أزمة اليونان المالية ونهاية العصر الذهبي للاتحاد الأوربي

علي الأسدي

سؤال بدأ يتردد كثيرا مع تفاقم أزمة اليونان المالية خلال هذا العام، ولا أحد يستطيع الجزم بأن تشظي الاتحاد الأوربي وشيك الحدوث، إلا أنه من شبه المؤكد أن العصر الذهبي لهذا الكيان قد أصبح من الماضي، وأن الأحلام الوردية للكثير من دوله قد تحولت إلى كوابيس مرعبة. في الحلقة الأولى والثانية من مقالنا هذا عرضنا بعض الحقائق عن الأزمة المالية في اليونان مع اشارة إلى دول أخرى في طريقها لمواجهة المصير نفسه في مقدمتها اسبانيا والبرتغال وايرلندة.

 هذه الدول كما اليونان وضعت على طاولة المصرف المركزي الأوربي وصندوق النقد والبنك الدوليان، للبت بحجم حزمة الانقاذ المالية التي ينبغي ضخها في اقتصاد تلك الدول لمواجهة العجز في ميزانياتها المالية، مع أن الاتحاد الأوربي وصندوق النقد والبنك الدوليان هم في واقع الحال " حاميها حراميها " كما يقول المثل الشعبي العراقي.

 فالاتحاد الأوربي هو المستفيد الأكبر من الأزمة المالية في الدول الأربع، فقد دفعت الأزمة بقيمة اليورو التبادلية إلى أدنى مستوى لها منذ أربع سنوات، وهذا قد يحفز لزيادة صادرات دول السوق الأقوى اقتصادا إلى الدول الأخرى خارج السوق الأوربية. ومن الجانب الآخر يعتبر الاتحاد الأوربي المستثمر الأكبر في ديون اليونان الهائلة التي هي قروض متعددة الآجال قدمت لها على مدى السنين الماضية، بل وشجعها على الاستدانة أكثر فأكثر عبر السندات التي أصدرت على فترات تجاوبا مع رغبة اليونان على الاقتراض.

 بعض تلك السندات استحقت السداد في 19 مايو الجاري ومقدارها 12 مليار يورو، والبعض الآخر يستحق السداد في مواعيد لاحقة ومبلغها الاجمالي حوالي 300 مليار يورو منها 45 مليار يورو فوائد متراكمة على مبلغ الدين نفسه. بعض حملة تلك السندات أما مواطنون عاديون وهم الأقلية، أما قسمها الاكبر فتحوزه شركات تجارية ومصارف ومؤسسات مالية كبرى. وغالبا ما تتم المضاربة بهذه السندات من قبلهم عبر ما يسمى " البيع قصير الأمد بدون رصيد ".

 ويقوم المتعاملون قصيرو الأمد باستعارة سندات وبيعها ثم شرائها مرة أخرى حين ينخفض سعرها ومن ثم إعادتها الى الجهة التي استعاروها منها. وتقوم هذه المصارف والمؤسسات المالية ببث الاشاعات عن اتجاهات سوق السندات والأسهم مسببة فزعا في أوساط حامليها، حيث يدفعهم هذا الفزع للتخلص منها لضمان القسط الأكبر من قيمتها الحقيقية قبل أن تتهاوى أسعارها أكثر تبعا للاشاعات، عندها يقوم المضاربون مستغلين هبوط الاسعار بشراء المعروض منها للبيع محتفظين بها لحين تحسن الوضع النفسي للمتعاملين، ثم تقوم ببيعها وتحقيق أرباحها دون تكاليف تذكر.

 ومنعا لاضطراب مماثل في الاتحاد الأوربي كالذي أوجدته أزمة ديون اليونان، استصدرت الحكومة الألمانية أخيرا حظرا على هذا النوع من المضاربة " البيع قصير الأمد بدون رصيد " بعد ان قام المضاربون بعملية البيع والشراء حتى من دون استعارة السندات والأسهم.

للمضاربين وسائلهم الكثيرة الأخرى لتحقيق الأرباح، ومنها وأكثرها ضررا باقتصاديات البلدان الأعضاء، هي المضاربة بالعملات الوطنية أو باليورو، وكان مثالها ما حدث في تسعينيات القرن الماضي في المملكة المتحدة إبان حكومة المحافظين برئاسة جون ميجر التي واجهت انتكاسة مالية لعملتها "الباوند " بعد أن استهدفه المضاربون بالعملات فدفعوا بقيمته إلى أدنى مستوى له في القرن العشرين، خسرت الخزينة بسبب ذلك حوالي عشرين بليونا من الباوندات الاسترلينية.

ويتربص المضاربون حاليا بالعملة البريطانية واليورو فهذه فرصتهم الذهبية لحصد الأرباح دون تكاليف تذكر، إذ تشير التوقعات بانهيارات وشيكة الحدوث في النظام المصرفي البريطاني أكبر مركز مالي في العالم بعد نيويرك. فالوضع في اسبانيا والبرتغال يمر بأسوء حالة ذعر منذ انهيار بنك ليمان في الولايات المتحدة الأمريكية في عام 2008، ليسبب قلقا جديدا حول مستقبل الاقتصاديات الأوربية الذي عبرت عنه حالة اليورو المتردية، علما بأن الأسواق الأمريكية هي الأخرى تعيش حالة من عدم اليقين. عدم اليقين هذا يرسم صورة متشائمة عن مستقبل الاتحاد الأوربي السياسي والاقتصادي على حد سواء.

لقد حذرت أخيرا المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل من الأخطار المحدقة بالاقتصاد الأوربي، أثناء كلمتها أمام البرلمان الألماني ( البوندزستاخ ) في معرض تحذيرها من المضاربة باليورو قائلة " ان اليورو بات في خطر حقيقي اذا لم تتم حمايته من العواقب، وان تداعيات انهياره ستكون كبيرة، مما يدعونا لاتخاذ اجراءات صارمة للحد من المضاربات على اليورو".وناشدت ميركل الحكومات في دول الاتحاد الأوربي العمل على خفض ديونها لاحتواء الازمة الحالية وحماية العملة الاوروبية. تستطيع المستشارة التلويح بما تراه من مواقف حازمة ضد المضاربين في العملة الأوربية الموحدة، لكنها في واقع الحال ليست أقوى من قوانين السوق الحرة التي تتربع على عرشها مؤسسات المال التي منحتها العولمة الرأسمالية قوة ونفوذا يخرج عن سيطرة السياسيين.

لقد باشرت الحكومة اليونانية بتنفيذ سياسة تقشف صارمة لخفض العجز في ميزانيتها المالية، فبدأت بخفض الانفاق وزيادة نسب الضرائب المباشرة على الدخل، وقائمة طويلة من الضرائب غير المباشرة على مختلف السلع والخدمات، وفرض اجراءات مشددة على القروض والرهون العقارية، وتجميد زيادات الأجور في القطاع الحكومي، فيما تسعى وسط مقاومة نقابات العمال الى تخفيض الأجور بنسب تصل الى 20 %، والغاء الحد الأدنى للأجور الذي شكل وقت الأخذ به انتصارا للطبقة العاملة في تلك الدول. وأمام الفزع من عجز اليونان الايفاء بالتزاماتها تجاه الدائنين، تضاءلت توجهات المستثمرين للاستثمار في السندات الحكومية اليونانية، مما دفع الحكومة اليونانية لرفع سعر الفائدة على السندات التي تصدرها الى 19 % في سنتين، بهدف حمل المستثمرين للثقة باقتصادها.

وتستكمل الحكومة البريطانية الجديدة صيغ تشريعات ضربية جديدة وتغييرات في قوانين قائمة لمعالجة مديونية بريطانيا التي زادت عن 12 % من ناتجها القومي المحلي الاجمالي. لقد أعلنت عن قرارات برفع نسب الضرائب على الدخول و الأرباح الناتجة عن المضاربة في الأسهم والسندات والعقارات وغيرها كثير، ومن السابق لأوانه توقع ردود فعل الجماهير البريطانية على توجه حكومة المحافظين / الليبراليين الائتلافية.

لكن انتهاج سياسات كهذه في أي دولة، عضوا في الاتحاد الأوربي أو خارجه ستدفع باقتصاد البلاد إلى مزيد من الانكماش والى ضمور الطلب على السلع والخدمات، مما سيدفع بالكثير من المشاريع الى غلق أبوابها وتسريح عمالها. إن فرض ضرائب جديدة على السلع والخدمات سيرفع أسعارها، وتخفيض أجور العاملين سيقلل من قدرتهم على الانفاق، وهذا يقود الى تناقص الطلب من جديد مما يشكل حافزا سلبيا يحجم بسببه المستثمرون عن استثمار أموالهم في اقتصاد بلادهم، يضطرهم للبحث عن مجالات استثمار لرؤوس اموالهم في دول أخرى، تكون الفرص فيها أفضل لتحقيق الأرباح. ان ما يواجه اليونان في هذه المرحلة من تطورها ليس فقط مشكلة مالية، بل جملة من مشاكل اقتصادية، تتعلق بأداء اقتصادها بشكل عام، وهي بالذات ما يقف وراء أزمتها الحالية، وأزمات الدول الأخرى التي سميناها آنفا. فما هي هذه المشاكل الاقتصادية؟

نحاول هنا استعراض بعضها مع اقتراحات للخروج منها:

1 – عدم التوازن المزمن لميزانها التجاري.

 تواجه اليونان منذ أمد انكماشا مزمنا في صادراتها الى السوق الخارجي، فيما تميل مستورداتها الى التصاعد، وهذا قاد إلى عجز سالب في ميزانها التجاري، يترتب عليه البحث عن موارد مالية لسداد الفرق بين موارد الصادرات وكلفة المستوردات. وهناك عدة سبل لسد هذا العجز في ميزان التجارة. السبيل الأسهل لسد هذا العجز هو الاستدانة، إما من المصارف المحلية او المصارف الأجنبية، وهو سبيل لا ينبغي اعتماده إلا في الضرورات القصوى، أو للقيام باستثمارات تنموية تساعد في استقرار الوضع الاقتصادي في البلاد. وسبيل ثاني يركز على دعم قطاعات انتاج البضائع المحلية يهدف لزيادة كميات الانتاج لتعويض الطلب على السلع المستوردة، وبذلك يحد من كمية المستوردات.

لكن هذا السبيل ربما يواجه محدودية الطاقات الانتاجية المحلية من جانب، أو عدم توفر المشاريع الانتاجية التي تنتج سلعا بديلة للاستيراد. أما السبيل الثالث فيهدف الى خفض المستوردات عن طريق كبح الطلب على سلع الاستيراد عبر فرض ضرائب عالية عليها لرفع أسعارها بشكل يحد من اقبال المستهلكين عليها، كالضرائب الجمركية وضرائب المبيعات وغيرها كثير.

2- ارتفاع معدلات نمو الدخول الفردية دون أن يوازيه زيادة في الانتاج البضاعي

 هذه الظاهرة الملازمة لاقتصاديات اليونان وغيرها من الدول قد أشبعها نقاشا الاستاذ فؤاد النمري في مقالتيه حول الأزمة المالية في اليونان، الذان نشرا في صحيفة الحوار المتمدن الغراء في 20 و 22 مايو الجاري. وقد شخص الاستاذ النمري ببصيرة لا تخطئ العيوب الهيكلية في سياسة اليونان الاقتصادية التي اعتمدت نمطا من الانفاق لكسب ود الناخبين طمعا باصواتهم الانتخابية، دون ان تعالج المشكلة الاساسية في تخلف الموارد المالية عن النفقات في ميزانيتها المالية وهي ضمور الانتاج البضاعي مصدر القيمة المضافة.

3- تردي شروط التجارة الخارجية اليونانية.

 ترتفع تكلفة انتاج السلع اليونانية المصدرة أمام كلف انتاج مثيلاتها المستوردة الذي أثر على سلع بيعها، ولهذا السبب يتناقص الطلب بشكل دائم على الصادرات اليونانية من قبل السوق العالمي، وهذا أدى الى تناقص مواردها تبعا لذلك. وللخروج من هذا الوضع يتطلب العمل على ادخال تحسينات على وسائل الانتاج باستخدام التقنية التي ترفع انتاجية العمل، وتقلل بالتالي تكلفة انتاج الوحدة من السلع اليونانية المنتجة، التي ستدفع بأسعارها الى الهبوط، وهذا سيرفع قدرتها التنافسية، تارة من جانب الكلفة وتارة من جانب نوعية السلعة. وهذا هو الاجراء الذي على أرباب العمل، قطاعا خاصا كان أو قطاعا عاما السعي اليه، وبذلك وحده يمكن زيادة الصادرات اليونانية وتعظيم مواردها، وبالتالي إزالة العجز في الميزان التجاري وربما تحويله من سالب إلى موجب.

اليونان التي اختارت السبيل الخطأ في التعامل مع أزمتها الاقتصادية عبرالاستدانة من السوق المالية وبمعدلات غير مقبولة اقتصاديا وسياسيا، عليها عاجلا أو آجلا صياغة وتنفيذ سياسة اقتصادية تنموية شاملة لتحديث جهازها الانتاجي تسعى من ورائه لخفض كلف انتاج السلع ورفع انتاجية العمل. وعبر ترشيد الانفاق العام لا وقفه لن تكون الحكومة مضطرة للتراجع عن ايجابيات دولة الرفاه، أو سرقة مكاسب الطبقة العاملة التي حققتها عبر تضحياتها وكفاحها الطويل، وبذلك تتفادى الوقوع بالأزمات الاقتصادية والاجتماعية الجسيمة كالتي تواجهها اليوم.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 3/حزيران/2010 - 18/جمادى الآخرة/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م