في حقيقة الأمة ومقوماتها

الشيخ فاضل الصفّار

البحث في حقيقة الامة ومقوماتها يمكن أن يقع من جهتين:

الجهة الأولى:النظريات القانونية الوضعية.

الجهة الثانية:النظرية الإسلامية.

أما في النظريات القانونية فتعد الامة من المسلمات في كل دولة؛ إذ أن الشعب الذي هو الأمة او جزؤها الأهم على ما عبروا يشكل العنصر الطبيعي لوجود الدولة، ولا يمكن تصور دولة بدون الجماعات البشرية، أي مجموعة من الأفراد والعائلات والقبائل وما أشبه ذلك. وفي الشريعة عبّر عن ذلك بالأمة، فإنه لولا الشعب بحسب النظريات الوضعية أو الأمة بحسب النظرية الإسلامية لكانت الدولة منتفية لكونها سالبة بانتفاء الموضوع، كما أنه لا يمكن لفرد أو مجموعة معزولة تكوين دولة، كذلك ليس هناك حد أدنى من الأفراد ضروري لقيام الدولة، فشعب الدولة يختلف بين دولة وأخرى غير أن الفارق العددي لا يؤثر على وصف الدولة من الناحية القانونية أو الشرعية، فالصين مثلاً والهند وروسيا والولايات المتحدة والفاتيكان وغيرها هي دول متساوية من الناحية النظرية أمام القانون، غير أن كثرة عدد السكان قد يؤثر في قوة الدولة وموقعها التأثيري في السياسة الخارجية على الشعوب والدول.

فالشعب هو مجموع الجماعات المقيمة على أرض معينة ترتبط فيما بينها بفعل عوامل تعود للماضي، وتتصل بالحاضر والمستقبل، تصهر الشعب في بوتقة واحدة لتخلق منه كياناً خاصاً متميزاً عن باقي المجتمعات البدائية، ومن هذه العوامل العادات والأخلاق والدين واللغة والثقافة والجنس ووحدة الأهداف والشعور التي تكنه الجماعات للرؤساء والتاريخ المشترك وغير ذلك، فإن هذه العوامل وغيرها التي توثق الصلات بين أفراد المجتمع، وتشد بينهم الروابط، وتقوي من وحدتهم، وتزيد من تضامنهم وتآلفهم هذا المجموع يؤدي إلى نشأة الأمة ويقومها.

فالأمة هذه تتطور إلى أن تصل مرحلة القومية بفعل تضامن جهود الجماعات البشرية وتضافرها من أجل حماية سيادتها واستقلالها وحماية مصالحها، فتتميز بذلك الأمة القومية عن باقي المجتمعات البدائية، وتوحد الجماعات المقيمة على إقليم معين وتنظمها قانونياً بخضوعها لسلطة دائمة تتجسد بالدولة، فالدولة إذاً قوامها الأمة، والذي يشكل الأمة مجموعة عناصر، وقد اختلفت المذاهب والنظريات الوضعية في تحديد هذه العناصر، وقد تمحورت حول ثلاث نظريات:

الأولى:النظرية الموضوعية، وتتمثل بالفكرة الألمانية المرتكزة على عدة عوامل أهمها وحدة الأصل، أي السلالة واللغة والدين والتقاليد.

الثانية:النظرية الشخصية، وترسّخت أكثر في الفكر الفرنسي، وقوامها أن الأمة تجد أسسها في الحس التضامني الذي يوحد إرادة الأفراد على العيش معاً، فالأمة بحسب هذه النظرية تستند على الماضي البطولي والتجارب المشتركة، وعلى التضامن الكبير والتضحيات التي بُذلت والتي ستبذل في المستقبل. هذه الذكريات والتعاطف المتبادل بين أعضاء الأمة ووحدة المشاعر تقوي الشعور القومي بين الأفراد، وتحثّهم على الاتحاد فيما بينهم تحت حكم واحد ودولة قوية.

الثالثة:النظرية المادية أو العضوية، وتستند على النواحي الاجتماعية والاقتصادية حسب النظرية الماركسية؛ إذ يزعم أصحاب هذه النظرية بأن الرابطة الاقتصادية هي أساس الرابطة الاجتماعية، والقوة الموجهة، بل والمحركة لرابطة الاجتماع السياسي.

وعليه فإن وحدة المصالح الاقتصادية هي التي تقرر العلاقات جميعها بين الأفراد، وتصهرهم في نظام اجتماعي موحد، فالتفاعل الحاصل بين الإنسان ومحيطه بدافع الحاجة المادية وتأمين حياة أفضل هو الحافز لوحدة الجماعات البشرية، وعليه تجعل العقيدة الشيوعية من وحدة المصالح الاقتصادية العنصر الأول في تكوين الأمة، ومما لا ريب فيه أن العوامل الاقتصادية تؤثر على حياة الأفراد وعلى مجرى الأحداث التاريخية، إلا أنه من الخطأ اعتبارها العامل الأساسي الوحيد في تكوين الأمة؛ إذ المصالح الاقتصادية بدلاً من أن تكون عامل توحيد بين الجماعات البشرية قد تصبح عامل تفرقة عندما تتشعب مصالح الجماعات وتتباين كما هو الملحوظ في الصراع الدائم بين القوى المختلفة قديماً وحديثاً بين الدول والشعوب والقبائل وما أشبه ذلك.

فالروابط الاجتماعية لا تقتصر فقط على المصالح الاقتصادية، بل تتعداها إلى العوامل الفكرية والثقافية والعاطفية والتاريخية التي تشد أواصر التعاون بين الأفراد وتزيد التلاحم القومي، والظاهر أن مجموع النظريات المزبورة كل منها قد نظر إلى جهة من جهة الحاجة البشرية والضرورة الاجتماعية؛ ولذلك لم تخرج هذه النظريات متكاملة في تكوين الأمة للأساس الذي تقوم عليه الدولة كما سنرى من خلال التفاصيل.

فإن اللغة التي اعتمدت عليها النظرية الموضوعية أو الجنس أو الثقافة وما أشبه ذلك وإن كان لها بعض المدخلية في تكوين الأمة أو تنشئة الضمير القومي وتطوره في الأمم إلا أنها ليس العامل الوحيد؛ بداهة وجود أمم عديدة لا زالت قائمة على الأرض تتعدد لغاتها وأقوامها وتواريخها، كما هو الحال بالنسبة لبلجيكا وكندا والولايات المتحدة. مثلاً في سويسرا توجد أربع لغات هي:الألمانية والفرنسية والإيطالية والرومانشية، وفي بلجيكا توجد لغتان:الفرنسية والفلامندية. وعليه فان هذه العوامل وحدها ليست سببا حقيقيا وكاملا لتنشئة الأمة، وإن العوامل المادية لم تكن من الأسس الأصيلة في تكوين الأمم. نعم هي تعتبر من العوامل المساعدة والمسهلة لقيامها، وهذا يجري في النظرية الموضوعية والنظرية الشخصية أيضاً.

وأما في النظرية الاسلامية فتقوم الأمة على جملة من العوامل الأساسية، وقد تعرضت الآيات والروايات إلى ذلك ببعض من التفصيل؛ إذ بدأ تأسيس الأمة الإسلامية منذ لحظة نزول الوحي على نبينا الكريم J، فمنذ ذلك الوقت إلى عقدين من الزمن بعده والقرآن الكريم يتعهد نشوء ونمو الأمة حتى أخرجها للوجود، وجعلها خير أمة أخرجت للناس؛ إذ الاعتقاد بالخالق الواحد القادر الفرد الصمد هو المعيار الذي جعل المسلم يشعر بأنه مميز عن غيره، وجعل جميع المسلمين في صف واحد منفصل عن الصف الجاهلي، وكأن القرآن يقسّم البشرية إلى قسمين: قسم يؤمن بالله واليوم الآخر، وقسم لا يؤمن بذلك، وهذا الشعور بالذات هو الوعي الداخلي الذي أوجد المجموعة الأولى للأمة.

 فقد تلاحقت الآيات لتبنّي الأمة لبنة لبنة. يقول سبحانه وتعالى:{لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون}[1].

حيث ألغت الآية الشريفة أواصر القرابة والجنس والقومية واللغة ونحوها من أواصر لصالح الإيمان والاعتقاد، حتى إذا تعارضت القيمتان قدم القرآن قيمة الدين عليها، وجعلها أساساً للتضامن والتلاحم والتوحّد، حيث يقول سبحانه:{والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون بالمنكر}[2] بغض النظر عن كون المؤمنين أصحاب لغة واحدة أو قومية واحدة وما أشبه ذلك.

وعلى هذا الأساس أرسى القرآن أقوى أواصر العلاقة على أساس الأخوة الصادقة، وعلى قاعدة التعاون المتبادل، وأشاع بين أفراد المجتمع أجواءً صالحة لنمو الكيان الاجتماعي الموحد باعتبار أن الدين يحقق تلاحم الأمة من جهات:

الأولى: وحدة الفكر.

الثانية: وحدة العمل والمواقف.

الثالثة: وحدة الشعور والانتماء.

وهذه في مجموعها تكون الوحدة الحقيقية والتماسك الوجداني بين الناس في الفكر والروح والعمل التي هي مقومات فاعلية الإنسان ومصادر حاجاته وضروراته، ولعل من هنا ورد تعريف الأمة في كلمات الفقهاء بما يجمع الهدف المشترك والاعتقاد الواحد، كما جعل القرآن الكريم الكفر ملة واحدة[3] مع أنه متعدد القوميات والأجناس واللغات، كما أن القرآن الكريم جعل الناس أمة واحدة، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين فاختلفوا[4]، مما يكشف على أن الاتحاد في عقيدة واحدة والتوافق في الدين الواحد هو الذي يجمع الأمة.

فالدين هو العنصر الحقيقي في تكوين الأمة، ومن بعده تأتي باقي العناصر المشتركة الأخرى، باعتبار أن أهم عنصر يحرك الإنسان ويدفعه هوالفكر والعقيدة، فإذا كانت العقيدة واحدة كان السبب الأقوى في منشأ الأمة وفي توحيدها وتماسكها، وبذلك يظهر أن ما ذكره الإمام الشيرازي رضوان الله عليه في الفقه السياسة من تعريفه للأمة بأنها الجماعة التي ربطت أنفسها بعضاً ببعض بمصير واحد، فلهم علائق متبادلة، سواء كانت لهم لغة واحدة أو عدة لغات، أو دين واحد أو عدة أديان[5]. أريد منها الأمة بالمعنى الأعم وليس الأمة بمعناها الأخص الوارد في تعبيرات القرآن.

كما أن ما عّرفه السيد الطباطبائي قدس سره في تفسيره من أن الأمة جماعة يجمعها مقصد واحد[6] مبهم أو أعم؛ لأنه إن أراد من المقصد الواحد الدين كان ما ذكرناه، وإن أراد منه الهدف أو اللغة أو القوم فيرد عليه ماتقدم.

وكيف كان فهنا أمور:

الأمر الأول: في خصائص الأمة الإسلامية

 فإن الأمة التي انبعثت من إرشاد القرآن الكريم والتي تكاملت بقوة القرآن أخذت منه سماتها وخصائصها، ومن هذه السمات بنحو الإيجاز ما يلي:

الأولى:أنها أمة المسؤولية، فتحملها للمسؤولية جعلها خير أمة أخرجت للناس، وذلك يتجسد في أنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، بخلاف الأمم الأخرى التي لم تتحمل مسؤولية الهداية والإصلاح والدعوة إلى السلام في الأرض، وهذه سمة لم تتميز بها الأمم الأخرى والرسالات الأخرى، وإنما هي من خصوصيات الأمة الإسلامية. يقول تبارك وتعالى:{كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله}[7] إذ جعل الباري عز وجل الإيمان بالله عز وجل والدعوة للمعروف والنهي عن المنكر من خصوصيات خيرية هذه الأمة وأفضليتها على الأمم، وقد تحملت هذه الأمة تلك المسؤولية منذ أن كانت بذرة صغيرة وحتى أصبحت أمة كبيرة، وكان من ثمار هذا التحمل تلك الحركة المتواصلة الدؤوبة التي لم تنقطع في سبيل التوحيد والعدل والحرية والاستقامة.

الثانية:الوسطية، فإن الأمة الإسلامية أمة وسط وشاهدة على الأمم الأخرى كما عرفته مما تقدم، فقد كان موقعها بين الإفراط والتفريط، وقد جعلها تسير بخط تؤدي إلى تحقيق العدل، وجعلها قادرة على رؤية الحقائق، فأصبحت مؤهلة لتكون شاهدة على الناس التي بعدت بهذه الوسطية، ونأت عن الإفراط في الاعتقاد، أو الإفراط في التفكير أو في العمل كما هو الملحوظ في الأمم اليهودية والنصرانية وغيرها.

الثالثة:الرسالية، فالأنبياء (عليهم السلام) الذين جاؤوا قبل بعثة الرسول الأعظم J جاؤوا بنفس هذه الأهداف التي صدع بها نبي الإسلام، وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وهي القاعدة الرصينة التي قامت على أساسها الأمة الإسلامية، فأصبحت هذه الأمة متصلة بالأمم التي سبقتها بتاريخ مشترك من جهاد الرسل والأنبياء (عليهم السلام) ومنطلقة من قاعدة التوحيد، ولعل من هنا جاءت تسمية القرآن لتلك الأمم:{هو سماكم المسلمين من قبل}[8].

وعليه فإن من سمات هذه الأمة هي الاعتراف بالآخرين والتصديق بدعوات الأنبياء (عليهم السلام) والإيمان برسالاتهم، وهذه سمة لم تتجل كثيرا في سائر الرسالات والأديان السماوية ما عدا رسالة الإسلام.

الرابعة: أنها أمة متوحدة، فالأمة الإسلامية أمة واحدة تربط بين أبنائها آصرة الأخوة الإسلامية كما قال سبحانه وتعالى:{إنما المؤمنون أخوة}[9] فالأمة بجميع أبنائها جسد واحد، والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، والعقيدة هي جامع مشترك لجميع أفراد هذه الأمة، كما وأن جميع أفراد الأمة يشتركون في عبادة واحدة، ويؤدون شعائر مشتركة، والأفضل أن يؤدواالصلاة بصورة الجماعة، كما أنهم يجتمعون كل عام في مكان واحد على صعيد عرفات ليشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم الله تبارك وتعالى، ويتداولوا شؤونهم، كما وأنها تشترك في لغة واحدة هي لغة القرآن الذي يتلونه في الصلاة وفي الدعاء، مع احترامها اللغات الاخرى؛ اذ اللغة العربية هي اللغة الرئيسية للتفاهم بين أبناء الأمة، ولكل قوم الحق في أن يبقى محتفظاً بلغته، وهم أحرار في طريقة التفاهم بأي لغة شاءوا.

ونتيجة لهذه العوامل أصبحت الأمة متوحدة، وهو ما جعلها متكتلة أمام أعدائها، وجعل القرآن الكريم الناس صنفين: صنف يؤمن بالله واليوم الآخر، وصنف لا يؤمن بذلك، كما أنه جعل الكفر على تعدد مذاهبه ولغاته ملة واحدة. وعليه فإن الذين يحملون الخصوصيات الإسلامية هم الذين نصت عليهم الآية الشريفة في قوله سبحانه وتعالى:{إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض}[10].

ولهذا فإن أساس تكوين الأمة هو ولاية المؤمن لأخيه المؤمن الذي يستوجب الحب والنصرة، وليس بمقدور أي قوة أن توجد هذه الرابطة المتينة إلا قوة مستمدة من العقيدة، وعليه إن الإسلام هو الرابط والمعيار للقومية او الجنسية على حسب الاصطلاح، وهذه الرابطة تستمد من الرسالة وليس من الأرض، وبناء على ذلك أصبحت الأمة الإسلامية أمة على أساس من الفكر، فجنسيتها الإسلام، وهو الذي يصنع لها حدوداً وحواجز فكرية وسياسية وعسكرية بين دار الإسلام ودار الحرب ودار العهد على تفصيل سنتعرض إليه إن شاء الله.

الأمر الثاني: في الفرق بين الأمة والناس

الظاهر أن الناس أعم من الأمة؛ لأن الأمة لا تطلق إلا على مجموعة ربطت مصالحها ووحدها الدين كما عرفت، وتمكن أن يتفاعل بعضها في بعض بنوع من التفاعل، وجعل العلائق بينها. نعم ورد في الاصطلاحات إطلاقان للأمة باعتبارين:

الأول:الإطلاق المرتبط بالحدود الجغرافية، فيقال: الأمة العربية أوالأمة التركية أوالهندية مثلاً، وهذا ما جاء في تعاريفها في علم السياسة، حيث عرفت: بأنها جماعة سياسية مستقلة، ذات إقليم محدد، يشترك أعضاؤها في الولاء لمؤسسة واحدة، مما يؤدي الى إحساسهم بالوحدة، وبأنهم يكونون مجتمعاً[11].

ويلزم لقيام الأمة أن تكون ذات أصل مشترك أو لغة واحدة أو دين أو عنصر واحد وإن كانت الأمم تتكون عادة من التاريخ المشترك ووجود عناصر ثقافية أخرى متشابهة، ومن الواضح أن التاريخ المشترك والعناصر الثقافية الأخرى المتشابهة تجتمع فيما إذا ارتبط الناس بالحدود الجغرافية المشتركة أيضاً.

الثاني:الإطلاق المرتبط بالحدود الدينية، فيقال: الأمة الإسلامية في قبال الأمة المسيحية مثلاً، ومن الواضح أن الأمة بأي من الاعتبارين يلاحظ فيها وحدة خاصة، ويكون بينهما عموم من وجه، فالأمة الهندية قد تشمل الأمة الإسلامية وغيرها، والأمة الإسلامية قد تشمل الأمة الهندية وغيرها. أما بين الناس والأمة فالنسبة المنطقية هي العموم المطلق.

إذاً الناس أوسع من الأمة، نعم قد يتحدان مفهوماً بسبب الإضافة، فيقال: الأمة العربية والناس العرب، وحيث إن الغالب صياغة كل شيء من فلسفة نظرية خاصة اختلفت الاصطلاحات في الأمة، ومن هذا نشأ الاختلاف في التعبير، مثلاً الاجتماع والاقتصاد والسياسة قد تصاغ من فلسفة الدين، وقد تصاغ من فلسفة القومية، وقد تصاغ من فلسفة الجغرافيا، فإن المفكرين يجعلون فلسفة لأنفسهم، ويجعلون هذه الفلسفة هي المعيار في التعاريف وفي الاصطلاح، ويرجعون كل الأنظمة إلى تلك الفلسفة، فالمتدين مثلاً يلاحظ في المسائل الاقتصادية الحلال والحرام، بينما القومي يلاحظ القومية، ومن ينطلق من الفلسفة الجغرافية يلاحظ ما ينفع الذين يعيشون في هذه القطعة الخاصة من الأرض، كالوطن أو الإقليم وما أشبه.

وأما من وضع فلسفته على اللون كما في أفريقيا وأمريكا مثلاً فإنه ينطلق من فلسفة وجوب هذا اللون دون ذاك، وهذا ما قامت عليه النظريات العرقية، فيضع اقتصاده مثلاً على طبق تلك الفلسفة؛ ولذا تجد أفكاراً اقتصادية متعددة في مكان واحد، فالمسلم في العراق مثلاً ينطلق من الاقتصاد الإسلامي، بينما القومي ينطلق من اقتصاد الأمة العربية، وهكذا الملاحظ للحدود الجغرافية الخاصة ينطلق من الاقتصاد العراقي مثلاً، وما أشبه.

وحيث إن الغالب اختلاف صياغة المسائل من فلسفات خاصة كما عرفت كان اصطلاح الأمة أيضاً مما تأثر بهذه الصياغات، فقد يلاحظ في الأمة الدين، فيقال: الأمة الإسلامية من دون النظر إلى اللغة والحدود الأرضية، وقد يلاحظ فيها اللغة فيقال: الأمة العربية من دون النظر إلى الدين والحدود الأرضية، وقد يلاحظ فيها الأرض فيقال: الأمة المصرية مثلاً من دون النظر إلى الدين واللغة، وقد ظهر مما تقدم أن الإطلاقات المختلفة ليس مجرد اصطلاحات، وإنما تترتب عليهاالأبنية الفوقية التي تبنى على هذه الفلسفات التي انطلقت منها الصياغات المتعددة، ومنها تتحدد سياسات الدول، ويتحدد مناهجها أيضاً، وكثيراً ما يقع الغلط والمغالطة لعدم الإلمام بمثل هذه المنطلقات والأسس الفكرية، الامر الذي ربما أوقع البعض في شبهة فقدان المعيار في الحكم على الأشياء.

الأمر الثالث: مقومات أخرى للأمة الإسلامية

عرفنا مما تقدم أن الإسلام بنى أمته على العقيدة بالتوحيد، فإن الأرض وما فيها كلها لله تعالى، والناس عباد الله عز وجل، والتشريع بيد الله عز وجل، والحساب والجزاء على الله عز وجل، حيث يجازي المحسن بالإحسان وأما المسيء فإن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه لدخوله تحت كبرى الحكمة والمصلحة.

 ومن هذا المنطلق بني الإسلام على الصلاة والصوم والحج والزكاة والولاية كما في متضافر الأخبار[12]، فالصلاة لدوام الارتباط مع الله، والصوم للسيطرة على النفس وكبح جماحها ــ ومن الواضح أن النفس مبعث الخيرات والشرور، فإن جوهر النفس إذا صلح صلحت النفس والبدن والمحيط الاجتماعي والمحيط الطبيعي ــ والحج لاجتماع المسلمين حتى يحلوا مشاكلهم ويتشاوروا فيما يقدمهم ويهيئوا الأسباب لإنقاذ المستضعفين ولإعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى، والزكاة مال لا بد منه للنظام وإقامة المجتمع السليم، والولاية بشقيها بمعنى قيادة الأصلح، فإن القيادة إذا كانت صالحة رشيدة صلحت الأمة، وإذا لم تكن كذلك وقعت الأمة في مهاوي الضلال والانحطاط، والمراد بشقيها القيادة المعصومة عليها السلام وغير المعصومة، والمقصود بغير المعصوم من توفرت فيه المواصفات الشرعية ورضاية أكثرية الأمة على ما سنعرفه فيما سيأتي من مباحث إن شاء الله تعالى. والمتبادر من الولاية وإن كان هو تولي مولانا أميرالمؤمنين(عليه السلام) وأبنائه الطاهرين من الأئمة المعصومين (عليهم السلام) وطاعتهم والاقتداء بهم (عليهم السلام) إلا أن الظاهر أن ذلك من باب أجلى المصاديق وأظهرها، وإلا فإن الحكومة إذا كانت بيد الفقهاء جامعي الشرائط فهي أيضاً تكون مصداقاً لذلك في بعض مراتبها؛ إذ هي القيادة الصالحة في زمان الغيبة التي بها تتوحد الأمة، وتحقق الأغراض الشرعية، وبذلك ظهر كيف تكونت الأمة الإسلامية التي نحن بصددها.

فالأمة هي كل من يؤمن بالله الواحد ويتمسك بشريعته المنزلة على خاتم أنبيائه J وعلى هذا الأساس فالمسلمون كلهم أخوة، ولهم حقوق وواجبات متساوية إلا ما خرج لحكمة خاصة، كحقوق المرأة والرجل في بعض الأحكام، فلا فضل للغة على لغة، ولا للون على لون، ولا لقطر على قطر، ولا لعرق على عرق، ولا لمكانة اجتماعية على غيرها، فالعربي والعجمي والأبيض والأسود والعراقي والمصري وبنو تميم وبنو ساسان ورئيس الدولة وموظف البلدية والعامل والفلاح كلهم سواء أمام القانون الإلهي؛ لأن المفاضلة بالشريعة تكون بالتقوى، وهي مفاضلة عند الله عز وجل لا القانون او التشريع، فالجميع متحد الحكم بالنسبة إلى العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية والجنايات والكفاءات، فإن المسلمين سواسية كأسنان المشط، وهم أمة واحدة ويد على من سواهم.

ولا يخفى أن هناك عوامل متعدد أخرى تتجمع حتى تشكل الأمة الواحدة، أهمها المعنويات حتى عند المنكرين للمعنويات كالشيوعيين مثلاً؛ إذ لا نقصد بالمعنوية إلا المُثل التي يؤمن بها جماعة من الناس، سواء كانت تلك المثل مستمدة من العقل والبرهان الصحيح أو من الأوهام والسفسطة، فإن من أهم عوامل وحدة الأمم عامل الاستقامة الفكرية والرفاه المادي، كما أن من أهم عوامل تجزئة الأمم عامل الانحراف الفكري والجشوبة المادية.

فإن حال المجتمع حال الفرد، فكما أن الفرد يتطلب دائماً صحة الفكر ورفاهة الحياة كذلك المجتمع والأمة؛ ولذا الأمم الكبيرة التي تريد هضم الأمم الصغيرة في نفسها تسبغ عليهم أولاً نوعية ثقافتها وكيفية تفكيرها كما هو المعهود في السياسات التي تمارسها الدول الكبرى اليوم في العالم، وثانياً تعدهم بالتحرير، فإن صدقت التفت حولها الأمم الصغيرة بسرعة، وانصهروا فيها انصهاراً كاملاً، وإن كذبت كان الأمر بالعكس؛ ولذا نرى الأمم دخلت في الإسلام افواجا، حيث أن فكره مبني على المنطق والعقل، والقرآن الحكيم أشار للعقل ودعا إلى التعقل، وطلب من الناس إعمال فكرهم ورويتهم ضاربين بالتقاليد عرض الحائط، خصوصاً في مثل تقليد الآباء والأمهات وما أشبه ذلك، وفي نفس الوقت دعا إلى الحرية والرفاه وتحكيم الكفاءات، فقال سبحانه وتعالى:{ويضع عنهم اصرهم والاغلال التي كانت عليهم}[13] وجعلها من أهم أوصاف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال تبارك وتعالى:{قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق}[14] وقال تبارك وتعالى:{إن أكرمكم عند الله أتقاكم}[15].

وقد كان سبب تحطم العالم المسيحي هو عكس ذلك تماماً، فتعقد الفكر المسيحي المحرف الذي يبتدئ بكون الواحد ثلاثة وبكون الثلاثة واحداً وضغط الكنيسة على أنواع الحرية والرفاه والكفاية كان سبب تحطمه السريع، كما كان هو السبب في تحطم الاتحاد السوفيتي وفردوس الأرض الموعودة من قبل الشيوعية كما يزعمون؛ لانهما ابتنيا في العقيدة على مصادمة العلم والعقل بقولهم بصحة التناقض وباللاآت الخمسة، أي لا دين لا أخلاق لا عائلة لا حرية لا ملكية، ثم تطبيق هذه العقيدة بالعنف والقهر والاستبداد والدماء بما لا يدع مجالاً لأبسط أنواع الرفاه والحرية والكفاءات، وغير ذلك من أسباب مارستها الشيوعية، ويكفينا عن بيانها تحطم الاتحاد السوفيتي وفشل التجربة المثالية المدعاة في جنة الأرض وفردوسها.

الأمر الرابع: في الحدود الجغرافية للأمة

 الظاهر امكان تجرد الأمة الواحدة عن المكان الواحد؛ وذلك لعوامل سببت تشتت الأمة الواحدة، سواء كانت تلك العوامل نابعة من داخل الأمة أو من خارجها، كما في اليهود الذين عاشوا زهاء أربعين قرناً بلا مملكة واحدة، وقد كان ذلك نابعاً من داخل أنفسهم، حيث إنهم انتهازيون، فلا يتمكن أن يعيش بعضهم مع بعض في مكان واحد؛ إذ من طبيعة الانتهازي المستغل التصادم، والتصادم يؤدي إلى الانقسام روحا وأرضا، وبسبب هذا الأمر نفسه أيضاً كانوا يعيشون بين الأمم متقوقعين، وكلما ظهر استغلالهم لتلك الأمم التي عاشوا بينها أخرجهم أهل البلاد، كما أخرجوا من روسيا وبريطانيا وألمانيا وبعض البلاد الإسلامية وغيرها.

ومن هنا يرى البعض أن تجمعهم الحالي في فلسطين المغتصبة امر لا يدوم، وقد ظهر الآن- ولما يمر على دولتهم عقود من الزمان- آثار الانشقاق والنفاق والتخاصم بينهم، وأثّر ذلك على هجرتهم من هذه البلاد زرافات زرافات، ولولا الضبط الشديد للدولة الغاصبة لهم والترغيبات الشديدة لكانت الهجرة بأعداد أكبر، بالإضافة إلى تحالف الغرب والشرق بكل وسائلهما لبقائهم هناك؛ ليكونوا رأس رمح الاستعمار في جسم الأمة الإسلامية، لكن القسر لا يدوم كما هي حقيقة التاريخ وواقع الحياة، واليهود ما داموا متمسكين بمبادئهم تبقى طبيعتهم التجزئية، وصدق الله سبحانه حيث قال:{ضربت عليهم الذلة اين ماثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءو بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة}[16] فإذا غيرّوا مبادئهم إلى مبادئ الله خرجوا من الذلة، ومايلاحظ لهم من قوة على رغم تمسكهم بمبادئهم الباطلة فذلك ناشئ من استبداد الأنظمة الحاكمة على المسلمين، أوالهزيمة النفسية أو الانشغال بالهوامش التي تهّم الإنسان في حياته اليومية دون الاهتمام بالقضايا المصيرية، أو بسبب قلة الوعي والثقافة. هذا بناءً على أن الواو في الآية الشريفة: بحبل من الله وحبل من الناس بمعنى أو. هذا أولاً.

وثانياً: كما أنه من الممكن أن تكون للأمة الواحدة عدة أماكن جغرافية كما هو الحال بالنسبة للمسلمين الآن؛ وذلك لعوامل داخلية كقلة الوعي، أو خارجية كتشتيت القوى الكبرى الخارجية للأمة الواحدة، أو تشتيت الاستبداد والأنظمة القهرية، وقد اجتمعت هذه الأمور في الوقت الحاضر بالنسبة إلى الأمة الإسلامية الواحدة بما لا يسع المجال لتفصيله هنا.

أما السؤال هو كيف يتحد المكان الجغرافي للأمة حتى تكون أمة واحدة روحا وأرضا لتشكيل قوة ذات كيان ودولة ذات أركان؟ فمثل الأمة مثل العائلة تتشكل من خلية مصغرة، ثم تنمو وتكبر حتى إذا استقرت على أرض قامت لها قبيلة، او مجتمع يتبادل المنافع والخبرات، ويتكامل ببعضه.

فمثلا: من عادة الإنسان أن يتزاوج للشهوة وللنسل، وللتقوي بالأولاد، وللتعاون، وللدين، ولغير ذلك مما ذكره علماء الاجتماع، وتكون العائلة تنتمي بالآخرة إلى وحدات قبلية كبيرة أو صغيرة، إما ثابتة في مناخ ملائم كما هو في الأرياف والمدن المطلة على سواحل البحار مثلاً، وضفاف العيون والأنهار غالباً، وإما متغيرة وحينئذ إن دامت طول السنة سكنوا في تلك المحال في بيوت متنقلة او بسيطة، وإن كانت المقومات فصلية صاروا رحلاً للاستنفاع بالمكان المناسب، لكن كونهم رحلاً لا يدوم وربما تحولت حياتهم الى الاستقرار؛ لنمو التجارب والخبرات، وبها يمكنهم ان يذللوا الطبيعة حتى تلائم بقاءهم في المكان الواحد دائماً، حيث إن السفر بطبعه صعب فينزع الإنسان إلى الاستقرار كما هو مقتضى طبيعته الأولية، فإذا صارت هناك في رقعة فسيحة من الأرض وحدات عائلية ثم قبلية تأخذ في النمو البشري والزراعي، ثم بعد ذلك الصناعي والتجاري وما أشبه ذلك، فتنشأ المجتمعات والمدن ثم تأخذ العلائق بين تلك العوائل والقبائل في النمو والتشابك، وتنشأ بينهما الروابط المادية والمعنوية التي تشكل نواة الأمة الواحدة بتجمع القدرات الصغيرة المتجمعة في شكل وحدات عائلية أو قبلية تتبدل تدريجياً إلى قوة واحدة لها مقومات عدة تشكل الأمة الواحدة، وهذه الأمة تستدعي تكوين سلطة ودولة تنظّم شؤونها وحقوقها، وتدبر شؤونها وأمورها، ومن هنا قلنا: إن الأمة الواحدة هي الركن الأساس الذي تقوم عليها الدولة.

* فصل من كتاب فقه الدولة

وهو بحث مقارن في الدولة ونظام الحكم على ضوء الكتاب والسنة والأنظمة الوضعية

** استاذ البحث الخارج في حوزة كربلاء المقدسة

*** للاطلاع على فصول الكتاب الاخرى

http://www.annabaa.org/news/maqalat/writeres/fadelalsafar.htm

......................................................

 [1] سورة المجادلة: الآية 22 .

[2] سورة التوبة: الآية 71 .

[3] إشارة إلى قوله تعالى: والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الارض وفساد كبير سورة الانفال: الآية 73 .

[4] إشارة إلى قوله تعالى: كان الناس أمة واحدة فبعث النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه سورة البقرة: الآية 213 .

[5] الفقه كتاب السياسة: ج105 ص142 .

[6] تفسير الميزان: ج14 ص322 ذيل الآية 92 من سورة الانبياء .

[7] سورة آل عمران: الآية 110 .

[8] سورة الحج: الآية 78 .

[9] سورة الحجرات: الآية 10 .

[10] سورة الانفال: الآية 72 .

[11] انظر موسوعة السياسة: ج1 ص305 -306 امة .

[12] إشارة إلى طائفة الأخبار الدالة على أركان الإسلام ودعائمه ، منها عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: "بني الاسلام على خمس: على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية ، ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية " انظر الكافي: ج2 ص18 ح1 ، وفي صحيحة زرارة..... فقلت: وأي شيء من ذلك أفضل؟ فقال: "الولاية أفضل؛ لأنها مفتاحهن، والوالي هو الدليل عليهن " الكافي: ج2 ص18 ح5 .

[13] سورة الاعراف: الآية 157 .

[14] سورة الاعراف: الآية 32.

[15] سورة الحجرات: الآية 13 .

[16] سورة آل عمران: الآية 112.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 29/أيار/2010 - 13/جمادى الآخرة/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م