرض أحكام شرعية، فاضطر الفقهاء أن يأخذوا بحدود الدولة الإسلامية كأمر واقع لإصدار الأحكام الشرعية في مختلف الشؤون الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية.

وأول أرض أقيمت عليها الدولة الإسلامية كانت المدينة المنورة، حيث كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قبيل الهجرة إلى المدينة في بحث دائم عن مكان مناسب لإقامة الدولة بعدما أدرك استحالة البقاء في مكة، فذهب إلى الطائف، وتفاوض مع القبائل التي كانت تعيش حول مكة لكن دون جدوى، فذهب إلى يثرب وخطط من أجل الوصول إليها وإقامة أول حكومة للإسلام فيها؛ إذ كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يتحرك من أفق واسع يرى ضرورة قيام دولة؛ لأن وجود الدولة سيحقق بناء الأمة ويحولها إلى كيان منظم يخدم الرسالة، ويدخل البشر في دين الله أفواجاً، وكان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في ذلك يبحث عن عناصر تكوين الدولة، ومنها الأرض المناسبة للدعوة التي ستمتد عليها، وتنتشر منها سيادة الإسلام، والتي تشكل من المؤمنين الذين يسكنون فوق ترابها قوة عسكرية واقتصادية، ومن هنا ذهب إلى المدينة، وقد وضع حجر الأساس لقيام الدولة عبر تأسيسه للمسجد كقاعدة أولية للسلطة على الأرض، ولم يكتف النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بالمدينة، بل نشر الدعوة في مختلف أرجاء الجزيرة، وكانت تضاف في كل مرة أجزاء من بلاد المشركين إلى الأرض الإسلامية بالإسلام أو السلام أو الفتح.

ومن هنا اصطلح الفقهاء على هذه الأرض بدار الإسلام، فإن لدار الإسلام حدوداً وحدودها هي العقيدة، وقد عبّر القرآن الكريم عنها بلفظ الديار، وربط بينها وبين الدين في قوله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين* إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون}[3] إذ كان لا بد من الدفاع عن هذه الديار لأنها الأرض التي يقوم عليها الدين، وتنهض عليها سلطته، فكان الإخراج بالقوة من الأرض أحد مسوغات الجهاد؛ لأنه يتضمن استرداد الحق المسلوب والدفاع عنه، كما قال تبارك وتعالى: {قالوا وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا} [4] فترتبط بحدود هذه الديار أحكام فصلها الفقهاء في كتبهم الفقهية.

ومما يؤكد سعة حدود الإسلام جملة من الآيات الكريمة التي نصت على أن الإسلام دعوة عالمية لكل البشر، منها قوله سبحانه: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا} [5] وقوله سبحانه: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [6].

إذاً الإسلام آخر الرسالات، والنبي الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) خاتم الرسل، وقد بعثه الله سبحانه لكل البشر، وجعل الأرض كلها موطناً لعقيدته، فليست هناك حدود للدولة الإسلامية، فطالما هناك أرض فلا بد أن يدخلها الإسلام، وكان واجباً على المسلمين إبلاغ هذه الرسالة لكل من يعيش فوق هذه الأرض، وهذا يستلزم أن يكون الإسلام قد محا الحدود الخاصة للدولة، كما أن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يضع حدوداً لدولته، فأينما كانت أرض يابسة يعيش فوقها إنسان لا بد أن يصل إليها الإسلام لتصبح جزءاً من الأرض التي تدين به.

وإذا أردنا أن نجمع بين الفكرتين: الأولى: القائلة بحدود للدولة الإسلامية، والثانية: القائلة بأن لا حدود لها، بل الأرض كلها حدود للدولة الإسلامية- فربما يمكننا أن نقول: ليس هناك حدود ثابتة للدولة الإسلامية طالما هناك دعوة للإسلام، وهناك حاجة وفراغ في البشر ينبغي إيصال الهداية إليه، فحدود الدولة تتسع مع اتساع رقعة المؤمنين بالإسلام، فهي إذاً حدود غير ثابتة، بل في تغير مستمر تتوسع مع توسع العقيدة الإسلامية. هذا من حيث الرسالة والدعوة لكن من حيث الكيان السياسي والدولة بمعنى السلطة لا يمنع من الالتزام بالحدود العقلائية للأقاليم والدول بحسب الأعراف المحلية والدولية القائمة من باب الميسور لا يسقط بالمعسور وما لا يدرك كله لا يترك جله على تفصيل ستعرفه بعد قليل.

ثانيهما: المنظور الاقتصادي

أي المنظور الاقتصادي للأرض من حيث الأحكام المتعلقة بالأراضي ذات الملكية العامّة، وهي الأراضي الخراجية وأراضي الأنفال ونحوها من أقسام الأراضي التي فصلها الفقهاء في كتاب إحياء الموات والمكاسب المحرمة، ولتحقيق الحال في المسألة ينبغي التمييز أوّلاً بين الأمّة والدولة في حالة عدم تطابقهما في كيان سياسي واحد عند البحث عن عنصر الأرض في التكوين السياسي لهما، فالأمّة المسلمة ليس لها وطن جغرافي خاص كما عرفت ومحدد بحدود ثابتة؛ لأن الدولة الإسلامية لم تتكون على أساس عرقي أو لغوي أو أي أساس آخر للاجتماع البشري، بل تقوم على الانتساب الى أرض معينة في حالة سابقة على تكوين الأمة حتى يقال: إنّ أرضه هي أرض الأمّة.

 لقد تكونت الأمّة الإسلامية على أساس الاعتقاد بالإسلام والالتزام به عقيدة وشريعة دون أي اعتبار آخر، وسيبقى أساس تكونها دائماً هو الإسلام دون أي شيء آخر مستقل عن الإسلام أو منضم اليه؛ ولذلك فإن الأمة المسلمة في حالة تكوّن ونمو مستمرين، ولن تكتمل إلاّ إذا استوعبت الجنس البشري كله، وهي لذلك كيان مفتوح لاستيعاب مسلمين جدد والنمو والاتساع بهم، وليست مغلقة على أقوام مخصوصين لا تتعداهم إلى غيرهم كاليهودية؛ لأنها أمّة إيجابية تحمل مهمّة الدعوة الموجّهة إلى الناس أجمعين، بما فيهم غير المسلمين المدعوّين إلى الدخول في الإسلام، وكل إنسان جديد يدخل في الإسلام فإنه تدخل معه أرضه إلى دار الإسلام الذي تتسع باستمرار منذ بدأت في المدينة حتى بلغت إلى ما هي عليه الآن في شتّى بقاع العالم.

دار الإسلام

ودار الإسلام هو المصطلح الفقهي الذي استعمله الفقهاء للدلالة على الشخصية الجغرافية للأمة المسلمة، وهي تكون حيثما وجد مسلمون ورفع شعار الإسلام ومورست عبادته وشريعته؛ ولذلك فدار الإسلام لا تنحصر في حد جغرافي ثابت لا تتعداه؛ لأنها مفهوم جغرافي مستمر النمو والاتساع على الأرض، كما أن الأمة الإسلامية مفهوم مستمر ومتسع في البشر، لكن العلاقة بين الأمة المسلمة بما هي أمة لا بما هي دولة وبين دار الإسلام الأرض ليست علاقة السلطة السياسية التي تتطلب حق الأمر والنهي، بل هي علاقة تخول المسلمين الحق في أن يسكنوا أو يتنقلوا في دار الإسلام دون عوائق وقيود، وتخولهم حق العمل والكسب على هذه الأرض وفيها.

إذاً فللأمة سلطة ملكية، وحق الانتفاع سلطة الملكية الخاصة لمالك رقبة الأرض عليها، وسلطة حق الانتفاع للأمة في الأراضي ذات الملكية العامة كالأراضي الخراجية والأنفالية، وليس لأحد سلطة سياسية على أرض دار الإسلام أو على المسلمين بما هم مالكون وأصحاب حق انتفاع، ولن تنشئ الشريعة على مستوى الأمة سلطة من هذا القبيل. هذا بالنسبة إلى الأمة المسلمة والأرض بمعنى دار الإسلام.

وأما الدولة فلا بد وأن يكون لها وطن جغرافي خاص بها، وهو ما يعبر عنه في اصطلاح القانون السياسي اليوم بالإقليم، وله حدود جغرافية تميزه وتميزها عن الأوطان والدول الأخرى، سواء أكانت هذه الدولة ضمن دار الإسلام، بحيث تكون الحدود الجغرافية لها مع أرض أهلها مسلمون لهم دولة وسلطة أم ليس لهم دولة، أم كانت حدودها مع أرض أهلها غير مسلمين، قد تكون دار حرب أو دار حياد أو دار تعاهد، ففي كلا الحالين لا بد من أرض محددة، ولا يمكن تصور دولة وسلطة حاكمة على شعبها من دون أرض محددة لسلطة الحكومة الإسلامية في هذه الدولة، ولا يمكن للحكومة أن تمارس السلطة من دون أرض كما هو واضح؛ وذلك لأن ماهية الدولة والحكومة تتقوم بالسلطة السياسية التي تتضمن حق الأمر والنهي والطاعة بالمعنى السياسي، وهذا يقتضي أن تكون علاقة الحكومة بالأرض التي يسكنها شعب تلك الحكومة علاقة سلطة فوق سلطات أفراد الشعب على الأرض بما هم مالكون لرقبتها، أو لحق الانتفاع بها، وهي سلطة تشرع للحكومة بمقتضاها أن تحدد وتقيد سلطات أفراد الشعب على رقبة الأرض وعلى حق الانتفاع، بل وإلغاء حق الانتفاع في بعض الحالات عند التعارض لتقدم أهمية السلطة على أهمية سلطة الأفراد على أنفسهم وأموالهم.

 وموضوع هذه السلطة السياسية وحدودها ليسا مطلقين على كل أرض يسكنها مسلمو دار الإسلام، وإنما يتحددان بالقدرة على إعمالها بحسب ولاية الحكومة المستمدة من شعبها الذي يملك الولاية على نفسه وأرضه بمقتضى قاعدة السلطنة[7]، ولا ولاية له على أرض شعب آخر لم ينصب هذه الحكومة، ولم يولها أمره من باب السلطنة أيضاً، فمن البديهي أن لا يكون لهذه الحكومة سلطة على هذه الأرض الخارجة عن حدود ولاية شعبها أو رضاهم، فيتعين إذاً أن تكون أرض الدولة هي الأرض المنسوبة إلى الشعب الذي تتولى أمره وتحكمه بتوليته إياها ونصبه لها، ولا تتعداها إلى أرض أخرى يملكها ويملك حق الانتفاع بها شعب آخر.

ومن هنا يتبين أن إهمال الفقهاء المسلمين لبحث هذا العنصر لم يكن ناشئاً من عدم اعتباره في مفهوم الدولة، فضلاً عن القول بعدم وجود فكرة الدولة في الإسلام، وإنما هو ناشئ من ملابسة مفهوم الدولة عندهم لمفهوم الأمة واتحاد المفهومين في الصدق الخارجي والوجود التأريخي عند إنشاء الدولة الإسلامية في المدينة المنوّرة على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وبعده طيلة الفترة التاريخية التي كانت دولة المسلمين فيها تمارس سلطة فعلية، أو شكلية على جميع دار الإسلام، فقد كانت أرض الدولة الإسلامية تشمل جميع مساحة ما سمي فيما بعد بدار الإسلام، حيث توجد وتعمل الأمة الإسلامية، ولم يحدث أن كان السلطان السياسي للدولة أضيق من الانتشار الجغرافي للأمة.

 ومن هنا فإن الفقهاء المسلمين حين كانوا يبحثون دار الإسلام وأحكامها كانوا يبحثون أرض الدولة التي هي في الوقت نفسه دار الإسلام، وهي أرض الأمة للمساواة الحقيقية بينهما، ولم يلحظوا في أبحاثهم عندما كانت الأمة لا تزال موحدة من الناحية السياسية التنظيمية في دولة واحدة انقسام الأمة إلى دول وانقسام دار الإسلام إلى أراض لهذه الدول، ولكنه حينما بدأت الأمة تشكل نفسها في صيغ تنظيمية سياسية متعددة كما هو المتعارف عليه اليوم بحثوا عن مشروعية تعدد الأئمة والولاة والحكام، وأجازه المشهور وفقاً لمعايير خاصة ربما سنتعرض إليها في المستقبل إن شاء الله تعالى؛وذلك لجهة أن هدفية السلطة إقامة العدل ونشر الدين وخدمة الإنسان.

ولا مانع من أن تكون للأمة الإسلامية بما هي أمة متعددة اللغات والقوميات دول متعددة منفصلة عن بعضها، أو متحدة في نظام يوحدها في الاقتصاد والجيش والشؤون السياسية كما قد يصطلح عليه بالفيدرالية، أو غير ذلك كالكونفدرالية، وإن كان إرجاع الجميع إلى دولة واحدة هو الأسلم، وهو هدف بذاته إلا أنه إذا تعذر ذلك لمانع جغرافي أو سياسي عام دولي أو داخلي فإنه لا مانع عقلي أو شرعي من وجود أكثر من نظام إسلامي ما دام الجميع يحكم بالإسلام وعلى طبق موازينه، وهذا ما يقتضيه حكم العقل أيضا.

 وعليه فإن انقسام الأمة الواحدة إلى أقاليم متعددة اختيارية أو قهرية لا يمنع من تكوين دولة لكل إقليم بما له من خصوصيات شعبية، ويرجع الجميع إلى هدف واحد ونهج واحد في المبادئ والأهداف من جهة أن الميسور لا يسقط بالمعسور، حتى يقال: إن الدولة الإسلامية إما أن تكون واحدة أو لا تكون، وعلى هذا فإن لعنصر الأرض الإسلامية بما هي موضوع للسلطة السياسية وسيادة الدولة عليها حالتين:

الأولى: حالة تطابق مفهوم الأمة ومفهوم الدولة في مصداق خارجي واحد كما حدث في زمن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وما بعده حين كانت الأمة كلها بشكل واحد في دولة واحدة، ففي هذه الحالة تكون دار الإسلام هي أرض الدولة في حين كونها أرض الأمة أيضاً، والكل يشكل سيادة واحدة، ولا يمكن وضع حدود جغرافية لها من جهة ارتباطها بنمو الأمة واتساعها، وذلك يقتضي اتساع دار الإسلام باستمرار وإن كان هذا لا يلازم بالضرورة اتساع سلطان الدولة؛ إذ قد يدخل في الإسلام قوم جدد تتسع بأرضهم دار الإسلام، وتتسع بهم الأمة، ولكنهم لا يدخلون تحت سلطان الدولة، وإنما ينشئون لأنفسهم كيانهم السياسي الخاص، فتتشكل في الأمة دولة ثانية، فتأمّل.

الثانية: حالة تمايز مفهوم الدولة عن مفهوم الأمة في الصدق الخارجي، وذلك حينما تنقسم الأمة إلى دول كما هو المتعارف عليه اليوم فإن الأمر يختلف حينئذ؛ إذ لا بد لكل دولة من أرض تقوم عليها، ويكون لها حدودها، حيث إن عنصر الأرض هو المدى الذي يفترض أن الدولة بما لها من خصوصيات تميز شخصيتها به، وتفرض سلطانها عليه، سواء تمكنت من فرضه بالفعل أم تقلص سلطانها بسبب عصيان داخلي أو عدوان خارجي، ومن دون عنصر الأرض لا يمكن تصور وجود الشعب والدولة والحكومة والسلطة وممارسة السيادة وتطبيق القانون.

ومن هنا فإن الهدف الأولي وإن كان لزوم توحيد بلاد الإسلام ورفع الحدود الجغرافية تطبيقاً للأمة الواحدة [8] والأخوة الإسلامية[9] إلا أنه ما دام هذا متعذراً لا يمنع من الاعتراف بوجود دول متعددة تنقسم على حسب الأمة الإسلامية من باب الميسور لا يسقط بالمعسور، وعليه فإن الاعتراف بالدول المتعددة جاء بسبب وجود المانع لا المقتضي، فتأمل.

وهنا مسائل

المسألة الأولى: في وجوب استرداد الأراضي الإسلامية، ما سيطر عليه الكفار من بلاد الإسلام كروسيا المسيطرة على الجمهوريات الإسلامية وكاليهود المسيطرين على فلسطين يجب استرداده، كما لا يمنع من توحيد الأمة فيهما، فإن حال هذه القطعة المغتصبة المسيطر عليها الاستعمار حال سائر قطع بلاد الإسلام، فلا حدود بين الأردن وفلسطين المستعمرة، وكذلك لا حدود بين أفغانستان وطاجكستان المستعمرة، فإن حال البلدين حال غرفتين لعائلة واحدة لكن غصب إحداهما غاصب.

المسألة الثانية: في أرض الكفر من أمثال لندن وباريس مثلاً، تختلف أحكامها عن أرض الأسلام؛ إذ إن مثل هذه البلدان تعتبر أرض كفر ولها أحكام أرض الكفر في مثل اللقطة وأحكام الأموات وأحكام اللحوم والبيع والشراء وإقامة الحدود وما أشبه ذلك. هذا من جهة، ومن جهة أخرى وباعتبار آخر هي أرض الله الفسيحة التي منحها لعباده المؤمنين، فلهم التمتع بما يشاؤون منها بحسب الموازين الشرعية بملاحظة الإباحة الأصلية أو العرضية في الانتفاع ولزوم مراعاة الأهم والمهم ورفع الضرر والحفاظ على سمعة الإسلام والمسلمين ونحو ذلك من العناوين، لكن هذا ما لا يخضع لقانون عام، بل يختلف بحسب الموارد.

المسألة الثالثة: في احترام معاهدات الكفار، وهي من مستثنيات الإباحة الأصلية في الانتفاع في مثل لندن وباريس وما أشبه، إذ لو كانت بين الكفار وبين المسلمين معاهدة فاللازم على المسلمين احترام تلك المعاهدة؛ وذلك لأن أدلة الوفاء بالعهد[10] بين الحكومة الإسلامية وبين الحكومة الكافرة واردة على دليل كل شيء حلال[11] ودليل كل شيء مطلق[12]، وغيرهما من الأدلة.

المسألة الرابعة: في الحدود الفضائية والبحرية، يظهر مما تقدم أن الحدود الفضائية والحدود البحرية حالهما حال الحدود الأرضية التي تعيّن من قبل الدول، فلا احترام لها إطلاقاً إلا في مورد المعاهدة، مع قيد أن تكون المعاهدة من قبل الدولة الإسلامية المشروعة لا ما يسمى بالدول الإسلامية، فإن الإسلام لا يقبل شرعية الدولة إلا بشرطين:

الأول: كون قانون الدولة قانون الإسلام.

الثاني: كون رئيس الدولة رجلاً يرضاه الإسلام وترضاه أكثرية الأمة في انتخابات حرة كما ستعرفه فيما يأتي، وبدون هذين الشرطين فإن أعمال الدولة غير نافذة، والمسلمين أحرار فيما يفعلونه في نطاق الأحكام الإسلامية، أي إنهم لا يقيدون بمقررات الدولة الجائرة المستولية عليهم من دون رضاهم، وفي مثل هذه الدولة لا احترام لأموالها، بل هي تعد من قسم مجهول المالك الذي يعود أمره إلى الحاكم الشرعي على تفصيل لا يسعنا بيانه هنا. هذا ما يتعلق بالأرض والإقليم من أركان الدولة.

وأما ما يتعلق بالسلطة وهو الركن الثالث فإنه وإن رجح البعض عنوان النظام لهذا الركن إلا أنه لا مانع من جعله السلطة أيضاً، من حيث إن السلطة أخص في تكوين الدولة وممارسة سياستها؛ ولذا نتماشى نحن أيضاً مع هذا الاصطلاح فيما يلي.

 وكيف كان، فقد عرفت السلطة بأنها المرجع الأعلى المسلم له بالنفوذ، أو الهيئة الاجتماعية القادرة على فرض إرادتها على الإرادات الأخرى، بحيث تعترف لها الهيئات الأخرى بالقيادة والفصل، وبقدرتها وبحقها في المحاكمة وإنزال العقوبات، وبكل ما يضفي عليها الشرعية، ويوجب الاحترام لاعتباراتها والالتزام بقراراتها[13] بحسب الموازين العقلائية والشرعية.

وتمثل الدولة السلطة التي لا تعلوها سلطة في الكيان السياسي، ويتجسد ذلك من خلال امتلاك الدولة لسمة السيادة، وتباشر الدولة سلطاناً لا شك فيه من الناحية الواقعية، ويتمثل هذا السلطان في وجود حكام يأمرون إذا كانوا جامعين للشرائط والموازين الشرعية ومحكومين تجب عليهم الطاعة أيضاً بحسب موازينها.

هذا وهناك تساؤل منذ القديم حول ما إذا كان ثمة ما يبرر مشروعية ذلك السلطان في مظهريه، أي في حق إصدار أوامر ملزمة من جانب الحكام وواجب إطاعة هذه الأوامر من جانب المحكومين. والمستنتج من كلمات الأعلام هو أن السلطة هي حق الأمر أو الحق في إصدار أوامر ملزمة إلى رعايا الدولة، فإن السلطة هي القوة الممنوحة أو المرخص بها من الله سبحانه، والمعنى الذي يتبناه علماء القانون عن السلطة بأنها حق إصدار الأوامر، وربما يقال: إن هذا قريب من المفهوم الإسلامي للسلطة أيضاً كما ستعرفه إن شاء الله.

وهذا دليل واضح على أهمية اتخاذ القرآن الكريم والسنة الشريفة كمرجع للمفاهيم السياسية المختلف عليها اليوم، أو كمرجع للمشكلات السياسية المعقدة التي لم تصل البشرية لحلها حتى الآن.

 وكيف كان، فإن تفصيل الكلام في السلطة يستدعي التعرض إلى عدة موضوعات:

الموضوع الأول: سند السلطة وشرعيتها.

الموضوع الثاني: السلطة التشريعية.

الموضوع الثالث: السلطة التنفيذية.

الموضوع الرابع: السلطة القضائية.

الموضوع الخامس: الفصل بين السلطات.

باعتبار أن أصل السلطة وسندها هو منشأ هذه السلطات، ومجموع هذه السلطات هو الذي يشكل الدولة، ويعطي الصورة والمظهر الخارجي لنظام الحكم، وسنتناول ذلك بالتفصيل في المبحث الثاني إن شاء الله تعالى.

* فصل من كتاب فقه الدولة

وهو بحث مقارن في الدولة ونظام الحكم على ضوء الكتاب والسنة والأنظمة الوضعية

** استاذ البحث الخارج في حوزة كربلاء المقدسة

*** للاطلاع على فصول الكتاب الاخرى

http://www.annabaa.org/news/maqalat/writeres/fadelalsafar.htm

.............................................

[1] الأول منها مفاد ما ورد عنه(صلى الله عليه وآله وسلم): لا يترك الميسور بالمعسور والثاني: مفاد ما ورد عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) ما لا يدرك كله لا يترك كله انظر عوالي اللآلي: ج4 ص58 ح205وح207،ولمعرفة تفصيل المفاد والاستدلال انظر القواعد الفقهية للبجنوردي: ج4 ص121؛ الفقه القواعد الفقهية: ص125.

[2] انظر عوالي اللآلي: ج4 ص58 هامش 3 و4 و5؛ الفقه القواعد الفقهية: ص126.

[3] سورة الممتحنة: الآية 8 ـ 9.

[4] سورة البقرة: الآية 246.

[5] سورة الفرقان: الآية 1.

[6] سورة الأنبياء: الآية 107.

[7] وهي المستفادة من مثل الحديث الوارد عنه(صلى الله عليه وآله وسلم): الناس مسلطون على أموالهم وقوله سبحانه في سورة الأحزاب: الآية 6:{ النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } الدال على ثبوت ولاية المؤمن على نفسه أولاً حتى تكون ولاية الرسول أولى. انظر البحار: ج2 ص272 ح7؛ عوالي اللآلي: ج3 ص308 ح49، والهامش رقم 3 من المصدر المذكور أيضا؛ المكاسب: ج3 ص86 ـ87.

[8] انظر سورة المؤمنون: الآية 52.

[9] انظر سورة الحجرات: الآية 10.

[10] سورة المائدة: الآية 1.

[11] التهذيب: ج9 ص79 ح72؛ الفقيه: ج3 ص216 ح92.

[12]الفقيه: ج1 ص208 ح22.

[13] موسوعة السياسة: ج3 ص215 سلطة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 8/حزيران/2010 - 23/جمادى الآخرة/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م