قراءة في لافتة: يُمنع رمي النفايات هنا

بأمر مغاوير الشرطة تجنباً للخطر

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: تنبه الإنسان إلى أهمية الإشارات الدلالية في حياته فأخذ يطور في لغتها وفي الأدوات التي يكتب عليها ولم يقتصر هذا الاهتمام على تلك الإشارات بل تعداه إلى الإعلان عن شيء أو رسالة يريد توصيلها إلى الناس ومنها ظهر الإعلان والدعاية وتطورت أساليبها وكذلك توجيه الدعوات للتظاهر أو الاعتصام أو الإضراب.. وقد تعددت استعمالات اللافتات وأغراضها.. فهناك

اللافتات الرياضية وكانت آخرها الأزمة التي نشبت بسببها بين نادي الاهلي ونادي الزمالك المصريين في لقاء قمة الدوري المصري والتي استدعت تدخل عدة جهات سياسية وامنية ورياضية.. وهناك اللافتات الدينية والتي تكون سببا في التمايزات المذهبية والطائفية بين ابناء البلد الواحد كما حدث مؤخرا في السعودية حين قامت السلطات هناك بحرق اللافتات في مدينة القطيف الشيعية ..

وهناك اللافتات الانتخابية التي خبرها العراقيون خلال ثلاث دورات انتخابية..

وأيضا اللافتات العنصرية كما شاهدناها في مباراة إيران والإمارات قبل شهور قليلة والتي رفع فيها المشجعون الايرانيون لافتات كتب عليها الخليج الفارسي مقابل اللافتات التي كتب عليها الخليج العربي.. ونذكر ايضا لافتات الطرق التي عملت اسرائيل على تهويدها في العام الماضي ورفعت الكلمات العربية منها.. وأخيرا أورد ملاحظة تتعلق بتأثير اللافتات التجارية وغيرها على النواحي الجمالية فى البيئة العمرانية للدول العربية والإسلامية..

أكثر ما رافق العراقيين في حياتهم طيلة ثلاثة عقود، اللافتات التي كانت تحمل كلمات التفخيم والتمجيد للقائد الأوحد (بالروح بالدم نفديك يا صدام) (النصر للصابرين) (كسرا للحصار) (تبا للمستحيل وليخسأ الخاسئون) وسبقت لافتات أخرى تلك في عهد النظام السابق التي وسمت حياة المجتمع العراقي وجدران بيوته او سجونه بعبثية حربين مدمرتين الأولى مع إيران والثانية بعد غزو الكويت وهي اللافتات السوداء لقتلى العمليات العسكرية  الممهورة  بتسميات الشهادة والشهيد.. وبعد العام 2003 استمرت تلك اللافتات السوداء واختفت او كادت لافتات التمجيد والتعظيم واصبحت اللافتات السوداء تحمل بعض التعبيرات الجديدة مثل (استشهد اثر حادث غادر جبان) او ( اثر حادث ارهابي ) او ( في تفجيرات المكان الفلاني) وهي لغة جديدة دخلت قاموس العراقيين، وهو موت واحد رغم تعدد تسمياته..

عودة إلى بداية موضوعنا والذي تحدثت فيه عن الإشارات الدلالية التي تنبه الإنسان إلى أهميتها  وما طرأ عليها من تغيير يحتاج الى المتابعة الميدانية من قبل أكثر من باحث لاكتشاف الانساق الجديدة للاجتماع والسياسة في العراق الجديد..

اعتاد العراقيون بعد العام 2003 على وجود لافتات تحذيرية تحملها الهمرات (العربات) الأمريكية مكتوبة باللغتين العربية والانكليزية (لا تقترب أكثر من 100 متر خطر الموت) ( قوة مخولة بإطلاق النار)..

وكثيرا ما راح العراقيون ضحايا هذا التحذير الذي لم ينتبهوا اليه او بسبب ارتباكهم عند قيادة السيارات وهم يسيرون خلف تلك الهمرات وبدأت تلك اللافتات تأخذ طريقها الى بعض المواقع ونقاط التفتيش حتى بعد انسحاب القوات الامريكية من المدن..

واللافتة موضوع حديثنا قام بنصبها احد أصحاب أفران المعجنات في بغداد أمام أفرانه وهي في مكان وضعها تفرض مفارقة صارخة لانتهاك القانون وغياب الحد الفاصل بين الملكية الخاصة والملكية العامة الممثلة بالرصيف والشارع.. فصاحب الأفران قد وضع مولدة ضخمة جدا احتلت مترين من الرصيف وأخذت قسما من الشارع إضافة إلى براميل الزيت والماء والوقود اللازمة لتشغيلها ناهيك عن انتهاكه للرصيف الملاصق لأفرانه بالمناضد التي يعرض عليها منتجاته..

نعود إلى موضوع اللافتة وما كتب عليها (ممنوع رمي النفايات هنا بأمر من مغاوير الشرطة تجنبا للخطر)

كانت الكتابات السابقة تخط على الجدران (جدران المحلات والمنازل) وكانت مباشرة ومختصرة (لا ترمي الزبالة هنا يا ابن الـ..........) مع شتيمة متعارف عليها بالنسب إلى احد الحيوانات وهي الحمار او الكلب..

ومنهم من تكون شتيمته اكبر وأقسى تتعدى إلى الأمهات والأخوات والأعراض وأحيانا كان يترافق مع الكلمات عبارة (بأمر البلدية او امانة العاصمة) ايام كانت البلدية في عزها ومجدها السامق وهي تقدم خدماتها الى جمهور المواطنين العريض..

واحيانا قليلة كانت اللافتات تكتب عليها اوامر المنع بصورة يتوسل فيها صاحب العلاقة الادب والرقة في مخاطبة من يتسببون بألحاق الاذى بممتلكاته فهو يكتب (شكرا لعدم الوقوف) او (شكرا لعدم رمي الزبالة) او حتى (شكرا لعدم التدخين) وقد اختفت هذه العبارات من على الواجهات والجدران وحلت مكانها صيغ اكثر مباشرة وعدوانية واستفزازية مثل المكتوب على اللافتة موضوع حديثنا.

ممنوع رمي النفايات وهي ابدال كلمة زبالة التي يراها صاحب الافران عامية لا تفي بالغرض او تتناقض مع جهة اصدار الامر وهي (مغاوير الشرطة) فالنفايات كلمة تستخدم في اللغة الفصحى لغة المخاطبات والدوائر الرسمية والنفايات هنا ستعطي مصداقية للتحذير وانه صادر من جهة رسمية وليس اهلية يمثلها صاحب الافران.. ولكن هذه الكلمة وعبر ما موجود على الرصيف المقابل للفرن تكشف تناقضها الحاد والمشروخ فالنفايات في عرف من وضعها تعني مخلفات المنازل والمحلات المجاورة ولكن صاحب تلك اللافتة غاب عن باله ان الشارع والرصيف برمته قد تلوث بزيوت مولدته وأحالت لون الرصيف الى اسود مغبر نتيجة لتراكم تلك الزيوت وكأنه يقول بأن نفاياته المتأتية من استعمالاته لا تعد نفايات بقدر تعلق الكلمة بنفايات الاخرين والتي يتم رفعها صباح كل يوم من قبل عمال التنظيف..

في العبارة الثانية من اللافتة (بأمر مغاوير الشرطة) يمارس صاحب المحل اقصى درجات التخويف والترهيب عبر الإشارة إلى احد أصناف الشرطة وهم المغاوير والذين اكتسبوا سمعتهم القاسية من خلال حملاتهم ضد الباعة المتجولين في تلك المنطقة ومناطق أخرى..

وهي تعيد إلى الذاكرة عبارة (بأمر السيد الرئيس) او ( بأمر السيد القائد) أيام نظام صدام حسين المخيم بثقافته الترهيبية حتى الآن على العقول والقلوب.

وهذه العبارة ايضا تشير الى غياب مفهوم السلطات المدنية التي تمثلها البلدية او امانة العاصمة التي لم تعد تخيف او ترهب الاخرين والاستعاضة عنها بسلطات العسكر التي تخيف اكثر..

العبارة الثالثة هي (تجنبا للخطر)

ذكرنا في البداية كيف كان يكتب على الهمرات الأمريكية وهي تسير في شوارع المدن العراقية (خطر الموت) (قوة مميتة) (قوة مخولة بإطلاق النار) وكيف انتقلت تلك الكتابات إلى القطعات العسكرية العراقية بعد أن تم الاقتصار في كتابة تحذيراتها على اللغة العربية..إلا أنها فقدت بعض قوتها على اعتبار ان الهمرات الجديدة هي للجيش العراقي وأصبحت ترى سائقي المركبات يتخلون عن حذرهم السابق وهم يجتازون تلك الهمرات، فابن البلد سيفكر ألف مرة قبل إطلاق النار عليك..

استعار صاحب الأفران عبارة التحذير السابقة للهمرات الأمريكية بصورة ملطفة، فهي لا تشي بأنه على استعداد لإطلاق النار على المتجاوزين برمي النفايات، بل هو يوجه تحذيرا ضمنيا بإلقاء القبض على المخالف تحت أكثر من بند عبر الوشاية، وخاصة الإشارة الضمنية الى المادة الرابعة من قانون الإرهاب، والتذكير بالوشاة الذين أطلق عليهم تسمية (الشاهد السري) او هي قد تكون تحذيرا من مشاجرات قد يفتعلها صاحب الافران مع المتجاوزين على ما يعتقده ملكه الشخصي وهو الرصيف المقابل لأفرانه ومن ثم الاستعانة بقوات مغاوير الشرطة المتواجدين في المنطقة لردع المخالفين..

ثقافة التخوف والترهيب لا زالت موجودة بين الناس، مثلما هي موجودة بين السياسيين وان اتخذت أشكالا ومضامين أخرى..

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 6/حزيران/2010 - 21/جمادى الآخرة/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م