الوصاية والديمقراطية

خالد عليوي العرداوي/مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية

يقول الكاتب الأمريكي (روبرت دال) في كتابه المهم (الديمقراطية ونقادها): ((إن الحكم عن طريق الأوصياء البديل الدائم للديمقراطية))، ويستند هذا الحكم إلى النظرية القائلة: ((بان الناس العاديين يمكن الاعتماد عليهم في فهمهم لمصلحتهم والدفاع عنها - ناهيك عن مصلحة مجتمع كبير جداً – ما هي إلا ضرباَ من الأوهام))(1)، فماذا يقصد بحكم الأوصياء ؟.

 إن جعل هذا الشكل من الحكم بديلا ونقيضا للحكم الديمقراطي، يدل على انه يشكل خطرا جديا وتحديا حقيقيا للديمقراطية،وقبل الخوض في الرؤى والأفكار التي نظرت لحكم الأوصياء،يتطلب الأمر معرفة ما هو المقصود بالوصاية لغة وإصطلاحاً؟، إذ قد يحصل لبس وغموض في فهم هذه اللفظة، يجعل القارئ غير قادر على معرفة مكامن الخطر فيها،بعد ذلك سوف ندرس التطور التاريخي لحكم الأوصياء في التنظير السياسي القديم والحديث والأسس التي ارتكز علبها،ثم ندرس ظاهرة الأوصياء الجدد التي برز الحديث عنها في الفكر الغربي المعاصر.

المحور الأول

الوصاية: لغة واصطلاحا

 جاءَ الفعل (وصى) في (لسان العرب لابن منظور) بمعان عدة:

 فهو يرد بمعنى الوصية أثناء الموت، عندما يعهد إنسان لآخر بشيء قبل وفاته، ويرد – أيضاً – بمعنى الرفق، كما في قوله تعالى: ((استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عندكم عوان))، وبمعنى الفرض كقوله تعالى: ((يوصيكم الله في أولادكم))، وقوله تعالى: ((ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به))، ومن معاني هذا الفعل – أيضاً – الصلة أي وصل الشيء بالآخر، وهناك معاني أُخرى لا يفيدنا الخوض فيها(2)، أما كتاب (المنجد في اللغة العربية المعاصرة)، فيذكر الفعل وصى بمعنى: ((من يتولى شؤون قاصر: وصي على يتيم، وصي شرعي، قام بدور وصي... وصي معين قانونياً بطريقة قضائية، وصي على عرش، يتولى الملك بالوصاية عن قاصر... (وبذلك فإن لفظة الوصاية سوف تشير إلى الهيمنة) وصاية سياسية، وصاية طائفية، تولي شؤون دولة بالنيابة عن قاصر، وصاية على عرش، إشراف دولة على حكم دولة أُخرى..))(3).

والى هذا المعنى تذهب (موسوعة السياسة)، إذ الوصاية عبارة عن ((نظام اعتمدته هيئة الأمم المتحدة... من أجل إدارة الأقاليم التي تخضع لهذا النظام بمقتضى اتفاقات فردية لاحقة وللإشراف عليها... والعمل على إعداد الأقاليم وشعوبها لبلوغ الحكم الذاتي أو الاستقلال...))(4). وبهذا تكون الوصاية نظاماً للهيمنة الاستعمارية على الشعوب الخاضعة له بعدها شعوباً (قاصرة)، وغير مؤهلة لحكم نفسها.

 إذا تجاوزنا ما ورد في لسان العرب، فأن معنى الوصاية الوارد في (المنجد..)، وفي(موسوعة السياسة) هو الذي يخشى منه على الديمقراطية، فعندما يتصور الحكام إنهم الأوصياء على الشعب، الذي هو – في نظرهم – قاصر لا يمكن أن يكون مؤهلاً لحكم نفسه بنفسه، عندها تكون العلاقة بين الطرفين علاقة تراتبية (هرمية)، تسمح للحكام بالاستئثار والاستبداد بالسلطة، وتمنع الشعب من المشاركة الفاعلة في إدارة شؤونه العامة، وتحديد حقوقه وواجباته،فيكون القانون النافذ هو قانون الحاكم(الوصي)، الأمر الذي يؤدي إلى قبر الديمقراطية(حكم الشعب).

أن الوصاية قد تتجسد بفرد(ملك اله، أو ابن الإله، أو ممثل الإله، أو ملك فيلسوف...)، كما قد تتجسد بحزب معين أو فئة أو طبقة اجتماعية معينة، والأسباب المبررة لهذا الحكم كثيرة، لكن أطره العامة متشابهة حيث أنها تحرم الشعب من أن يكون سيد مصيره.

المحور الثاني

من يجب أن يحكم ؟

 يثير الحديث عن (الوصاية) سؤالاً مهماً، يعده (جلين تيندر) من الأسئلة الأبدية في الفكر السياسي، ذلك السؤال هو: من يجب أن يحكم ؟

لقد تنوعت إجابات الفلاسفة والمفكرين على هذا السؤال وتوزعوا بين ثلاث فرق: الفرقة الأولى تزعمها (هوبز) الذي لم تكن لديه ثقة بالرجال العظام والأنظمة الأرستقراطية، وكان ينظر بتشاؤم إلى الطبيعة البشرية وما تنطوي عليه من أنانية تحيل الإنسان إلى عدو لأخيه الإنسان في حرب مستمرة يشارك فيها الجميع ضد الجميع، لقد أجاب (هوبز) على سؤال: من يجب أن يحكم ؟ بالقول: أي شخص، وكان تفكيره العقلي يسير بالشكل الآتي: ((إن ما يرغب فيه كل شخص في أنانية قبل كل شيء آخر هو الحفاظ على الذات، والحفاظ على الذات، لا يمكن تحقيقه إلا حيث يوجد السلام، والسلام هو نتاج دولة قوية، حسنة التنظيم، ومثل هذه الدولة هي الهدف الأول لرعايا أي حاكم، فما الذي يريده الحاكم ؟ أنه يريد مثل كل شخص آخر الحفاظ على الذات، غير أنه في حالة الحاكم، فأن الشرط الأول لتحقيق هذه الرغبة هو السلطة، فكيف يمكن الحصول على السلطة ؟ عن طريق تنظيم دولة قوية حسنة التنظيم.. وهي نفس الغاية التي يسعى أليها الرعايا... وهكذا فأن هناك تماثل أساسي في المصالح بين الحكومة والشعب))(5).

 إن تصور (هوبز) هذا دفعه إلى الاعتقاد بأن من يتولى السلطة سيكون كفأًً مثل أي شخص آخر، لأن مصلحة الحاكم والمحكوم هي واحدة.

 أما الفرقة الثانية، فقد تَزَعَّمَها الفوضويون، الذين أرادوا إلغاء الدولة نهائياَ، لتنتهي معها فكرة الحكم، ومن يجب أن يكون حاكماً؟ ومن يجب أن يكون محكوماً ؟، حيث أنهم تصوروا إن السلطة سوف يساء استخدامها في كل الأحوال، وان النظام والسلام يمكن ضمانهما بدون قهر على الإطلاق، إذ يرون إن الجرائم التي تقع من الأفراد لا تعكس الطبيعة الجوهرية للكائنات البشرية ((فالناس في الجوهر متعاونين وغير أنانيين، وسوف ينكشف ذلك عندما تكون الحكومات قد دمرت، أو ربما تكون الحضارة قد ازدادت تطوراً))(6).

 في حين جاءت إجابة الفريق الثالث على سؤال من يجب أن يحكم ؟ منقسمة بين تيارين كبيرين من الباحثين والمفكرين والفلاسفة:

التيار الأول هم أنصار حكم القلة (النخبة)، والتيار الآخر هم أنصار حكم الكثرة (الشعب)، ويبدو إن أنصار التيار الأول هم الأكثر عدداً والأطول باعاً في التأريخ، تسندهم في أطروحاتهم التجربة التأريخية، إذ كانت الهرمية أو التراتبية في الحكم أقدم حضوراً تأريخياً من الديمقراطية، وقد كان (أفلاطون) في كتاب (الجمهورية) أول مفكر سياسي يتحدث عن حكم وصاية القلة، إذ يدعو إلى حكم الملوك – الفلاسفة، ويسميه بالعلم الملكي والفن الأسمى، لذا يقول: ((لن يكون لأي علم أو فن آخر أولوية أو حق أفضل من العلم الملكي في دعاية المجتمع البشري وخدمة مصالحه، وفي حكم الأشخاص بوجه عام))(7)، وقد امتدت فكرة وصاية القلة التي يطرحها (أفلاطون) لتبرز بشكل آخر في فكر (كارل ماركس) بإسم وصاية البروليتاريا، وارتقى بها (لينين) إلى مستوى فريد بطرحه لفكرة الحزب الطليعي، التي تابعه فيها بقوة كل من الفيلسوف الهنغاري (يورجي لوكاتش)، والمكسيكي (رادولفو سانشيز فازكويز)، وتتلخص فكرة الوصاية الجديدة بالعبارة الآتية التي يوردها (روبرت دال): ((تحتل الطبقة العاملة موقفاً تاريخيا فريداً، وان تحررها يعني بالضرورة إطلالة مجتمع لا طبقي... حيث يتم امتلاك وسائل الإنتاج والسيطرة عليها من قبل المجتمع، يتحرر الجميع من عبئ الاستغلال الاقتصادي والقسر، ويتمتعون بدرجة من الحرية، وتوفر الفرص للتنمية الذاتية بشكل لم يسبق له مثيل))(8)، كما تبرز دعوة الوصاية في فكر عالم النفس الأمريكي الشهير (برهوس فردريك سكنر) في كتابيه (والدن الثاني) و (ما وراء الحرية والكرامة)، حيث يستبدل بالملك الفيلسوف عند (أفلاطون)، والحزب الطليعي عند (لينين ومناصروه)، (العالم النفساني الذي يمتلك... الدراية العلمية الضرورية والكافية من أجل تحقيق الإمكانية البشرية، ما أن تكتشف مجموعة بشرية معينة فوائد حكم مثل هذا الوصي فإنها سرعان ما تلجأ إلى نبذ جهودها الحمقاء غير المجدية والمفسدة للنفس التي تهدف إلى تحقيق حكم ذاتها، وإلى التخلي عن وهم الديمقراطية لتقبل طائعة راضية، بل وبحماس واضح، الحكم اللطيف المستنير للملك، العالم النفساني(8).

 إن فكرة الوصاية تأخذ حيزاً كبير من الفكر السياسي، وهي إضافة إلى ما تقدم حكمت رؤية الكنيسة الكاثوليكية، وملوك أوربا في ظل نظرية الحق الإلهي، وكانت لدى هتلر بإسم (الصفوة النازية) ولدى رواد القومية العربية بإسم القائد ألتأريخي أو القائد الضرورة. وعلى الرغم من طرح الديمقراطية منذ أكثر من 2500 عام، فإن (جلين تيندر) يرى بأن فلاسفة الإغريق لم يبدو ارتياحا لحكم الشعب، بسبب اعتقادهم بعدم أهليته وفوضويته، ولم يتم التركيز على فكرة الحكم الشعبي إلا في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين، ويعد (روسو) الشخصية الفذة في طرحها، فبالنسبة إليه ((فإننا نحرم من بشريتنا باضطرارنا إلى العيش تحت حكم ليس لنا دور فيه، واضمحلال البشرية سوف يحدث حتى لو كانت الحكومة خيرة وحكيمة، غير إنه إذا استبعد عدد كبير من الناس عن المشاركة، فان الحكومة سوف تكون بالتأكيد تقريباً أنانية ومستبدة، والحكومة بواسطة الشعب هي وحدها التي يمكن أن تكون حكومة مكرسة حقاً وبصورة ثابتة للصالح العام))(9)، لقد دفع الانقسام بين لاوعي الكثرة، وأنانية القلة بعض كبار الفلاسفة إلى محاولة التوفيق بين الاثنين، كما فعل (أرسطو) الذي أراد منح السلطة لحكومة مختلطة تجمع الشعب والطبقة الأرستقراطية(10)، لكن يبقى للوصاية (حكم القلة) رصيدها الفكري الهائل ومناصروها الكثر.

المحور الثالث

الأوصياء الجدد

 بعد أن اتضحت بعض الرؤى المطروحة والمبررة لحكم الوصاية في المحور السابق،فأن التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية التي حصلت في الدول الديمقراطية الغربية أفرزت شكلا جديدا من الأوصياء قد لا يطرحون أنفسهم بصورة الملك الفيلسوف، أو الملك العالم النفساني، أو الحزب الطليعي...لكنهم أشد وطئا وأعظم خطرا، فإذا كانت بلدان العالم النامي (عالم الجنوب) لازالت يعيش اغلبها في ظل وصاية تقليدية: دينية، عسكرية، قبلية، جغرافية... فأن البلدان الغربية ظهر فيها شكل جديد من الوصاية مثلته نخب سياسية، واقتصادية، وعسكرية تحالفت مع بعضها، وترابطت مصالحها، فشكلت قوى مؤثرة تتحكم بصانع القرار، وتوجه قراراته وسياساته الداخلية والخارجية الوجهة التي تخدم مصالحها، كما هو الحال بالمجمع الصناعي ـ المالي ـ السياسي ـ العسكري الذي أشار إليه الرئيس الأمريكي (ايزنهاور) في خطاب توديع البيت الأبيض في الخمسينات من القرن العشرين.

 أن ظهور هذه النخب جاء نتيجة طبيعية للتطور الذي وصلت إليه الرأسمالية، لذا فأن مرجعيتها الرأسمالية هي التي تحدد منظومة قيمها التي تؤمن بها وتقاتل من اجل تحقيقها، ((والرأسمالية فضلا عن حرمانها الكثير من البشر من القدرة على توفير احتياجاتهم الاقتصادية فأنها تتركهم أيضا اقل قدرة على ممارسة حقوقهم السياسية، فهي تقاوم الائتلاف والتضامن، بل هي تشجع الأنانية وتعتمد على المراكز الفردية التنافسية فيما بينها،ويفترض أن يكون السلوك الأناني لجميع عوامل الاقتصاد وهيمنة المصالح التجارية أفضل بالنسبة للجميع، فهي تقاوم ما يعرف بعملية السلطة أو تمركزها، والشعور بالهوية القومية،وتشجع الأقليات العرقية ودورها في السياسة والاقتصاد... وتنظر إلى القرارات الجماعية للغالبية الفقيرة من الناس على أنها أعباء لا يمكن تحملها))(11).

 إن بروز هذه النخب المشبعة بالقيم الرأسمالية يهدد بالخطر مستقبل الديمقراطية، إذ على الرغم من بقاء هيكل النظام السياسي ديمقراطيا، فأن المحتوى استبدادي ودكتاتوري، وهذا ما اكتشفه(عبد الحي يحيى زلوم)عند تحليله للديمقراطية في الولايات المتحدة، إذ وجد إن هذه الديمقراطية ((...أصبحت عبارة عن عملية ميكانيكية تم إفراغها من كل مضمون، ولم يبق منها سليما سوى مظاهرها الميكانيكية مثل إجراء الانتخابات على صعيد البلدة أو الولاية أو الأمة، على إن هذه الانتخابات باتت محكومة بألعاب... مبتكرة وحيل بارعة أفقدت الانتخابات مضامينها والنوايا المعقودة عليها، وسيطر المال وما يستطيع شراؤه على العملية، فانحسرت وأصبحت في نهايتها صوت واحد لكل دولار وليس صوت واحد لكل مواطن، وأصبح على معظم المرشحين أن ينحازوا ويصبحوا جزءا من الممسكين بالسلطة الحقيقية في البلاد (النخب) حتى ولو أنهم هم الأقلية...)) (12)

 إن تحكم الأوصياء الجدد بوسائل الإعلام جعلهم يمارسون تسطيحاً في وعي الشعب وتلاعباً بعواطفه وتوجيهاً لرأيه العام الوجهة التي يرغبونها في الوقت الذي يظن الشعب إن الخيار خياره والقرار قراره والأمر خلاف ذلك، ولا يمكن تجاهل دور وسائل الإعلام في هذا المجال، فهذا (ليستر ثرو) في كتابه (مستقبل الرأسمالية) يقول: ((تصبح وسائل الإعلام ديناً علمانياً وتحل أساساً محل التأريخ المشترك والثقافات الوطنية والأديان الحقيقية والعوائل و الأصدقاء بعدّها القوة المهيمنة التي تكون تصوراتنا العقلية للواقع)) (13).

 بالنسبة للأوصياء الجدد لم تعد الديمقراطية هي النظام الأصلح بل إن ما يعظم أرباحهم ويحقق مصالحهم في السيطرة والنفوذ هو الذي يخص بالثناء والتقدير، وما عداه يمكن الاستغناء عنه ولو كانت فيه مصلحة الأغلبية، وهذا الواقع الذي تحياه الدول الديمقراطية في عصر الثورة الصناعية الثالثة، هو الذي دفع (ثرو) إلى أن يصرخ بالقول: ((إن عصر الحوار السياسي يشارف على الانتهاء، إذ دخل عصر يتميز بأولئك الذي بإمكانهم تعبئة مؤيدي مصالحهم الخاصة بشكل فعال، لقد أخذ فيتو الأقلية يحل محل صوت الأغلبية))(14).

إذن يحتاج البشر في الوقت الذي تثير إعجابهم الديمقراطيات الغربية إلى إدراك النفق الذي دخلته هذه الديمقراطيات وان تبدأ مرحلة جديدة في الفكر السياسي الديمقراطي تطرح خلالها رؤى وأفكار جديدة لتكييف عصر المعلوماتية لمصلحة الأكثرية بدلا من مصلحة القلة الجديدة، وإلا فالأمل في تحقيق المنهج الديمقراطي في الحياة لن يكون إلا سرابا بعيد المنال.

 خلاصة

 على الرغم من النقد الذي يمكن توجيهه إلى الرؤى والأفكار التي ناصرت حكم القلة (الوصاية)، فأنه يمكن الاستفادة من الأسس التي بنت عليها هذه الرؤى والأفكار حججها في تأكيدها على بناء نظام الحكم الديمقراطي، ومن هذه الحجج كما يراها (روبرت دال) هو تأكيدها على ((المعرفة والفضيلة باعتبارهما سمتين جوهريتين من سمات ممارسة الحكم في نظام فاضل))(13).

 إذ باستثناء الأوصياء الجدد الذين رائدهم المصلحة والربح، فان الدعوة إلى وصاية الملك الفيلسوف والملك العالم النفساني أو الحزب الطليعي... كانت تتم بما يتميز به هؤلاء من معرفة ومهارة في الإدارة، وفضيلة (أخلاق تعصمهم من مجانبة العدالة)، وعليه فهذه القيم هي قيم أصيلة وضرورية لأي فئة حاكمة سواء أكانت أقلية أو أكثرية، وعلى دعاة الحكم الديمقراطي أن يؤسسوا هذا الحكم عليها، فنظام حكم ديمقراطي غير كامل، كما يقول (دال): ((يعتبر بمثابة بلية تقع على الشعب الذي يعنيه الأمر (كما إن نظام حكم سلطوي غير كامل يعد).. كارثة بغيضة..))(14).

 إن أرجحيه الديمقراطية على حكم الوصاية تتمثل في إن الديمقراطية ((...بإمكانها طرح الأمل الذي تعجز الوصاية عن طرحه دائماً، وهو أنه من خلال إشراك أفراد الشعب في عملية حكم ذاتها، والارتفاع عن جعل الممارسة وقفاً على القلة القليلة منهم، فأنهم جميعاً لا مجرد أفراد معدودين منهم قد يتعلمون كيفية التصرف باعتبارهم أُناساً مسؤولين أخلاقياً))(15).

 أخيراً يمكن القول إن الوصاية لا تحكم إلا الشعوب القاصرة، وان رفضها لا يتم بالجدل العقيم، بل بعدم تهيئة أو استمرار الظروف التي تجعل الشعوب عاجزة عن حكم نفسها، فتتيح لقلة منها الحديث عن أفضليتها وأرجحيتها عليها، كما إن على أنصار الوصاية عدم التركيز على طرف واحد من المعادلة وهو معرفة وفضيلة الأقلية وفوضى وجهل الأكثرية، فالسعي لبناء نظام حكم يحقق فضيلة ومعرفة تشمل أفراد الشعب جميعهم أفضل بكثير من أن تكون هذه القيم محتكرة من قلة معدودة، وهذه الحقيقة يمكن أن تكون الإجابة عن السؤال المطروح آنفاً، وهو من يجب أن يحكم ؟ إن الشعوب هي التي يجب أن تحكم وإنها يجب أن تمتلك كامل إرادتها في تقرير نظام الحكم الذي يحقق مصالحها، وان القلة مهما امتلكت من فضائل لن تكون بديلاً مناسباً للشعوب التي تحكمها.

* المعاون العلمي في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية

http://fcdrs.com

.................................................

الهوامش

1- روبرت دال. الديمقراطية ونقادها. ترجمة نمير عباس مظفر. الأردن، دار الفارس للنشر والتوزيع، 1995. ص93.

2- لسان العرب لإبن منظور. ج15. ط1. بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1988. ص ص320 – 322.

3- المنجد في اللغة العربية المعاصرة. ط1. بيروت، دار المشرق، 2000. ص ص1534-1535.

4- موسوعة السياسة. ج7. ط1. بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1994. ص292.

5- جلين تيندر. الفكر السياسي: الأسئلة الأبدية. ط1. ترجمة محمد مصطفى غنيم. القاهرة، الجمعية المصرية لنشر المعرفة والثقافة العالمية، 1993. ص ص142 – 143.

6- المصدر نفسه. ص143.

7- روبرت دال. المصدر السابق. ص95.

8- المصدر نفسه. ص ص96 – 97.

9- المصدر نفسه. ص98.

10- راجع: جلين تيندر. المصدر السابق. ص146.

11- دـمبروك المنصوري.طبيعة النظام الرأسمالي تتناقض والمشروع الحضاري القومي. مجلة الحكمة.العدد21. بغداد،2001.ص25.

12- عبد الحي يحيى زلوم. نذر العولمة.بيروت،المؤسسة العربية للدراسات والنشر،1999.ص315.

13- ليستر ثرو. مستقبل الرأسمالية. ترجمة فالح عبد القادر حلمي. بغداد، بيت الحكمة، 2000. ص198.

14- المصدر نفسه. ص576.

15- روبرت دال. المصدر السابق. ص138.

16- المصدر نفسه. ص140.

17- المصدر نفسه. نفس الصفحة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 31/أيار/2010 - 15/جمادى الآخرة/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م